|
غنوات لحليوة: محمد طه القدال - تأمّل فى معنى القصيد:
|
مقدّمة: ولدت الكراسة الأولى من شعر الأستاذ محمد طه القدال بعد طول انتظارٍ من محبّيه وهى ليست بأفضل شعره ولكنّها أشهره. وأذكر أنّنى سمعت قصيدة حليوة على شاطئ النيل الأزرق بقرية الجديد عمران بعد عودتى من مصر الحبيبة عام 1977، ونحن نبلُّ الشوق ونغتسل من عناء افتراقنا وسفرنا ، الذى لم ولن ينته ، بالشعر ونيل الفردوس. يسمعنى ما عنده وأسمعه ما عندى ، وعندها تبيّن لى أنّ أخى أعمق موهبة وأعلى منـزلة وأوضح رؤية وأنضج تجربة منّى ، وأنا استطعم ما أسمع وتأخذنى الدهشة ترفعنى وتضعنى وتهزّنى ذات اليمين وذات الشمال ، والصوت الجميل ، ببحّته الدافئة وعمقه المؤثّر يتدفّق كمويجات نهرنا الخالد وينفض عنّى غبار الغربة ويغسلنى من وعثائها ويدثّرنى بدفء العشيرة ، فقلت له ما معناه: "لا يحقّ لك الصمت والشحّ بما عندك فغرّد كما شئت أو كما شاء لك الهوى" ففعل.
وأقرّ أنّنى ، طيلة الأعوام السابقة ، ظننت أنّه كتب قصيدة حليوة بعد عام 1975 عندما قلعت خيمتى ونشدت داراً أوسع وأطيب مقاماً ، دعوته وألححت عليه أن نترافق إليها ولكنّه أبى ومنعه ما أراد الله لكلينا ، فقد ضقنا بدراسة الطب وفضّلت، فعل العاجز والجبان، أن ألوّن مشواره وأخّفف طعمه بمزجه بصحبة الأخيار فى قاهرة المعز والتزوّد من طيّبات بحرها العظيم ولو أنّنا ، وأقول أنّنا ، لم نتزوّد منها بغير الخال عبدالرحمن الأبنودى وسامى عبدالقوى لكفى ولكنّها أكرمتنا بصداقتهما، كما هو حالها وزادت فى العطاء واختار القدّال طريق الأدب فأفلح وحلّق بجناحى العبقرية والشجاعة. ولم استغرب ، وأنا أتصفّح كراسته الأولى التى أخذت أكثر من 30 عاماً لتُزف، عندما اتّضح لى أنّ حليوة ولدت عروساً بكامل "هقيتها" عام 1973 فهاهو تواضعه كلّفنا فقداً عزيزاً وكلّفه اعترافاً منّا جميعاً ، وهذا يقين يشاركنى فيه العديد ممّن هو أكثر دراية بدروب الأدب ، بأنّه أشعر من كتب مزجاً للعامية والعربية الفصحى بالسودان فى ذاكرتنا الحيّة. كلام الرتينة بت سالم ولد عتمان فى حنّة على الشاشوق : "بـنَيَّـة بِـنَيَّة لى سالم ولد عِتمان ، صلاة الزين وسَمّوها الرَتينة أُمَّها بت عَلِي الخَمْجَان خَرِيفْ الرَّازَّة ، عِزِّينَا كُبَارْ الحِلّة أبَّاتا ، بُكَارْ الحِلة أُمَّاتا " أبدأ بأقدم قصائد الكراسة وهى كتبت فى عام 1971 ممّا يعنى أنها كُتبت والقدّال قد خطا من المراهقة إلى بداية النضوج. ولربّما كُتبت القصيدة عن تجربة تسبق ذلك الزّمان ولذا توهّجت فيها العاطفة والتّفاؤل والانتصار ، بلا قيدٍ ، لا كما توحى قصائده اللاّحقة. واختيار الإسم هو قصيدة فرِحةٌ فى ذاته ولمن يعى معانى ودلالات المفردات متعةٌ خالصة تعمّدك بالضّحك. فالرتينة هو اسمٌ شاع فى القرى لمن تسبق قريناتها جمالاً وبديهةً ورزانة ، فهو ليس وصفاً لشكلٍ أو طبعٍ فقط ، بل لمكانة اجتماعيّة تضعها فى أعلى السلّم الاجتماعى يتنافس دونها فتيان القرية ومن يفوز بها يتبّوأ عرش الفروسيّة والنّصر. والرتينة كما عرّفها المعجم الوسيط ، لمن لا يعلم معناها من الأجيال الشّابة أو من أهل المدن من نعموا بالكهرباء وولدوا فى المشافى ، هى نسيجٌ مشبّعٌ بأكاسيد الثريوم والسريوم يولد فى المصباح ضوءاً ساطعاً ، ومصدرها من الكلمة الأعجمية "رَتِنَا" وهى الشبكيّة فى قاع العين التى فيها خلايا الضوء وقد كان علماء الماضى يظنّون أنّ الضوء يصدر من العين ، وقد كانت وما تزال فى بعض القرى ، علامة الأفراح والأتراح فى القرى فى لياليها إن أولموا أو شيّعوا أو داهمهم الفيضان أو ضاع منهم شىء. ولها طقوسٌ يتسابق إليها الشباب للفوز بتنظيفها وتلميعها وملئها بالكحول (السبيرتو) وربط النسيج على أعلى عمودها ومن ثمّ نفخها حتى تفحُّ فحيحاً كالثعبانِ الغاضب ، وحين ذاك توقد فيها النار فيتلوّن اللّهب إلى ازرقاقٍ سماوىٍّ ، واصفرارٍ عابرٍ ، وحمرة مشاغبة حتى يحترق النسيج وتهسُّ هسيساً ، وحينها يشفُّ عن شبكةٍ رقيقة يكاد ينتفى الحاجز بينها وبين هالة الضوء للدّانى ولا يرى منها القاصى غير النور تدعمه زجاجة مستديرة. وكما توضع الفتاة الرتينة فى أعلى مكانٍ فى قلوب النّاس فتتطلّع إليها كالفراش يجذبهم ضياؤها ، كذلك توضع الرتينة على مقعدٍ عالٍ ذى ثلاث شعب بحذرٍ عظيمٍ ، إذ أنّ أقلّ ارتجاجٍ يفتّت عظام شبكتها رميماً ، فتلاحق اللعنات الجانى. وكم ذكّرتنى معاملة الرتينة والقربى العبقريّة التى مزج بها أهل القرى بينها وبين أحلى الحسان بقول المصطفى (ص) عندما يصف النّساء بالقوارير ويوصى بالرفق بهنّ. فاختيار الرمز (الرتينة) يفتّق فى الذاكرة رموزاً ومعانٍ تدفع بعضها البعض ، وتمسك بمعاصمها وتولّد فى الخيال رؤىً وتجارب ومشاعر تحتفظ بحرارتها رغم تداول السنين. فهذه الرتينة ابنة سالم ولد عتمان ولا نريد اسماً أو وصفاً آخر فهى علم على رأسها نار مثلما الأخرى ، والسالم لا يلد إلاّ سالمة من كلّ شىء ، لاشية فيها تسرُّ الناظرين. وتمعّن فى تخفيف اسم عِتمان بدلاً من عُثمان! فاسم عِتمان يستخدم فى أوسط السودان وشماله وحتى صعيد مصر وفيه رقّة وعذوبة تشى بحنّية المسمّى والتحبّب إليه. وعندما ينسب الإبن لأبيه فهو إمّا دليل شغفٍ أو قرفٍ ولا شىء بينهما ، ولذا لزم تثليث الإسم فى هذه الحالة حتى نعى جيداً دلالة الأصل والفصل لمن تتكلّم ونأخذه مأخذ الجدّ. فمجرّد قولها استلزم قصيدة تخلّده ولا يمكن لنا أن نفصل بين الكلام والمقام الذى حدث فيه موقف المصارحة ، فهناك الغنى الكامل للمعنى ولذا وجب التنويه على أنّه حدث فى "حنّة على الشاشوق".
والطقس الاحتفالى للحنّة غير ليلة الزفاف أو الدخلة ، فهو للشباب من الأصدقاء والأقارب دون الشياب والأغراب. وفيها تودّ القلوب لو تلاقى قرين روحها فترقّ وتنفتح مسامها للعشق ، ويسرقها الأمل فيحملهم الحلم على جناحه يوهمهم بأنّ ساعة التلاق والعناق قد دنت ، فإذا هم فى تلك الليلة أحلى وأنضر وأبهج ، يضحكون بلا باعث فكاهة ، ويتقافزون حول العريس جذلى كحملان الخريف ، فى قلوبهم رفّة كما الشموع فى الحنّة ، وفى أرواحهم خفّةٌ ، والليل ساتر الأسرار ، ودفء الحميمية فى اكتمال يسرى فيه ويطوّقه ، الطِّيب وفوح الحنّة والمحلبيّة والسرّتية ، فيسهل البوح والوصال ، والفتيات ناضرات متوهّجاتٍ كالأقمار ، وناضجات كالثمار وقت القطاف لمن يجد الجرأة فى قلبه والمال فى جيبه ومن لم يملك إلاّ قلباً ووجلاً يمدُّ اصبعاً للحنَّاء لمليكة فؤاده عساه يتوّج ليلته بلمسة وذكرى. واختيار اسم "عليّْ الشاشوق" تلقى الضوء على طبع السودانيين فى إطلاق أسماء الصحابة والألقاب الملائمة مثل ، كما ورد فى القصيدة، "عليّ الخمجان" ، حامد العولاق" ، "عامر المسكين" ، والشاشوق جزء من الشادوف فى النبرو ولعلّه اكتسب اللقب من عمله على الشادوف ، وهو دليل على ارتباط الناس بنهر النيل ، أو من أجل طبعه النشط أو الكريم الذى يروى ظمأ المحتاج إليه ، ومهما يكن فهو قد أفلح فجمع فتزوّج واحتفل الناس به. بهذا العنوان يهيئ القدال مستمعه وقارئه لعالم القصيدة وهو لا يبتعد كثيراً من القول الشعبى "الجواب بيعرفوهو من عنوانو" أو "علوانو" كما كان يقول أخى أبراهيم ود البحر رحمه الله وأحسن إليه.
"بنية بنيّة لى سالم ولد عِتمان صلاة الزين وسموها الرتينة أمها بت على الخمجان .." بعد تنويه القدال فى العنوان على أهمية "كلام الرتينة"؛ يبدأ القصيدة بتعريفه لصاحبة الكلام. فكلمة "بنية" وصفٌ وتصغيرٌ محبّب يشى بيفاعة الفتاة ولينها ، ولذا فقد وصفها "بالبريـبة"، وهى الغض من النبات : "كذا البريـبة تبرِّد عينى" أى تقرّ بها عينى فلا تذهب لغيرها ، وهذا لا يعنى أنّها طفلة صغيرة ، ولكنّه طبع العرب فى التشبيب بالعذارى من شببن عن الطوق ولفتن النظر وأسرن القلوب مثلما قال امرؤ القيس : (تعلّق قلبى طفلة عربيّة). وقرن التعريف بها بالصلاة على المصطفى (ص) زين الخلق ليقيها شرّ العين وهو دعاء الأمّهات والجدّات إعجاباً لا تستحقه إلاّ زينة البنات: "وبتمرق زينة تبرق زينة" ومقطع "صلاة الزين" يدل على أنّ القدال اعتاد جلسات الأمهات "والحبوبات" وذاكرته الفوتغرافية تسجّل مفردات وجملاً وصوراً ستكوّن كنـزه اللغوى الخاص ينظم جواهره بعبقرية الفنّان المحقّق المدقّق الخلاّق. فهذه "البنيّة" من بنات سالم ، ولا بد أنّ له من البنات كثرٌ ، ولربّما أيضاً من النساء فهو الوحيد من الرجال الذى ذكر منسوباً إلى أبيه فى القصيدة ، فهناك "ود سعد" و "ود مجمّر" و"عليْ االخمجان" ، ومن يتزوج ابنة "عليْ الخمجان" فهو حرىٌّ بأن يكون مقتدراً ويتّسع داره وقلبه فيشمل أخريات. ولذا يوحى هذا التحديد لأمّها بأنّ له بنات من نساء أُخر ، أو لربما يريد أنّ أمّها نشأت فى حليةٍ وترفٍ ، مع أبٍ كريمٍ معطاءٍ كالخريف الذى تتشوّق له ضعاف الخلق فتتعزّى بظلّ سحابه الممطر من حرِّ قيظ الحياة وجفافها ، وبمائه وزرعه فتسمن فتستمرّ دورة الحياة: "أمها بت عليّ الخمجان خريف الرّازّة (الضعيفة يأتى عليها الخريف فتسمن) ، عزِّينا" وإذا كان هذا وضعه مع الآخرين فما باله مع أبنته ورفاهيتها وتنعّمها ودلالها أورثتهم لابنتها فهى عندما تخرج فهى فى ذات نفسها زينة ، (تمرق زينة) ، دعك عن زينتها الأخرى (تبرق زينة) فهى من بهائها كالكوكب الدّرىّ ، وليس هناك أكمل من زينة العقل (وقارية وكاتبة تحمد سيدا .. ماخدة على البنيات الشرافة) والرسم (تمشى تهاتى وزينة .. بلا الربعة التحجِّل ، شاكية من شبكة كتافا .. وفوق الجيد .. على ضهر البوادى .. تغنى ما خاتية الزرافة .. بسيمها الودعة ، إلا تزيد لطافة) والطبع (كلامها رصين .. ملامها حنين .. مقدم زوقها قبّال الحصافة .. كلامها حنين .. كلامها يطمّن الهمباتى .. والمجلوبة متعارض كتافا). يتبع... د. عبدالمنعم عبدالباقى على
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: غنوات لحليوة: محمد طه القدال - تأمّل فى معنى القصيد: (Re: abdelmoniem ali)
|
و(خمج) كلمة عربية فصيحة تعنى الفساد وسوء الثناء وأصلها يمانى ، ولعلّ فى ذلك دليلٌ للمشتغلين بعلم اللغويات على أصل بعض قبائل السودان أو على الأقل احتكاكهم بأهل اليمن السعيد ، وفى لسان العرب (رجلٌ مُخمَّجُ الأخلاق: فاسدها ، ) ونقول ذلك فى الأطفال وأيضاً يستخدم فى أواسط السودان فى ضوءٍ موجبٍ للرجل طائىّ الطبع. "كبار الحلّة أبّاتا بكار الحلّة أمّاتا" الجميل مطلوب القرب ومرغوب وهو طبع بشرى معهود ، فنحن ننسب أنفسنا بالقربى أو النسب أو الصداقة لمن نرى أنّ فى معرفته أو معرفتها منفعة وزينة لنا بل ونسعى لها. "وبتمرق زينة تبرق زينة تمشى تهاتى وزينة بلا الربعة التحجِّل شاكية من شبكة كتافا" ما زال القدال يعرّف هذه "البنية" بريشة الفنان المقتدر ويرسم لنا أبعاد زينتها الشكلية والاجتماعية والسلوكية والعاطفية والعقلية والروحية. فهى تخرج فى كامل زينتها وتمشى كالأوزة تهاتى ، وهتا الشىء هتواً أى كسره وطأً برجليه ، وهى أيضاً بمعنى أخذ أو أعطى ، ولا يفوت على فطنة القارئ أخذ مجامع قلوب من يراها وعطية المتعة لمن شاهدها. فالأوزة ، يتقدمها صدرها كراز السفين ، ترفع قدماً وتضع الآخر بتؤدة ، ولمن له معرفة طبية فإن هذه المشية دليل خلل عصبى فى المخيخ ولا أظن أن القدال قد عنى ذلك برغم خلفيته الطبية ، وتبرق ألوانها الجذابة فى ضوء الشمس كزينة العروس ، ويأتى تأكيد هذه "المشية" عندما يواصل الوصف: "بلا الربعة التحجِّل شاكية من شبكة كتافا" فكأنّها كالصبية من البقر بعد ولادتها مباشرة ، فالربعة أول النتاج فى الربيع من إناث الأنعام ، ولأنها إذا مشت ارتبعت أو ربعت أى وسعت خطوها ، وكذلك مشى الأوزة ، ولكن القدال يضيف ضربة أخرى بفرشاه فيتمّ الصورة عندما يصف هذه الصغيرة الفتية بالتى تمشى وكأنّها قيدت ، والحجل مشى المقيد أو المتبختر ، والأحجال هى الخلاخيل والقيود ، وقد عادت عادة لبس الحجول ، بعدما اختفت وعدت علامة تخلف ، وإن كانت قد اتخذت أشكالاً أخرى غير الفضة والذهب. وبلاغة الفتاة السودانية مُؤرخةٌ وهى تغنى للأفندى أن يأخذها معه أينما ذهب فى تنقلاته فى أرجاء الوطن ، حين كان للأفندى قيمة اجتماعية ومكانة مرموقة ، قبل أن تتضعضع الخدمة المدنية وتتقلص الطبقة الوسطى ، وعندما كان الوطن آمناً أينما ذهبوا ، وما يزال صوت أمير العود حسن عطية يشدو ويذكرنا بذلك الماضى جميلاً كان أم لم يكن فهو جزء من تاريخنا : "الحجل بالرجل يا الافندى سوقنى معاك". ويختتم القدال الوصف الشكلى مغرّداً : "شاكية من شبكة كتافا وفوق الجيد على ضهر البوادى تغنى ما خاتية الزرافة" فتكرار حرفى الشين والكاف يخلق موسيقى داخلية وجناساً لا يخل بنقله لبلاغة المعنى بل يزيده قوة وبيانا ، فهى تشتكى من طول وكثافة شعرها كالشبكة على أكتافها وعلى جيدها ، ولن تكون مخطئاً إذا شبهتها ، من طول عنقها ، وهى علامة حسن ، بالزرافة على ظهر البادية. فهذه غنائية عذبة تستمد قيمها الجمالية من الذوق السائد فى ذلك الزمان ، ولربما اختلف التشبيه لو كانت القصيدة قد كتبت اليوم فمن المرجح أن يصف "بنيته" بالرشيقة الخفيفة الحركة ولكن لكل زمان مقال ومهما يكن فالقصيدة عليها "صلاة الزين ودقر يا عين".
وسنواصل بإذن الله.....
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غنوات لحليوة: محمد طه القدال - تأمّل فى معنى القصيد: (Re: abdelmoniem ali)
|
وهذا المنهج الذى اتّخذه القدال فى يفاعه إنّما اعتمد على البديهة الشعرية ، قبل اكتمال المعرفة بالمناهج الأخرى التى تتيسر للمبدع بعد احتكاكه بالمبدعين ، وقراءة المراجع ، وغنى التجربة ولكنّه لا يقلّ بصيرة عنه. فالمعروف علمياً أن مرحلة البديهة أو الفطرة، المعتمدة على المرجع الاجتماعى السابق والسائد وقتها ، لها نفس العمق والوضوح بمرحلة المعلّم ، وتقع بينهما مرحلتى أنصاف المتعلمين والخبراء. فالمعلّم من يدرى أنّه يدرى ويتفكّر أثناء وبعد العمل وما ينتجه مرئى بعينى البصيرة والبصر وقائم على ومدعوم بالحقائق والقرائن. أمّا نصف المتعلّم فهو الذى فقد بوصلة البديهة ولا يملك أدوات الخبير بعد ، بينما الخبير يمتلك أدواتٍ عدّة ويؤدى عملاً جيّداً ولكنّه عند الانتاج يعتمد على اللاّوعى أو ما قبل الوعى ، ولذا يظلّ حبيساً فى قوالب معينة يكررها بدون رؤية كاملة تمكنه من كسر الطوق ، والإبداع بوعىٍ كاملٍ مكتشفاً قمماً جديدةً وأعماقاً فريدةً تدهش من يراها والمثل لمثل هذا المبدع تجده فى بابلو نيرودا أو محمد عبدالحى حال المعلم. وارتباط القدال بمجتمعه وعيشه فيه واختلاطه به ينعكس فى تأثّره بهذا الوسط وتأثيره فيه. فاختيار مفرداتٍ ومواقف بعينها ، تعتمد على الواقع وكيفية التعبير فيه ، مثل شعر البادية المعروف بالدوبيت ، تؤكد ارتباط القدال بهذا المجتمع وتؤصّل لجذوره الاجتماعية والشعرية وتضعه فى خانة المبدع المتصل بأهله والمنتمى إليهم منذ بداياته ، حتى وإن كان ذلك فى قصيدة عاطفية. فالذى لا جذور له لا عراقة له ولا رؤيا. لذا فقد أفلح القدال فى تحويل الكلام السماعى إلى صورٍ مرئية ومعانٍ واضحة ومخفية. وعندما خلق المولى عزّ وجلّ السمع والبصر والفؤاد بهذا الترتيب لم يكن إلاّ تنبيهاً لنا أنّ من سمع ولم ير لم ولن يفهم. فالأفئدة هى المخ والقلب وكلاهما له منهج للبصر والعقل يقوم على التفكّر فى معانى الاستقبال السمعى والبصرى واللمسى والشمّى والتذوقى واستنتاج النتائج والعمل بها تفاعلاً مع المجتمع. وبهذا الحس المرهف ، والموهبة الفذة ، وتفتّح مداركه على الجانب الآخر من واقعه ، بعد أن سقطت ورقة التوت الرومانسية عن بصره وانفتحت أبواب بصيرته على واقعٍ آخر ، لم يجتهد كثيراً ليعبّر به فهو لم يكن أبداً مبدعاً فوقياً يكتب من وراء فاصل زجاجىّ ولكنّه كان يتقاسم اللقمة ، وعرق الكفاح والأفراح والأتراح مع أهله ولكنّه اكتشف لاحقاً أنّ العالم ليس حليوة فقط وإنما كلّ العالم حليوة ، ولذا فقد زادت بردته طولاً وعرضاً فطوى العالم تحتها يهبه نفس الدفء الإنسانى النابع من قلبه. فهو يكتب من وليس عن واقعه الذى ينتمى إليه ومن داخله وداخل رؤيته له ، لا كما فعل بعض المبدعون الأوائل فكتبوا عن الفتاة السودانية يصفون خدودها بحمرة المغيب وشفاهها بورق الورود وفى مثال شوقى وحافظ فى مصر أوضح مثال.
وسنواصل بإذن الله..... د. عبدالمنعم عبدالباقى على
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غنوات لحليوة: محمد طه القدال - تأمّل فى معنى القصيد: إضافة (Re: Elkhawad)
|
الأخ العزيز الباشمهندس الأديب نزار الخواض حفظه الله ورعاه وأبقاه آسف لعدم الرد عليك فأنا فقير وقت وأداة وعندما يشاء المولى عزّ وجلّ لى فسحة من الزمن تتجاذبنى ، حتى تكاد تمزّقنى ، مشاغل وهموم كُثر حتى أنوى أن أبعد بنفسى عن أىّ مشروعٍ جديد ولكن القدال له محبّة خاصة وأنا بكل إرادتى أذوب كما الثلج تحت شمس إبداعه كالمدمن لا يملك إلا أن يعاقر ما اعتاد. فشكراً لمرورك المقدّر وهاءنذا أفى بوعدى.. لك المحبّة أخوك عبدالمنعم
| |
|
|
|
|
|
|
|