|
Re: حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان (Re: Khalid Kodi)
|
حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (3 من 3)
د. عمر مصطفى شركيان
التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي
حينما ظهر السيِّد الصَّادق المهدي في دولة أريتريا استقبله التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي أيما استقبال،(3) وبرغم هذا كله كان هناك من آيات الاستفهام كثر؟ لِمَ خرج السيِّد الصَّادق المهدي الآن من السُّودان؟ وكيف استطاع أن يخرج ويفلت من عيون النِّظام؟ وبعدئذٍ أذَّن الإمام الصَّادق في الأنصار بالهجرة، وأخفق فيما سعى من الإيذان أيما إخفاق. كان الصَّادق يمني نفسه أن يحشد لنفسه وحزبه جنوداً من الإنس لا قبل للتَّجمُّع له به بعد، وخاب مسعاه؛ وبعد ذلك بدأ ينظر نظرة نقديَّة لكل شئ ويشن هجوماً عنيفاً على التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي باعتبار أنَّ الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان هي القوَّة الوحيدة الضَّاربة فيه، فكانت كراهيته للتَّجمُّع إذن كراهيَّة الغيرة والحسد لا كراهيَّة موضوعيَّة؛ كذلك كانت هناك صراعات حزبيَّة بينه وبين الحزب الاتِّحادي الدِّيمقراطي.
هكذا لم يكن الصَّادق مسروراً بدوام الحال والمآل في التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي، وقد عرفنا أنَّ الصَّادق المهدي قد يرجع إلى الخرطوم في أي وقت، وكان ما كان متوقَّعاً. زعم الصَّادق إنَّ عودته إلى الخرطوم لهي ضروريَّة لإيقاف اتفاق الحكومة السُّودانيَّة مع الحركة الشَّعبيَّة، أو وقف تبني الحركة لمبادرة السيِّد أبيل ألير، وذكر يوسف أنَّ لا الحكومة ولا الحركة قد اتَّفقت مع أبيل ألير، وإنَّ الحرب سوف تتوقَّف إذا منحت الحكومة مطلب الكونفيدراليَّة للحركة الشَّعبيَّة.
إذن، لِمَ يريد الصَّادق أن يوقف اتفاقاً قد يفضي إلى سلام ويحول دون الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد؟ إنَّ السَّلام الذي لا يكون فيه الصَّادق شريكاً لا يعتبر سلاماً في نظره، بل استسلام من جانب وإملاء شروط من الجانب الآخر، وتنفيذ أهداف القوى الدَّوليَّة من جانب ثالث؛ أو ما بات الصَّادق يملأ به السماوات والأرض عجيجاً من عبارات "تدويل المشكل السُّوداني".
وبعد انتهاء حديث القائد الضيف يوسف، بدأ الحاضرون في إبداء التَّعليقات وإطراح بعض التساؤلات؛ فقد جاء التَّعليق الأول عن تأريخ السُّودان بصورته الحاليَّة، ورؤية أبناء النُّوبة في سلوك قادة السُّودان القديم، ومستقبل السُّودان الجديد بما فيه من الاعتراف بالتعدُّديَّة، والعلاقة السياسيَّة بين النُّوبة وأهل الجنوب وجنوب النِّيل الأزرق، ودور التجمع الوطني الدِّيمقراطي كبوتقة واحدة تستطيع أن تجمع النَّاس على برنامج حد أدني لمعارضة النظام يومذاك. ثُمَّ تطرَّق المعلق على أخطاء الدِّيمقراطيَّة السَّابقة، وختم الرفيق حديثه بالتساؤل ألا وهو: هل تتفق معي أنَّ التأريخ يعيد نفسه؟ فردَّ يوسف أن أهدافهم في الحركة الشَّعبيَّة أن يكون السُّودان موحَّداً، سودان متَّحد في هيئة لامركزيَّة. وحينما يأتي السيِّد الصَّادق المهدي ويقول "حق تقرير المصير للجنوب فقط" غير جبال النُّوبة ومناطق الأنقسنا، فكان ردَّنا له ولغيره: إنَّنا لنمارس "حقَّنا في تقرير المصير" الآن في جبال النُّوبة؛ إذ لدينا برلماننا ولغاتنا المختلفة واللُّغة العربيَّة والإنجليزيَّة، وإنَّنا لنناضل من أجل تحرير المضطهدين من الاضطهاد والمضطَّهِدين من أفكار الاضطهاد، ولنا أكبر الظَّن أنَّ الإنسان بمقدوره أن يتغيَّر سواء بالاحتراب أم بالحوار، وما حوارنا مع أعدائنا بالأمس إلا قناعة منا بهذا المبدأ، حيث إنَّنا لم نيأس؟ ولم نبتئس منهم بعد. فقد ساهم تحالف الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان مع أحزاب التَّجمع الوطني الدِّيمقراطي في النِّضال السياسي والعسكري سويَّاً ضد النِّظام "الإنقاذي". وكانت الحركة الشَّعبيَّة ترى في فلسفتها دائماً أنَّها إن فشلت في احتواء المعارضة الشماليَّة وإضافتها إلى رصيدها النِّضالي فسوف تفلح حكومة "الإنقاذ" في ذلك وتجرُّها إلى جانبها، وتمسي الحركة من الأخسرين سبيلاً. فقد ظهر ثمار هذا التَّحاف حين حرَّرت قوات الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان مدينتي الكرمك وقيسان في جنوب النِّيل الأزرق العام 1997م، وعندما هبَّ النظام "الخرطومي" لتأليب العالم العربي والإسلامي ضد قوات التَّجمع الوطني الدِّيمقراطي بقيادة الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، أفلح الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي في تسكين وتسكيت أصوات العرب والمسلمين، قائلين لهم إننا شركاء في هذه العمليات؛ وقال قائلهم: أفلم نكن عرباً مسلمين! إذ كان الموقف مختلفاً تماماً العام 1987م، حين دخل الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان هاتين المدينتين، وعندئذٍ طار السيِّد محمد عثمان الميرغني – راعي الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي والشريك في حكومة السيِّد الصَّادق المهدي الائتلافية – إلى الرئيس العراقي صدام حسين، وجاء بالمقاتلات العراقيَّة تقذف المدينتين قذفاً مروِّعاً وتستعيدها لحكومة الصَّادق المهدي. ثم انتقل يوسف ليحدِّثنا عن بعض تجاربه في الحركة الشَّعبيَّة والجِّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. فقال: إنَّ له من التجارب الشخصيَّة في الحركة الشَّعبيَّة منذ العام 1984م كثير، لكن إنَّ أكثر مرحلة درس فيها أهل الجنوب دراسة مستفيضة هي تلك الفترة التي كان فيها رئيساً للجنة التحضير لمؤتمر الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان الأول العام 1994م، وذكر يوسف أنَّ اللَّخبطة (المشكل) تأتي دائماً مما يسمون بالوزراء السَّابقين (Ex-ministers)، وكذلك حملة إجازة الدكتوارة (PhD-holders)، هذا هو المشكل في الجنوب والشمال وجبال النُّوبة وأي مكان آخر في السُّودان، لأنَّ أغلبيتهم ينظرون إلى أنفسهم ويبحثون عن الفائدة الشخصيَّة التي يجنيها في الاتجاه الذي يختاره. وقد جاء مأخذ يوسف على السُّودانيين العلماء على سبيل التَّعميم، ولكنه قطعاً كان به قاصداً وجه التَّخصيص، وهنا نشير إلى الدكتور لام أكول والدكتور رياك مشار والدكتور حسن عبد الله التُّرابي. فمثلاً تجد من يدَّعي أنَّه يريد فصل الجنوب عن الشمال – الدكتور رياك مشار مثالاً – وإذا به يذهب ويرتمي بنفسه في أحضان الحكومة في الخرطوم.
ويقول يوسف في لهجة غلبت عليها الأناة والحلم: إنَّه – بأمانة - وجد أنَّ السَّلاطين في الجنوب – أي أهل الريف (Grassroots) - هم أفضل النَّاس دراية بأحوال النَّاس؛ بالرَّغم من أنَّهم لم ينالوا من التَّعليم شيئاً، لكن منحتهم التَّجارب الحياتيَّة حكمة عالية، فحين يقف أحدهم ويتحدَّث بلغة قبيلته (His mother-tongue language)، وعندما تتم ترجمة حديثه تجد الحكمة ولا شئ غير الحكمة؛ وكذلك القطاعات النسويَّة، فدعني أحّدِثكم عن تجربة (Let me tell you about an experience). وإنَّا لفى مقر عملي كرئيس للجنة التحضير لمؤتمر الحركة، إذا يقدم قادم قائلاً إنَّ اتِّحاد نساء بحر الغزال لتبغين مقابلتك، عجبي! فتحادثت مع نفسي في نفسي، وقلت تُرى ماذا يريدن قوله؟ فسمحت لهم بالمقابلة، وتم تحديد الميعاد ليوم معلوم. وجاءت نسوة بحر الغزال وجلسن صفاً واحداً، وقلن: إنهن لا يستطعن من الحديث باللُّغة العربيَّة شيئاً، ولا يتحدَّثن الإنجليزيَّة كذلك؛ فقلنا لهن: لا مانع عندنا من سماع حديثهن، ونحن هنا لنسمع قول الجميع وبأيَّة لغة طالما كان هناك ترجمان ليخبرنا ما خطبهم. وعندما شرعن في الحديث وتحدَّثن وسمعنا وفهمنا قولهن بكيت بكاءاً حاراً، وسالت دموعي من عينيَّ سيلاً مدراراً؛ لأنَّنا شعرنا – في بادئ الأمر ونهاية المطاف – أنَّ الكلام نابع من الأعماق، وكان حديثاً مؤسفاً ومؤلماً جداً سواءاً من الناحيَّة الوطنيَّة أم السياسيَّة، وكان حديثهن كل الحديث عبارة عن تساؤلات. فقلن: إنكم قلتم إنَّ هناك لمشكل في السُّودان، وخرجتم للنضال ونحن سرنا من خلفكم نشدُّ من أزركم، والآن بدأتم تتراجعون والعيال (الأبناء) كلهم أقفلوا راجعين أبتعين! لِمَ وفيم؟ إذ لم تخطرونا عن الجديد الذي طرأ عليكم! وعمَّ تتشاجرون وتتناحرون فيما بينكم؟ هل تحقَّقت جميع أهداف النِّضال؟ وهل الشئ الذي من أجله بدأتم النِّضال قد تحصَّلتم عليه، وبعدئذٍ بدأ الشجار بينكم؟ وكانت أسئلة صعبة جداً ولا يمكنكم التصوُّر أن الشَّخص الأمي، "الذي لا يعرف الواو الضكر"، قد يطرح مثل هذه الأسئلة. ومضت نسوة بحر الغزال مضيفة: أنَّهن هن اللائي يشقين كثيراً من أهوال هذه الحرب الضروس، وليس الرِّجال؛ لأنَّ الميت إما زوجك وقد ترك لك الأبناء وأنت أيم (أرملة)، أو أخوك وقد ترك لك أسرته، أو ولدك وقد تركك ثكلى، أو أبوك وقد تركك يتيمة فقيدة أب، فتكون أنت المسؤولة عن جميع هذه الأعباء. وشرعت النسوة يقلن: إنَّهن لم يتعبن من الحرب، فما الذي يتعبكم أيُّها الرِّجال؟ وإذ قالت إحداهن: لي من الأولاد أربعة، لكنني مستعدة أن أدفع بواحد منهم إليكم لبيعه وتقبضوا ثمنه سلاحاً لتحرير الجنوب! فانظروا حدود الوطنيَّة! إذ أنَّ الحيوانات – الطيور على سبيل المثال – تذود وتستميت دفاعاً عن أفراخها ضد من يفجعها ويروِّعها، فكيف بهذه المرأة التي تودُّ التَّبرع بابنها للبيع في مزاد علني في سبيل تحرير الجنوب!
|
|
|
|
|
|
|
|
|