|
(شال النوار) مقال للاخ محمد جميل جدير بالمطالعة
|
محمد جميل أحمد-الرياض في هذه الأغنية لحن غريب تشعر به يتنامى ويتردد من أعماق بعيدة ، كينابيع تتفجر ببطء لتملأ الحواس بشحنة شجية من الأصداء العذبة .
إنه لحن يلعب بحركة الأعصاب عبر دوائر من الأنغام تتقطع وتتجمع في مركز متوتر وتعود مرة أخرى لتجديد المتعة . لكن في فرادة اللحن ، وفي فرادة كلمات الأغنية للرائع (إسحاق الحلنقي) ، وفي فرادة الصوت الميلودرامي للأستاذ محمد الأمين (خصوصا في هذه الأغنية) وأخيرا في فرادة الندرة التي غنى فيها الأستاذ هذه الأغنية ( نادرا ما يغنيها) في كل ذلك غرابة تليق بهذا اللحن الذي هو أحد سمات عبقرية محمد الأمين الموسيقية ؛ تلك الموسيقى التي عرفت كيف تجعل من مفهوم ما للطبقة الوسطى والنخب المدينية ، حقيقة فنية واضحة مجسدة في سجل أغنيات الموسيقار الكبير (بالرغم من أن البرجوازية الصغيرة ، أو برجوازية الكومبرادور لم تكن طبقة وسطى حقيقية كما أدرك المفكرون العرب أخيرا حين اختفت هذه الطبقة أو كادت في هذا الزمن) وهو أسلوب للفن أصدق من الفكر في التعبير عن حقائق الأشياء . هذه أغنية عاطفية رومانسية ، و التعبير فيها رقيق ، يصور قلق العاشق وهواجسه المتصلة بالحبيب عبر مفردات حميمة . وبالرغم أن الأغنية لا تحمل فرادتها إلا من مجموع التيمات التي جعلت منها بنية فنية متكاملة إلا أن هناك ما يمكن أن تكون تعبيرا عنه في المجتمع أو انعكاسا لطبيعته المرتبطة بجوهر الفن أصلا ؛ أي ذلك الزمن السعيد الذي ظهرت فيه هذه الأغنية . إن الأغنية تردنا بقوة إلى زمن مستعاد ؛ زمن خارج مجرى الوقت . فالأغنية هنا كالصورة تماما تمسك من زمن الفن أعذب تجلياته المسموعة في الأغنيات العظيمة (كهذه الأغنية) . إن زمن الفن بهذا المعنى هو الذي يخلق شروط الإبداع . فالأغنية كتعبير فني هي بنت ذلك الزمن الذي سمح للإبداع أن يتنفس . والإحساس بالحرية والسعادة والاستقرار في نسيج اجتماعي يصغي للفن وينفعل له وينتج مبدعيه ؛ كل تلك المعاني هي خصائص ذلك الزمن التي انطبعت في هذه الأغنية . فذلك الزمن السعيد حين سمح بشروط الإبداع لأبنائه وذهب في مجرى التاريخ ، أصبح خالدا في تلك الأغاني التي نبعت منه وأصبحت دالة عليه . ولهذا سنجد أن الإبداع الكامن في هذه الأغنية ولحنها الغريب الذي يضخ في مشاعرنا طاقة من الجمال والحب والبراءة ؛ يضعنا بقوة أمام الذاكرة والحنين لزمن لم تبق منه إلا هذه الأغنية ومثيلاتها كدليل عليه . بالإضافة إلى الذكريات الصغيرة والمناسبات الخاصة لكل فرد بكل أغنية. وبعبارة أخرى لو أردنا أن نعرف معنى محايثة الإبداع لشروطه التي تتجلى في زمن معين ؛ سنجد أن الفنان والشاعر (أطال الله بقائهما) لا يمكنهما في زماننا هذا أن يبدعا أغنية كتلك الأغنية (شال النوار) مع أن الفنان هو هو والشاعر هو هو ... وذلك ليس لأن لحظات إبداع العمل الفني هي لحظات غير متجددة ـ وهذا صحيح ـ ، ولكن لأن الزمن الذي تغيب فيه شروط الإبداع الحقيقي من الحرية والتفاؤل والبراءة والاستقرار والثقة والأمل ؛ هو الذي يمنع تجديد وإنتاج مثل هذه الأغنيات العظيمة ... الزمن هو فردوس الإبداع ؛ لهذا بالرغم من وجود المبدعين إلا أن للإبداع شروطا أخرى تنتجها الأمم العظيمة ويكون الزمن مرآة لها ، وهذا بنفسه يدل على أن الإبداع كل لا يتجزأ في كل مجالات الحياة الإنسانية الحرة ، فلا يمكن أن يزدهر الغناء، وينتكس الفكر والسياسة والاقتصاد والتعليم والأدب ، كما في زماننا هذا ؛ زمن الخواء ، والفقر ، والقهر والتشاؤم الذي يخنق الإبداع رغم وجود المبدعين ... سقيا لذلك الزمن المستعاد في الأغاني
|
|
|
|
|
|