|
كليات الطب تحرم السودان من العلماء و المفكرين
|
كليات الطب تحرم السودان من العلماء و المفكرين
خيارات طلاب الشهادة السودانية محدودة بطموحات أهلهم و ما يرغبون في أن يصل إليه أبنائهم من مراكز و علوم. من الأمور التي يتبينها المرء في مراحل مختلفة من حياته أن خياراته في فترة ما لم تكن محكومة بالمنطق و بالرغبات الحقيقية له شخصيا بل لها علاقة مباشرة بالأجواء و المحيط الاجتماعي و النفسي الذي كان يعيش فيه و ما تسود في هذا المحيط من أفكار و مفاهيم. نموذج اختيار دراسة الطب في السودان نموذج صارخ لهذه الافتراضات، ينشاء الشباب السوداني في كنف منظومة اجتماعية و مفاهيمية معينة، و في الغالب تفتقد هذه المفاهيم إلى الحريات اللازمة و يفتقد التلميذ السوداني إلى القدرات و الاستقلالية اللازمة لاتخاذ قرار مصيري و معقد كقرار اختيار الاتجاه العلمي و المستقبلي، نجد إن الأسرة و المحيط الاجتماعي هما اللذان يحددان و يوجهان و إن كان بصورة غير مقصودة اتجاه التلميذ فور حصوله على نتيجة الشهادة الجامعية فإذا كانت متفوقة فمصيره هو كلية الطب لا محالة غض النظر ما يحمله هو شخصيا من ميولات تكون قد اضمحلت و بهتت إزاء القصف المدفعي الثقيل لمفاهيم المجتمع السائدة.
في العام 1987 كان عدد ممتحني الشهادة السودانية 125 ألف طالباً قبل منهم إلى كلية الطب جامعة الخرطوم حوالي 180 طالبا هم انبغ ما أنجبته الأمة السودانية حينئذ من عقول، و قد اختار كل هؤلاء الأوائل هذا الخيار الثقيل و اختاروا على ما اعتقد دون وعي كامل منهم دربا طويلا و معقدا قد لا يكون ملائما لاهتماماتهم الحقيقية المكنونة في دواخلهم و التي اضمحلت بتأثير الضغوط الأسرية و الاجتماعية.المختلفة كما بينت أعلاه. أليس من الغريب أن يكون لأنبغ 180 طالبا نفس الميول العلمية و أن يدلفوا جميعا أبواب كلية الطب الخرطومية. لقد أتاحت لي فرص السفر المختلفة الالتقاء بالعديد من الأطباء السودانيين في المهاجر المختلفة و دارت بيننا العديد من الحوارات، و ما أدهشني هو أسف الكثيرين على خياراتهم تلك و أنهم لو أتيحت لهم الفرصة لاختاروا خيارات أخرى و لدرسوا كليات تلائم و بصورة حقيقية مع اهتماماتهم، و لا عجب أن وجدنا بين أطباء السودان الكثير من الشعراء و الفنانين و الكتاب و المبدعين و السياسيين، و لكنهم في مزاولتهم لتلك الاهتمامات لا يعبرون مرحلة الهواة الذين قلما يجد وقتا كافيا لمزاولة هوايتهم تلك نسبة لمهنة تستنزف الكثير من الطاقات و الذين يفتقدون إلى المعرفة المنهجية التي تصقل مواهبهم الحقيقية بعد أن أهدروا أعواما عدة في دراسة أكاديمية بحتة لا يجدون أنفسهم فيها.
تساؤلي هنا لماذا يذهب بالضرورة حوالي بضع مئات من المع العقول السودانية سنويا إلى علوم تطبيقية بحتة تحجم من قدرات عقولهم الغضة تلك على النمو و التطور و التأمل، و ما هي فرصة أن يجود لنا الزمان بمفكرين و فلاسفة أذكياء ولماحين في إطار هذا التوجيه الخاطيء للطاقات، ليس هناك عيبا في اختيار الكليات العلمية كخيارات حقيقية للشخص المعين الخطورة تكمن في توجيه هذه العقول بطريقة ميكانيكية نحو بعض الاتجاهات العلمية إن ذلك يؤدي إلى أن يخسر السودان و الأشخاص المعنيون بهذه الأزمة الكثير من الوقت و الجهد. وتتخذ الأزمة في سودان اليوم أبعادا كارثية فيها إهدار للجهد و المال، حيث تنمو كليات الطب كالفطر مستغلة الطلب العالي لدي الأهل لدراسة الأبناء لذلك المجال وبأسعار خرافية تبلغ في بعض الأحايين 15 مليون جنيه سوداني سنويا للطالب الواحد، هذا الزخم لم يؤدي إلى تطور حقيقي في المهنة و لا في مستوى المستشفيات الحكومية و لا في تطور البحث العلمي الطبي، سودان اليوم يزدحم بآلاف الأطباء الذين أقحم العديد منهم هذا المجال إقحاما من قبل أهل يرغبون في تحقيق رغباتهم و أحلامهم هم في شخوص أبنائهم. هذه السطور ليت بدراسة منهجية مكتملة الملامح بل هي محاولة للفت الانتباه لظاهرة غير صحية تؤدي إلى تبنى خيارات و أولويات غير صحيحة في عملية معقدة و تخضع للكثير من العوامل الذاتية كعملية اختيار المجال الدراسي و المهني. تجليات هذه الخيارات تبدو جلية للعيان في سودان اليوم، أطباء سياسيون و تجار و متطرفون و متزمتون في مهنة تقتضي التحرر و الانعتاق الفكري و الثقافي...
هذه خواطر متناثرة حول واحدة من أزماتنا المتعددة التي تستوجب الانتباه و التحليل.
امجد إبراهيم
|
|
|
|
|
|
|
|
|