|
حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) *
|
** كُدُن تَكّار ..وكر الشر **
قضبت ( فانة ) جبينها كمن تعتصر ذهنها لتتذكر تفاصيل حدث ما.. فهي مازالت تذكر ذلك اليوم الذي بدأ تعيسا .. كانت لتوها وضَعت ( صينية الشاي ) فوق منضدة صغيرة تقبع عند زاوية الحجرة .. وحين التفتت إليه رأته ينهض متباطئا على غير عادته .. سحبت المنضدة برفق لتستقر مجاورة لوسادة السرير.. رأته مازال يخفض رأسه ويعبث بقدميه بحثا عن فردة ( مركوبه ) الجلدي المهترئ.. يداه المشدودتان الى جانبيه على حافة السرير .. يحملان ثقل جسده الذي يبدو عليه الإرهاق.. قضبت جبينها للحظة .. فهي لم تتعود أن تراه هكذا منهار القوى .. ـ ـ وااا سجمممي آبا .. منا ( مابك ) ؟ دون أن يعير سؤالها المشفق إنتباهته .. نهض يسحب على الأرض نعليه .. بدورها لم تكترث لتجاهله لاستفسارها .. مضت تشد ملاءة السرير .. وتعيد ترتيب وضع الوسادة.. بعد لحظات .. عاد ابوها وجلس على السرير .. صبت اليه كوبا من الشاي .. ومضت ترتب بقية اوضاع الغرفة.. ..
مازالت تذكر رشفات أبيها المتتابعة والعجولة للشاي يوم ذاك.. حين تزامنت مع طرق عنيف سمعته على الباب .. كان آخر ما نطق به وهي تهم للخروج لمعرفة الطارق .. ـ خليك إنت ـ دي هاج أبد الجليل .. لم تسأله عن حاجة الحاج عبد الجليل .. و ما يبتغيه في هذا الوقت المبكر.. غير أنها ـ الحق لله ـ سمحت لمخيلتها تخمن السبب .. كل السيناريوهات المتوقعة إستعرضتها بخيرها وشرها في اللحظة .. بداية من إجتماعات لجان معارضة السد .. مرورا بمشروع خطبتها لذلك المغترب الذي لم تحسمه بعد.. وانتهاء بمشاوير العزاء في القرى المجاورة .. حياة الناس في هذه القرى المنسية.. مبرمجة وثابته بصورة راتبة .. بل في مقدور أي طفل لم يبلغ الحلم .. أن يملكك المعلومة الصحيحة .. مع ذلك .. ما حدث كان يفوق المتوقع والخيال.. ..
( فانه ) ذات العشرين ربيعا.. رفضت الإقتران بخطابها المتتابعين منذ أن بلغت السابعة عشرة .. لا لشيء .. إلا لأنها تأبى الرحيل عن أبيها بعد أن فقدت والدتها وهي بعد صبية يافعة .. فصام والدها عن الزواج مغاضبا كل أهله .. متفرغا لتربيتها والعناية بها .. ..
كان ضحى ذلك اليوم صحوا على غير العادة .. حيث بدت السماء تكسوها زرقة رائقة .. لايعكر صفوها الغبار كما جرى عليه الحال .. خرجت ( فانة ) بعد أن غادر والدها المنزل برفقة زائره .. خرجت لتجمع بعضا من عيدان القصب .. تساعدها في سرعة إشعال النار تحت موقدها الذي تعد عليه خبز ( الكابيدة ) .. عادت وجلست تبحث عن جمرة حية تحت رماد الموقد .. وما أن عثرت عليها حتى غرزت فيها عودين من القصب ومضت تنفخ بقوة .. تذكرت أن أذنها التقط لحظتها شيء ما .. ربما اصوات وجلبة كانت تأتيها من على البعد متقطعة .. ربما حيران الخلوة وهم يرتلون باصوات متداخلة .. ربما .. غير أنها لم تعر الأمر أهمية .. خاصة وقد داخلها الشك فيما سمعت فحسبته مجرد تهيئات .. حالة الدوار التي تصيبها عادة عندما تكثر النفخ تحت الموقد.. ربما السبب فيما ظنته جلبة وضوضاء.. إشعلت النار بعد أن امتلأ وجهها وحلقها بغبار رماده .. زادت على النار بعض اعواد القصب .. ثم نهضت تنفض ثوبها ..
عادت أصوات الجلبة والضوضاء تصك اذنيها من جديد .. إستغربت الأمر!! .. مع ذلك لم تتجاوز تكهناتها إطار ما هو مألوف.. مرة أخرى سمعت طرقا على الباب .. * * منو إنت ؟ ـ ـ أنا صفية .. فتحت فانه الباب مرحبه.. * * هبابك سفيّة .. ـ ـ ووو كُـدُود ـ ما سمئتي ( سمعت) الكوراب ( كوراك ) دي؟ * * وااسجمي .. كوراب جنازة .. واللا هبر ؟ ـ ـ هبر شنو جنازه شنو يااااا بتي !! إنت ما آرفه الليلة رجال البلد والإيال والهريمات كلهم آملين مزاهرة أشان يوروا الهكومه ما آوزيين السد ؟ ..
لفحت فانه ثوبها بسرعة .. وخرجت تلحق بمن سبقنها من نسوة الحي الي حيث الجهة المفترضة للضوضاء.. مازال الجو معتدلا بشمسه الدافئة .. السماء صافية .. والهواء صلاح .. هنااااك .. على قمة مرتفعات ( كُدن تكار ).. تبدو رؤس أشباح متحركة .. تظهر لأصحاب الرؤية الحادة تارة.. وتختفي تارة أخرى .. رأتهم ( فانه ) غير أنها لم تميزهم .. إنصرفت عنهم عند رؤيتها لجارتها ( ام الخير ).. تجر قدمها اليسري وتبذل جهدا للحاق بهن.. سمعتها وهي تردد مشفقة دون أن يجيبها أحد .. ـ ـ الكوراب دا شنو ؟ ما تورووني يابناتي .. ولكن لا أحد ممن خرجن في ذلك الصباح .. كن يملكن إجابة لسؤالها المتواصل.. فإذا بصوت غير مألوف يرج آذانهن رجاً.. كررررر .. كرررر .. فتزيد ام الخير على نبرتها المتسائلة وهي تولول.. ـ ـ أي وي .. أي وي .. دي شنو يابناتي ؟ كررررر .. كرر .. كرر .. كرررر .. ..
مسكينة ام الخير .. فمنذ أن رأت بعينها الشمس .. وميزت بسمعها الأصوات.. لم تسمع مثل هذا الأزيز السريع المتتابع .. الجبال الغارغة في عتمتها تحت ظل الضحي فقدت سكونها الأبدي .. ومضت تردد صدها.. حتى طيور القرية.. لم تكن احسن حالا او أقل ذعرا.. فها هي تلك .. تركت اغصانها ومرتفعاتها .. وتجمعت تحوم في الفضاء بحثا عن أمنها المخترق .. رفعت ام الخير بصرها الى السماء .. غير أنها عادت ونكست رأسها بسرعة .. ثم جلست على الأرض خائرة القوى..
..
تذكرت ( فانه ) ما قالته لها ام الخير عندما سألتها عن سبب تخلفها عن ركبهن يوم ذاك .. ـ ـ اقول ليك شنو يابتي ؟ ـ ـ لمن عاينت فوق شفت وشوش ناس معلقه في السما .. ـ ـ راسي لفت وجسمي مات ورجليني رجفو من الخوف .. ثم صمتت لبرهة وقالت لها بصوت متهدج وهي تشيح بوجهها عنها .. ـ ـ أبوك كمان شفت وشه يوم داك.. دمعتان إنحدرتا متتابعتين من مقلتي ( فانه ) .. وسقطتا فوق رماد الموقد الذي جلست أمامه.. مسحتهما بكم جلبابها ومضت تنفخ . ..
حتى كتابة هذه السطور .. مازال صبية القرية وصغارها .. يفضلون في لياليهم المقمرة .. لعبة كـُدُن تكـّر .. وكر الشر .. حيث يلعب الكبار دور المعتدين من الأشرار .. ويلعب الصغار دور الضحايا والشهداء العزل الذين سقطوا دفاعا عن الحق.. وفي ختام اللعبة يجلس الصغار في حلقة دائرية.. يدور حولها الكبار الذين كانوا يمثلون دور المعتدين .. وكلما حاولوا اختراقهم للوصول الي وسط الحلبة .. رفع الصغار ايديهم متشابكة الى اعلى وهم يهتفون ( كـُدُن تكـّر .. ووووو شر ).. فيصرخ الكبار وهم يشدون شعورهم كناية على الندم .. هكذا غدت مأساة كجبار تأريخا سوف تتناقله الأجيال . .. ملحوظة : الأسماء لا تمثل أشخاصا في الواقع .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-08-08, 08:34 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | Muna Khugali | 10-09-08, 01:26 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-09-08, 01:08 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | هند محمد | 10-09-08, 05:59 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-09-08, 05:33 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | نبيلة عبد المطلب | 10-09-08, 02:54 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | ابو جهينة | 10-09-08, 11:09 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | سلمى الشيخ سلامة | 10-10-08, 01:19 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | سيف النصر محي الدين محمد أحمد | 10-10-08, 01:45 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-11-08, 10:19 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-10-08, 07:40 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | عواطف ادريس اسماعيل | 10-11-08, 12:36 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | Suad I. Ahmed | 10-11-08, 01:59 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-11-08, 07:17 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-11-08, 07:45 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-12-08, 00:37 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | حمزاوي | 10-12-08, 05:53 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | كمال ادريس | 10-12-08, 07:58 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محسية | 10-12-08, 08:23 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | Medhat Osman | 10-12-08, 11:02 AM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | هاشم أحمد خلف الله | 10-12-08, 01:37 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-12-08, 06:47 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-12-08, 06:57 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | محمد على طه الملك | 10-12-08, 07:06 PM |
Re: حكاية من الزمن ده ( كُدُن تَكّار ) * | عبد الشفيع علي سوركتي | 10-15-08, 05:27 AM |
|
|
|