وبعدَ مَسِيرةِ أُسبوعَينِ مِنْ المَشيِ المُتَواصِلِ وَجَدَتْ ( لانْجِي ) وَمَنْ مَعَهَا أنّهُم قد اجتَازوا ( الدُّويِمْ ) وَلم يتبقى لَهُم ليَصِلُوا الخرطوم إلاّ القَليل. كَانتْ عَيْنَا ( لانْجِي ) ينطَلِقُ مِنهمَا بَرِيقٌ غَرِيب. فهي كُلّمَا نَظَرَتْ شَمَالاً شَعَرَتْ بأنّ ثَمّةَ رِيحَاً قَويّةً تشُدُّ جِسمَهَا شَدّاً، وَلكنّهَا كانتْ تُوثِقُ نفسَها إلى الأرضِ كلّما تذَكّرتْ جُثّةَ أمّها التي مَا زالتْ تُحسّ بها على ظهرِهَا. ( مَالوَال ) - أكثَرُهُم خِبرةً بالطَّرِيقِ -، أخبَرَهم بأنَّهُم لنْ يتمكَّنوا مِنْ مُوَاصَلة السيرِ عَلى أقدَامِهم. وأنّ عليهم أنْ يَجِدوا طريقةً لِيدخُلوا بِها الخرطوم غِيرَ مُرتَجِلِين. فانتَبَذَتْ ( لانْجِي ) مَكَانَاً غَيرَ قَصِيّ، بينمَا رَاَحَ الآخَرونَ يتَنَاقَشُونَ في الطريقةِ التي يُمكِنهم بها أنْ يُواصِلوا مشوارَهم. كَانتْ أصوَاتُهم تَمُرُ عَلى أُذُني ( لانْجِي ) وَكَأنَّها صَرَخَاتُ أروَاحٌ خيّرةٌ قادمةٌ مِنْ مَكَانٍ بَعيد، بينمَا تَعلّقتْ عَينَاها بنجمٍ نَاحِيةَ الشِّمَال. كَانتْ ( لانْجِي ) تهمِسُ بعينيها لـ( آنجِلِينا ) صديقتِها العزِيزةِ وَهي تَقولْ: " هَا أنَا يا ( آنجِِلِينا ) على مَشَارِفِ الخرطوم. هل تُصدقينَ ذلك؟ حَتَّى أنا أكَادُ لا أُصدقْ. ليتَكِ كُنتِ معي. تُرى أينَ أنتِ الآن؟" وتُغمضُ عينيها بِرِفقٍ وَكأنَّها تُحاولُ أنْ تُصغِيَ سَمعَهَا إلى هَفْهَفَاتِ الرِيحِ الناعِمة؛ علّها تسمعُ صوتَ ( آنجِِلِينا ) في مكانٍ مَا. وفجأة! أفاقتْ ( لانْجِي ) على صوتِ ( مَالوَال ) يُنادي عليها. لقد اتفقوا على أنْ يَتَفَرّقوا إلى ثلاثِ جَمَاعاتٍ، وأنْ تُحَاوِلَ كُلُ جَمَاعةٍ أنْ تَصَلَ الخرطوم بطريقتِها. لكنَّ ( لانْجِي ) رَفضتْ الانضمَامَ إلى أيٍّ مِنْ الجماعاتِ الثلاث. وَرَغمَ إصرارِ الجميع، وَغَضِبَ ( مَالوَال ) إلاّ أنّ ( لانْجِي ) كانتْ تَعلَمُ تماماً مَاذَا سوفَ تفعل. فانصرفتْ عنهم حتَّى غَابتْ عنْ أنظارِهم. بدأتْ ( لانْجِي ) بالبحثِ عنْ الطريقِ الإسفلتيةِ المُؤديةِ إلى الخرطوم، حتَّى وجدتهُ بعدَ عَناء. فجلستْ القرفصَاء على حافةِ الطريق. وَعندما مرّتْ حافلةٌ بالطريق، اعترضتها وتوسلّتْ إلى السائقِ بأنْ يُقِلَّها مَعَه إلى مَشَارِفِ الخرطوم. وَرَغمَ رَفَضَ السَّائِقُ، إلاّ أنَّ بعضَ الرُّكاب أقنعوهُ بأنْ يفعل، شَرِيْطَةَ أنْ تَجلِسَ على سَلالِمِ الباب، فقبِلَتْ بذلك. وما هي إلاّ ساعات وكانتْ ( لانْجِي ) في قلبِ ( السوق الشعبي – أم درمان ). ترجّلتْ ( لانْجِي ) لتجدَ أفواجاً مِنْ العابرينَ، والباعةِ المُتجولين. الكَلام – كَشَجَرةِ الموز – في كُل مَكان. وأصواتٌ أُخرَى صاخبة لم تعرِف مَاهِيتها. سَارتْ ( لانجي ) في تلك الضجّةِ حافيةً، لا يُؤلِمُها وَخزُ الحَصَوات الصغيرة على الأرض. فقد كانتْ مَشدُوهَةً بما تراهُ حولهَا. فلأولِ مرةٍ تَرَى ( لانْجِي ) بيوتاً مِنْ الطوبِ والحِجارة. ولأولِ مَرَّةٍ تَرَى أنَّ كُلَّ مَنْ حولها يرتدي كَامِلَ ملابسه. فتوقفتْ لِبُرهَةٍ وهي تُفكّر: كيفَ لها أنْ تقفَ لكلِ وَاحدٍ مِنْ هؤلاء لِتَفِيَهُ حقّهُ مِنْ التبجيلِ والاحترام. ولكنها سرعان ما تحركتْ عندما لَكَزَها رَجُلٌ يحملُ سريراً حديدياً: "هوووي .. ما تقيفي لينا في نص الشارع. زحّي كده ولاّ كده." بدأت ( لانجي ) تُحدث نفسها : "ها أنتِ أخيراً في الخرطوم!" كانت ( لانجي ) تُفتّشُ عن تلكَ السعادةِ التي كانتْ تتوقعها بمجردِ أنْ ترى الخرطوم؛ فلم تجدها. ولكنّها قالتْ لنفسها: "ربما بعد أنْ أفيقَ مِنْ هولِ الصدمة. إنّ السعادةَ هنا، في مكانٍ ما داخلَ هذهِ المسام. إني أشعرُ بها تخرجُ خجلى مع هذا العرق." لم تكن ( لانجي ) تعرفُ أين تذهب، فأخذتْ تمشي على غيرِ هُدى مشدوهةً بكلِ ما تراه. ( لانجي ) وصيفة بنت رئيس القبيلة، التي كانت تُقَابَلُ بالاحترام من الجميع في قريتها، رأتْ في وجوهِ العاصميين نظراتِ الازدراءِ والاشمئزاز؛ فتذكرتْ ما كانتْ عواجيز القريةِ يَحكِينَهُ لها عن ( أولاد العرب ) الأقل منها سُمرة. وبدأتْ تقرأ الوجوهَ التي تراها، واكتشفت أن ثمّة عضلات في وجهها لم تتحرك بعد!
هاهي الخرطوم يا ( لانجي ) تتقاذفكِ شوارعها في كل اتجاه. وتشعرينَ بالوحدةِ المُوحشةِ؛ كما لم تشعري مِنْ قبل. ليلها الطويل ليس كليلِ ( تُرْوَيَّتْ ) الذي كان يُربّتُ على كتفيكِ عندما تشعرينَ بالحزن. إنه ليلٌ آخرٌ ليسَ لهُ ملامح، بائس السحنة. والأيامُ هُنا تمُر عليك يا ( لانجي ) ثقيلة، ربما أثقلُ مِنْ وَقْعِ ( الوَايُونْقِ ) على حُبوبِ القمح. الخرطوم التي حلمتِ بها، تنامُ داخلَ كل المساحاتِ الضيّقة. هناكَ في آخرِ الرّواق المُظلم، تتراقص أشباحُ الليلِ عاريةً، تمدُّ ألسنتها نحوكِ في سخرية. ترسلُ إليكِ شحّاذين الرجفة مُعلّبةً في صناديقٍ صغيرةٍ وباردة. تنامينَ الآن على الأرضِ الإسفلتية، وتنقطعُ أصواتُ الجنادبِ ليحلَ محلّها نبحُ الكلابِ، وصافراتُ العساكرِ الليليون. تشتاقينَ لصوتِ همهماتِ أمكِ التي كانتْ تُغني في الليل قبلَ أنْ تنام. الآن تسمعينَ صوتَ غناءِ الجوعِ، وكورالَ طقطقةِ الأسنانِ برداً. جِلدُكِ الذي كانتْ تسقط عليه أضواءُ المشاعلِ في تكعيبةِ البَالِمْبُو، أصبحَ مُلطّخاً بزيوتِ الشاحناتِ، ووسخِ الطريق. هاهي الخرطوم يا ( لانجي ): شمسٌ، وكلابٌ، ورجلٌ يتبّولُ على قارعةِ الطريق. ها أنتِ – كالقططِ الضَّالةِ – تبحثينَ في الخرائبِ عن منزلٍ لكِ، وبين النفايات عن أثاث! زوّاركِ الليليون يطمعون في كأسٍ من النبيذ الذي لا يُجيد صنعهُ غيّرك. أنتِ هنا فقط بائعة المريسة التي لا يحفلُ لها أحد ( إلاّ ليلاً ). تتحمّلين أياديهم الطويلة التي تمتدُ إلى جسدكِ الطاهرِ عندما يثملون. يأخذون عَرَقَكِ المُكثّفَ في هيئةِ أوراقٍ مالية. وفي الصباح، تُسفِرُ ( أَوِيِلْ ) عن وجهها القبيحِ لبيوتٍ نصف خَرِبَةٍ بلا أسوار، و لا أبواب. بيوتٍ مُشَاعَةٍ لنظراتِ الفضوليين نهاراً، ولأقدامِ السُّكَارَى المترنّحةِ ليلاً. كيفَ أصبحتِ مِنْ وصيفةِ لها ذلك الشأن والمكانة، إلى امرأةٍ ليسَ لها غير معنيين: الخمر (ليلاً)، وغاسلة الملابس (نهاراً)!!! ألم يتساءل أولئكَ العساكرُ وهُم يطرحونكِ أرضاً عند كُلِ ( مُدَاهَمَةٍ) كيف أنّهم يرتقونَ في مراتبهم على أكتافِ مَنْ لم تنحِ قط؟! ألم يتساءلوا يوماً عن سِرِ خطوط (اليَارُومْبَا) التي فوق جبينك؟! ألم يتساءلوا عن سِرِ رائحةِ الكاكاوِ التي تنضحُ منكِ عند كُلِ ركلة؟
( لانْجِي ) يا سليلة الكاكاو بالأمس ويا بائعةَ المريسةِ اليوم. هاهي الخرطوم، خمّارةٌ كبيرة فقط، فلا تنسي خطوط الاستواء من دعواتكِ التي لا تعرفُ المُجاملةَ ولا الرياء. هاهي الخرطوم؛ كما لم تَكنْ مِنْ قبل، نهارها مشحونٌ بزمر العابرين في شرايينها العفنة. وليلها مشحونٌ بآثارِ الخطواتِ المُتعرّجةِ أو المُترنّحة. عفواً يا ( لانجي ) كانَ يجدرُ بي أنْ أُخبركِ الحقيقة قبل أن تستمرئي الحلم أكثر!!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة