بدون مقدمات ... أو أي شيء يكدر صفو أيامه ... أنطلق يهذي ... يتحدث بصوت عالٍ .. جاحظ العينين ... و على غير عادته ... هجم على ( فاطنة ) .. و قام بقرصها على صدرها ... و لأن المفاجأة ألْجمتْها تماماً .. لم تحاول الهرب .. ثم امتدت يده لتنهال على عمه العجوز دونما سبب .. و تجرد من ملابسه .. ثم إعتمرها ... و قام بكسر أزيار سبيل ( الحاج صالح ) ... و ركل كل عنزات الحاجة ( زهرة ) بالمراح خلف بيتها ... و أنطلق صوب العتمور الذي يتاخم الجبال الشاهقة .. يرغي و يزبد حتى ابتلعته طيات السراب ( الرقراق ) في ذلك اليوم القائظ وسط ذهول أهل القرية. دمعتْ عينا خالته ... و أقسمتْ بأن هناك من قام بدس ( عمل ) له .. قال البعض أنه من تأثير ( البنقو ) و همس ( عبد الجليل ) : أنا قلت ليهو ما يمشي جنب الآثارات ... حثتْ أمه التراب على رأسها و هي جالسة على ركبتيها تولول. فالشاب ( محمود ) مشهود له بحسن الخلق و دماثته ...
عندما بدأ هياجه ... كانت مياه النيل قد بدأتْ في التشرُّب بلونٍ داكن إيذاناً بقرب ( الميسوري ) أو الفيضان ... و المياه تتسرب ليل نهار لتملأ شقوق الجروف و تلتهم طين ( القيف ) ... لم يربط أحد وقتها هيجان الشاب ببدء فوران النهر الخالد ... و لكن كل الشواهد تدل على أن ( سالم ) بالضفة الشرقية .. و ( خديجة ) بالجزيرة .. ما أن ينفلت النهر ليبدأ هيجانه .. إلا و يبدأ الإثنان نوبة الهياج و الإختلال ... تماما كما حدث يومها لمحمود. أشفقتْ ( أم محمود ) بأن يكون مصير أبنها كمصير هؤلاء ... و هو الذي عليه الاعتماد في جمع محصول التمر و موسم الزراعة الذي يلي الدميرة .. النيل كان يعطونه أجمل البنات قرباناً لدى القدماء .. و هاهو الآن يمتص وقار خيرة الشباب ...
منذئذٍ ... يأتي النهر ممتطياً صهوة الطمي الداكن ... فتتلون حياة ( محمود ) بلوثة غريبة فينطلق لا يلوي على شيء نحو الجبال ... تنهمر دموع أمه ... لتبدأ فزعة أهل القرية في نقل محصولها إلى ( القساسيب ) ...
عندما يهدأ ( محمود ) ... يكون النهر قد تراجع رويداً رويداً في تزامن مبهم... تاركاً خلفه جزراً صغيرة تتنفس الصعداء ... و جروفاً تنتظر جماع البذور .. فيقف محمود بطوله النوبي الفارع .... يتابع جريان النهر شمالاً و كأنه يغتسل من أدران الأيام الفائتة التي لا يتذكر إحداثياتها ..... يمسح بكفه على جبهته العريضة ... كأنه يودع أسباب جنونه ... يشمر عن ساعديه منهالاً على التربة ( بالطورية ) ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة