|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
أخي الأستاذ محمد جميل تحيتي وإعزازي لقد سررت كثيرا بمداخلتك العميقة وأسئلتك الحصيفة والتي اتوقع أن تتعرض لها مقالات الأستاذ خالد الحاج بالتفصيل .. دعني أثبتها هنا مرة أخرى ودعنا جميعا نفكر فيها بصوت عال ونحاول الاجابة عليها ..
Quote: السؤال هو : هل تحقيق العدل الانساني بكل معانيه لكافة البشر في هذا العالم المعذب ؛ هل هذا ممكن معرفياوواقعيا ؟ ... هذا العدل في صور جزئية وبمعان جزئية تحقق ومازال في (أوربا الغربية وأمريكا الشمالية) ... وما حدث للجزء يمكن أن يحدث للكل ضرورة ـ وهذا ما ناضل من أجله كل الفلاسفة والمفكرين الكبار خصوصا هابرماس ، وتشومسكي ، وادوراد سعيد ـ ... في ظل إيمان هؤلاء الفلاسفة بإمكانية حدوث العدل الانساني بين جميع البشر معرفيا ، وإيمانهم بذلك من ناحية ، وبين ما يتجه إليه العالم الحديث في مسارات غير عادلة وما يجري فيه من ظلم وجشع وأنانية وعنف من ناحية ثانية ، في ظل ذلك ؛ أي فلسفة أو دين يستطيع أن يحقق العدل الانساني معرفيا وواقعيا ، وماهي الفكرة الأساسية التي تجعل من ذلك ممكنا في واقع العالم المعاصر ؟ |
أرجو أن تتابع معنا
عمر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
أخي الأستاذ مسعود تحيتي ومحبتي كنت اعلم ان مثل هذا "الشَرَك" سيقبضك آجلا أم عاجلا فأنت دائما تبحث عن الثمين المفيد وسط تبن التهريج الذي يملأ صفحات هذا المنبر .. أرجو أن تطيب لك الإقامة والمتابعة .. تحياتي للأسرة الكريمة عمر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
Quote: وهم جميعا يسعون الى هدف واحد مشترك، هو العمل على تغيير الواقع ليصبح أكثر إنسانية، وايجاد صورة العقل التي تتناسب مع هذا العقل الانساني.. فهم برغم أنهم قاموا بتشخيص ، لسلبيات الواقع الفكري، في معظمه صحيح وعميق، إلا أنهم عجزوا كل العجز، عن تقديم البديل المتمثل في تطلعاته للعقل الشامل، الاجتماعي، والتاريخي، الذي يتجاوز محدودية (العقل الأداتي)، وسلبياته، بغرض تحقيق واقع عقلاني أكثر انسانية، لا يهمل الجانب المادي للحياة، ولكن لا يقتصر عليه، بل يوظفه من خلال اعتبار (القيم) لسعادة الانسان وحريته. |
لله درّك أخي خالد فقد هززتها حتى خرج منها سمناً نقيّاً لذةً للآكلين . وشكراً أخي عمر على هذه الخلاصة التي أتمنى أن يتنبه لها إخواننا في الدين ورحلة الحياة ليكون الحوار والجدل بيننا وبينهم محصوراً في أيّ الوسائل والمناهج أكثر نفعاً وجدوى.
أبوحمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: adil amin)
|
أخي العزيز الأستاذ عادل أمين تحية طيبة لقد اسقطوا حتى توقيع الأستاذ خالد في ذيل المقال وبذلك هضموا حقه الأدبي .. أرجو ان تتصل بهم لتصحيح ذلك .. الغريبة أنني حاولت نشر المقال هناك باسم الأستاذ خالد الحاج واستخدمت عنوان بريده الالكتروني ولكنه لم ينشر بعد عمر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: على عمر على)
|
أخي العزيز الأستاذ على عمر عاطر تحياتي لك ولجميع من حولك والحمد لله انكم وجدتم فرصة للاستماع للأستاذ أحمد العجب فهو من المعاصرين لقدر كبير من تاريخ الحركة الجمهورية ويحفظ لها الكثير من المواقف والحكايات الشيقة .. شكرا على المرور والتعليق عمر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
بسم الله الرحمن الرحيم الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين محاولة للتعريف باساسيات دعوته (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) سبأ 24
الاسلام كنظرية نقدية
لقد عرضنا في المدخل، مفهوم النظرية النقدية وبعض مدارسها في الغرب، دون التعرض لتقويمها.. وكان غرضنا، من ذلك، إعطاء تصور عام لمفهوم النظرية النقدية في الغرب، والاشارة للأسس العقلانية التي تقوم عليها الحضارة الغربية، التي تمثل الواقع الحضاري السائد، كما انها هي موضوعنا الأساسي، في الدراسة التي سنجريها حول مقارنة الاسلام بالفلسفات والأديان والأفكار الأخرى. إن نقطة الانطلاق، والقضية الأساسية، بالنسبة لأي نظرية نقدية، هي الأساس الذي تقوم عليه.. وهذا الأساس لابد من أن يقوم على تصور مبدئي للكون، وللطبيعة البشرية.. وعلى هذا التصور تنبني النظرة الأساسية، لطبائع الأشياء، ومنها: طبيعة العقل نفسه، الذي هو وسيلة النقد والتقويم الأساسية.. فصحة النظرية النقدية، تتوقف على صحة الأساس - الأنطولوجي والمعرفي - الذي تقوم عليه.. وهذا يقتضي أن نعطي تصور الاسلام، كم نراه في هذين المجالين بصورة موجزة. الأساس الذي يقوم عليه التصور الاسلامي، في جميع المجالات، هو (التوحيد)، وهذا الأساس هو الذي يميزه، عن جميع الأديان، والفلسفات، والأفكار الأخرى كم سنرى.. والتوحيد، يتعلق بتصور طبيعة الكون، وقانونه، وغايته، وبطبيعة النفس البشرية، وطبيعة العقل.. كما يتعلق بالحياة وغايتها وضوابط السلوك فيها.. فالتوحيد يرد جميع الأمور الى أصل واحد.. ونحن لما كنا، هنا، معنيين، بالجانب المتعلق بالنظرية النقدية، فقط، فسنشير، فقط، الى قضايا التوحيد المتعلقة بهذا الجانب، ولكن الجوانب الأخرى، ستضح من خلال المقارنات التي سنجريها.. ومن أهم قضايا التوحيد التي تعنينا هنا، قضية وحدة الفاعل، فعليها يقوم إطار التوجيه، ونموذج الإرشاد الذي عليه يقوم تقويمنا، ونقدنا للأفكار، وللواقع.. كما عليها أيضا، يقوم منهج السلوك، الذي بالعمل وفقه، يستطيع العقل ترويض نفسه، بالصورة التي تعطيه المقدرة على التمييز بين قيم الأشياء.
القرآن ووحدة الفاعل: إذا نظرنا للفلسفة الماركسية، مثلا، نجد أنها في نظرتها النقدية، تعتمد اعتمادا كليا، على المادية الديالكتيكية، وتطبيقها على المجتمع، في: التطور المادي للتاريخ.. وهذا بالنسبة لها، يشكل الأساس، الذي عليه تنبني ايجابياتها، وسلبياتها.. ولا يكون هنالك اختلاف بين الماركسيين، فيما بينهم، إلا في فهم هذا الأساس، والمقدرة على استخدامه، في تقويم القضايا المختلفة.. وصحة الماركسية، وخطئها، بصورة عامة تتوقفان على صحة أو خطأ هذا الأساس الذي يشكل المرجع لها.. أما بالنسبة للاسلام فالقرآن هو الأساس والاطار المرجعي الشامل.. والقرآن كله يقوم على مبدأ (التوحيد) .. وقاعدة التوحيد، في التصور النظري، وفي الجانب السلوكي التطبيقي، هي (وحدة الفاعل)، وهي تعني: لا فاعل لكبير الأشياء ولا صغيرها إلا الله.. وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).. وحول كلمة التوحيد هذه يدور القرآن كله.. وعلى ترسيخها في الفكر، وفي الحياة، يقوم السلوك الديني عند الأفراد.. ومستويات التوحيد الأخرى تتبع. القرآن كلام الله - هذا لا خلاف حوله بين جميع المسلمين - لكن الاختلاف بين المسلمين، حول دلالاته، واسع جدا.. وكل الاختلاف في هذا المجال، هو اختلاف في مفهوم التوحيد، وفي تحقيق التوحيد.. الله تعالى، في ذاته، لا يتكلم بجارحة، ولا يتكلم بلغة، عن ذلك تعالى الله علوا كبيرا.. وإنما كلامه، في الحقيقة خلق.. فالأكوان جميعها، مخلوقة له تعالى، فهي كلماته.. والكون جميعه، هو كتابه.. أما القرآن، بين دفتي المصحف، فهو صورة لفظية وصوتية وعلمية، لكلام الله.. وهو قد جعل في هذه الصورة، ليتيسر الفهم لنا نحن البشر، الذين نفهم عن طريق العقول، والتي هي بدورها تفهم عن طريق اللغة.. ففي ذلك يقول تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم).. فالأكوان هي تنزل الله لمنطقة الفعل - هي تجسيد إرادة الله - هي قدرته.. والإرادة والقدرة متنزلتان عن العلم، ولذلك يمكن القول أن الأكوان هي علم الله متجسدا.. وهذه الحقيقة التوحيدية، هي جوهر علاقة الفكر بالواقع!! وقد عبر الأستاذ محمود عن هذه الحقيقة بقوله: "من مادة الفكر صنع العالم".. "فالعالم هو تجسيد علم الله - هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط، والمطلق، في ذلك - وإنه لحق أن العالم قد صنع من مادة الفكر، ومن أجل ذلك جاءت كرامة الفكر.. ولم يجعل الله هاديا في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر.. وإنما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع.. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون).. فكأن العقل، إذا روض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، (أدب الوقت) أصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه.. ".. فالأكوان، وأحداثها، في جميع أحوالها، وفي سيرورتها السرمدية، هي كلام الله الخلقي.. والقرآن بين دفتي المصحف هو قصة هذه الأكوان مصبوبة في قوالب اللغة العربية، لعلة أن نعقل عن الله (لعلكم تعقلون)، كلامه في الأكوان - القرآن الخلقي - وفي القرآن بين دفتي المصحف.. وسبيلنا الى ذلك أن نتخلق بالقرآن.. وسبيلنا إلى التخلق بالقرآن هو تقليد المعصوم عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، والذي (كانت أخلاقه القرآن) .. بذلك أصبح عندنا، ثلاثة صور للقرآن: الصورة الأولى، الطبيعة وأحداثها - القرآن الخلقي - والصورة الثانية، القرآن بين دفتي المصحف - القرآن اللفظي - والصورة الثالثة، القرآن مجسدا في اللحم والدم، عند المعصوم - القرآن كحياة - ولذلك قلنا أن حياة محمد صلى الله عليه وسلم، هي مفتاح القرآن.. القرآن بين دفتي المصحف هو جماع التجربة الدينية وخلاصتها النهائية، ولذلك به ختمت النبوة. وما يعنينا هنا، ونحن نتحدث عن النظرية النقدية في الاسلام، هو أن القرآن هو الأساس المتين الذي تقوم عليه هذه النظرية، سواء في نقد الفكر، أو نقد الواقع - وكلاهما فكر!! فالقرآن هو الميزان الذي وفقه يتم التمييز الدقيق بين قيم الأشياء.. يقول تعالى، في ذلك: (وانزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقا، لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه..).. فالقرآن مهيمن، على كتاب الأكوان وأحداثها جميعها، لأنه صورة لها.. وأحداث الأكوان هذه تشمل جميع الكتب، التي خطها، أو يمكن أن يخطها بشر!! فهي لا تخرج عن القرآن الخلقي، أو بمعنى آخر لا تخرج عن فعل الله، الذي لا فاعل في الوجود غيره تعالى. وهذا يقودنا إلى موضوع وحدة الفاعل - وقد حعلنا عنواننا الجانبي القرآن ووحدة الفاعل - قلنا في بداية حديثنا، هذا، أن وحدة الفاعل هي أهم قضايا التوحيد التي تعنينا هنا، لأن عليها يقوم إطار التوجيه، ونموذج الارشاد، الذي عليه يقوم تقويمنا، ونقدنا، للأفكار وللواقع.. وكلمة التوحيد في الاسلام هي: "لا إله إلا الله" وهي تعني أن الله هو الإله.. والإله تنزل الله الى مرتبة الفعل، ولذلك هي تعني: لا فاعل لكبير الأشياء ، ولا صغيرها إلا الله.. فكلما يدخل في الوجود هو فعل الله.. فالله تعالى هو وحده الموجود بذاته، وكل من عداه، وما عداه موجود به تعالى - قيوميته بالله، لا بذاته - وهذا يعني أن الحقيقة واحدة هي الذات الإلهية المطلقة، وكل ما في الوجود هو مظهر لها، وتعبير عنه.. فالمعنى، الجامع والشامل، لكل الوجود، هو الله.. فكلمة معنى، تعني ما يشير إليه الشيء، ويدل عليه.. فكل شيء في الوجود، يشير الى الله، ويدل عليه، وهذا هو تسبيحه (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).. فالقضية الأساسية في المعرفة في الاسلام، هي: الحقيقة من حيث الوجود واحدة!! ومن هذه الحقيقة يتبع ، أن الفاعل الحقيقي في الوجود واحد.. وأمر وحدة الفاعل هذه، هو أمر الاسلام كله!! فالاسلام، يعني الاستسلام لله.. فالوجود في الحقيقة، كله مسلم لله، خاضع لارادته، كان ولا يزال، ولن ينفك، يقول تعالى، مثلا: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض، طوعا، وكرها، واليه يرجعون).. ولكن الوجود دون مستوى الانسان غير واع بهذا الاسلام، فهو مسلم كرها.. وبدخول الانسان، ودخول العقل، في المسرح أحدث مسألة أساسية هي ظهور الإرادة البشرية.. وأصبح الانسان يتوهم أنه صاحب إرادة مستقلة، بالترك وبالعمل.. وأصبحت هنالك إرادتان: الإرادة الإلهية المحققة، والإرادة البشرية ، المتوهمة.. وقد جاء الاسلام الخاص - اسلام العقول - من لدن آدم، والى محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة، وأتم التسليم، كخطاب للعقل، ليسوقه عن رضا وقناعة، ليسلم إرادته المتوهمة، للمريد الواحد، فتصبح بذلك ، إرادة حقيقية، لتطابقها مع الإرادة الحقيقية.. فبظهور العقل، بدأ تصور التعدد، والثنائية، التي بدأت ببروز الخلق.. وأصبحت هنالك الحقيقة كما هي في الواقع، والحقيقة كما يتصورها العقل، ومن هنا جاء مصطلح الحقيقة والشريعة، الذي سبق أن تحدثنا عنه.. فالمسلم، عندما يتعامل، مع أي شيء في الوجود، لا يتعامل مع شيء خارج الاسلام، بمعناه العام أو بمعناه الخاص، وهذا من وجوه معنى أن القرآن مهيمن على كل كتاب - على كل شيء!! فالقرآن كله، يدور حول (لا اله الا الله) فهي (خير) ما في القرآن، وتسوق الى (أعظم) ما في القرآن - الله - وهي الميزان الذي جاء به القرآن، وعليه يقوم أساس النقد في الاسلام، والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط)، فالميزان هنا، هو ميزان (التوحيد)، الذي شعاره (لا اله الا الله)، وقد جاء بها جميع الرسل، قال المعصوم: "خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي (لا اله الا الله) "
يتواصل ...
خالد الحاج رفاعة - مارس 2008
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
الحق والباطل: إن القضية الأولى، والأساسية، بالنسبة للنظرية النقدية في الاسلام، هي أن الحقيقة واحدة، هي الذات الالهية - وهذه الحقيقة التوحيدية الكبرى، تفيد بأنه تعالى، مرجعية كل شيء في الوجود.. فمن هذه الحقيقة ينبثق كل شيء، واليها يعود.. فالوجود مصدره واحد، وطبيعته واحدة، وقانونه واحد، وطريقه واحد، ومصيره واحد.. هذه (الوحدة) هي أهم ما يميز التصور الاسلامي.. وعندما نأتي لمناقشة الحضارة الغربية، سنرى، أن جميع مشاكلها الكبيرة، ناتجة عن الربكة والقصور، في تصورها للحقيقة.. والخلل، في أي قضية من قضايا هذه الحضارة، مرجعه الأساسي، للقصور، والخلل المبدئي في تصور الحقيقة!! وبما أن الحقيقة واحدة، وهي مصدر الوجود الحادث، كله، فإن الباطل المطلق لا وجود له.. الباطل المطلق لا يدخل الوجود.. فالباطل باعتبار الحقيقة - اعتبار وجهة نظر الله للوجود - لا وجود له!! وإنما وجود الباطل وجود عقلي، يقوم على ظاهر الأشياء.. كما سبق أن قررنا أن كل شيء يدخل الوجود، إنما يدخل بإرادة الله، وإرادة الله حق، يقول تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار). فالسموات والأرض حق في ذاتها، وخلقت بالحق، فالباطل هو الوجه البعيد عن الحقيقة، والحق هو الوجه القريب منها.. فالكفر، مثلا، دخل بإرادة الله (من آمن فقد آمن بقضاء وقدر، ومن كفر فقد كفر بقضاء وقدر).. فالكافر (مسلم)، من حيث الاسلام العام، الذي لا يخرج عنه خارج، ولا يشذ عنه شاذ!! ولكنه كافر من حيث الشريعة.. والحق هو القانون الذي يسير الله تعالى به الوجود اليه..وهو، هو الارادة الالهية.. يقول تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض، وما بينهما، إلا بالحق، وأجل مسمى، والذين كفروا عما أنذروا معرضون) أو يقول: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق، ولكن أكثرهم لا يعلمون).. فالوجود كله، خلق الله، وخلق الله لا يكون لغير حكمة.. وهذه الحكمة هي الحق وراء الباطل في اي صورة من صوره. وهذه الحكمة ايضا، هي الحق وراء الشر والعذاب في أي صورة من صورهما.. فالحق نسبي، والباطل نسبي، وهما يأخذان نسبيتهما من قربهما أو بعدهما عن الحقيقة وهما مقيدان بحكم الوقت.. فكل حق، هو حق بالنسبة لوقته، فإذا جاء حكم وقت جديد، أصبح باطلا، وانتقل الحق الى ما هو أكمل منه، حسب حكم الوقت الجديد.. والحق والباطل مرتبطان بما ينفع الناس أو يضرهم.. وما ينفع الناس أو يضرهم، مرتبط بقانون الوحدة - مرتبط بخيري الدنيا والأخرى معا. من كل ذلك، نخلص الى أن الله تعالى، هو الفاعل الحقيقي، لكل ما يحدث في الوجود.. وهو تعالى، يفعل بذاته، ويفعل بالأسباب.. وفعله بالأسباب، يعني أن هنالك فاعل مباشر.. والنظرة التي تقوم على التوحيد تقتضي رؤية الفاعل الحقيقي والفاعل المباشر في وقت واحد.. وهذا هو موضوع السببية وهو أهم مواضيع الفكر البشري، في جميع مجالاته، في الدين، وفي الفلسفة، وفي العلم، وفي الفكر، وفي الحياة.. ولما كان فعل الله تعالى في الوجود، لا يكون إلا لحكمة، فإن كل ما يحدث في الوجود له غاية محددة، ولا شيء على الاطلاق يحدث صدفة، أو لغير غرض أو حكمة.. وهذا هو موضوع الغائية الكونية، وهو موضوع المعرفة الحقيقية، وعليه ينبنى كل شيء، فيما يتعلق بالقيم والأخلاق بالذات، كما عليه ينبني مفهوم النظرة التاريخية التي وفقها يتم احقاق الحق وابطال الباطل - كما سنرى.. وأهم ما يعنينا هنا، عن الغائية الكونية، هو أن الانسان، في الاسلام، هو الغاية، من جميع الأكوان، ومن جميع ما يجري فيها.. فالكون كله مسخر لانجاب الانسان (وسخر لكم ما في السموات والأرض، جميعا منه..) وهذا ينطبق على الانسان نفسه، فغايته هي نفس الغاية الكونية، وهي تحقيق انسانيته.. وعلى ذلك، فإن غاية الأكوان وغاية الانسان، هي غاية واحدة.. وتحقيق انسانية الانسان، يعبر عنها في الاسلام بصور مختلفة.. ومن ذلك، أنها تعني، رجوع الانسان الى المقام الذي عنه صدر، وهو صورة (أحسن تقويم)، التي كانها في الملكوت، في عالم الأرواح، يحققها هنا في عالم الأجساد..وهذا يعني العودة الى الفطرة الأساسية التي فطره الله عليها (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. وهذه الفطرة ثابتة، لا تتغير، وهذا معنى قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) ولكنها تتغطى وقد تغطت بالفعل، عبر التجربة في صراع الحياة.. ووظيفة المنهاج في الاسلام، هي ازالة الحجب التي حجبت الانسان عن فطرته الأصيلة، حتى يتمكن من الرجوع اليها.. وهذه هي وظيفة القرآن، ووظيفة، منهاج (طريق محمد) عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.. وتحقيق انسانية الانسان، يعبر عنها أيضا، بتحقيق، خلافة الانسان لله في الأرض، والتي قال عنها تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة).. ويعبر عنها، بتحقيق العبودية لله.. فكل هذه المعاني، تعبر عن موضوع واحد، من زوايا مختلفة.. وتحقيق انسانية الانسان، إنما تكون بالترقي في الفكر، وفي القيم، وفي الحرية، طلبا لتحقيق الحياة الانسانية، والفكر، والقيم، والحرية، في الاسلام، هي أيضا وجوه مختلفة، لموضوع واحد، ولا يمكن الفصل بينها - وهذا ما سيتم بيانه لاحقا. وأكبر نقائص الحضارة الغربية، والنقص الذي يقضي عليها بالفشل النهائي، هو أنه لا توجد فيها أي غائية كونية!! وهذا ما جعل هنالك، خللا، وقصورا، في جميع قضاياها الأساسية، خصوصا في مجال القيم، فمن المستحيل أن تكون هنالك مرجعية ثابتة للقيم، دون وجود غائية كونية، وهذا ما سنبينه، في موضعه، عند نقد الحضارة الغربية.. وحتى السببية، فإن تصور الحضارة الغربية لها، قاصر أشد القصور، فهي تهمل السبب الحقيقي، وتتعامل فقط مع الأسباب الظاهرة.. وحتى الأسباب الظاهرة، تصور الحضارة الغربية لها، تصور مضطرب جدا.. وسنرى ذلك بصورة خاصة، عندما نتحدث عن السببية في العلم المادي التجريبي، والذي هو من أهم أطر المرجعية، في الحضارة الغربية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
الواقع .. والنظرة التاريخية: النظرة للواقع، والتعامل معه، من أساسيات، النظرية النقدية.. لقد ذكرنا، أن الواقع في جميع أحواله، هو فعل الله.. فالله تعالى، يخاطبنا بأحداث الواقع، كما يخاطبنا بآيات القرآن.. وهو في خطابه لنا، يريدنا أن نفهم عنه، ونعمل وفق مرضاته، كما تتبدى من خلال الواقع، ولا نخالفها، وهذا ما اصطلح على تسميته ب حكم الوقت) .. (وأدب الوقت).. وهذا يعني أننا عندما نتعامل مع الواقع، نتعامل مع الله، في تجليه في الزمان والمكان المعينين، وما يدور فيهما، وهذا هو الواقع.. وهو نفسه كلام الله الذي ينبغي أن نفهمه عنه، ونعرف حكمته وراءه، ونتصرف وفق هذه المعرفة.. ولما كان التجلي متجددا دائما، فإن الواقع ، واقع متحرك، دائما.. والحركة دائما حركة هادفة، تقوم على الغائية كما سبق أن ذكرنا.. وفي هذه الحركة، هنالك دائما شيء جديد تتم ولادته، وظهوره، وشيء قديم يفنى.. والذي يفنى دائما هو الباطل، والذي يبقى أو يتولد دائما، هو الحق، حسب حكم الوقت، وهذا يجري في صيرورة، وسيرورة دائمتين!! ولقد سبق أن ذكرنا أن الحق والباطل، كلاهما، لا يدخل إلا بإرادة الله.. والحق والباطل كلاهما يفنى، ومعنى يفنى، يتحرك، ويتغير، يطلب الحقيقة، ولكن فناء الباطل أسرع من فناء الحق، والحق لا يفنى إلا إذا جاء حق أكمل منه، وأكثر منه مناسبة للوقت، بالصورة التي تجعله باطلا، ولذلك يصح أن نقول أن الذي يفنى هو الباطل وحده، لأن الحق الذي يفنى، يكون قد أصبح باطلا، بسبب مجئ حق أكمل منه.. والباطل لا يفنى لمجرد ظهور الحق، ولكن يفنى عندما يستعد المحل تماما لتلقي الإذن الالهي بالحق الجديد.. وهذا قد يأخذ بعض الوقت، وهذا يختلف من موضوع لآخر، حسب طبيعة كل موضوع، وحسب الحكمة الالهية في التغيير.. وعن أمر الحق والباطل، يقول تعالى: (وقل جاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا) .. ويقول: (.. كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال) .. ويقول: (إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).. فمن صفات الباطل الأساسية أنه زاهق، وزاهق تعني أنه زائل، ممحي (ويمحو الله الباطل، ويحق الحق بكلماته) ، ولكنه لا يزول أو يمحى، إلا بعد أن يخدم غرضه الذي من أجله أدخله الله تعالى الوجود.. وهذا الغرض، دائما هو، وجه، من وجوه خدمة مصلحة الانسان، الذي هو محور الغائية الكونية.. فإذا خدم الباطل هذا الغرض حتى استنفذه، فقد انقضى أجله، فهو لا بد زائل.. وهو لا يزول، حين يزول، إلا بعد أن يكون تعالى، قد أعد المحل، عن طريقه، لتلقي المنة بالحق الذي يناسب حكم الوقت الجديد.. فالباطل حسب المثل الذي ضربه تعالى كالزبد، يذهب جفاء.. أما الحق - وهو ما ينفع الناس - فيمكث في الأرض.. ومما يمكث في الأرض، من الحق الزاهق، هو ما يحققه الله تعالى، عن طريقه، من استعداد المحل، لتلقي الحق الجديد، مما ينفع الناس، حسب حكم الوقت الجديد.. وهو دائما، صورة أكثر لطفا، من الصورة السابقة لها.. فالحركة كلها حركة من الكثافة، الى اللطافة، قائمة على المحو والاثبات (يمحو الله ما يشاء، ويثبت، وعنده أم الكتاب).. والقاعدة الأساسية تتمثل في قول الأستاذ محمود: "وكل الذي بدأ وكل الذي ينتهي، هو الصور الغليظة للأشياء".. فالأصل ثابت، والفرع متحرك يطلبه.. فالخير أصل، والشر فرع، موظف لخدمة الخير، عبر التجربة.. فالشر زائل، متحرك دائما، من الكثافة الى اللطافة، يطلب الخير المطلق.. وكذلك العلم أصل، والجهل فرع، فالجهل زائل: متحرك دائما يطلب الأصل - العلم المطلق.. وهكذا بالنسبة لجميع الأصول والفروع.. فدائما، الكثيف يلطف، واللطيف يزداد لطافة.. فاللطف دائما، مصاحب للمشيئة (إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم) سورة يوسف 100 حسب التوحيد، كل حدث، يحدث في الوجود، موقوت.. فلا شيء على الاطلاق، يمكن أن يحدث قبل وقته، أو بعد وقته.. فالزمن بعد أساسي في إحقاق الحق، وإبطال الباطل.. هذا بالنسبة للكون، وأحداثه، وبالنسبة للمجتمع البشري، وأحداث حضارته.. وأساس هذا الموضوع، هو القضاء والقدر.. فالوجود كله موجود في منطقة القضاء، ولكنه لا يبرز في منطقة القدر، في الزمان والمكان، إلا على مكث.. يقول تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).. فالقضاء هو هذا الأمر الواحد الذي يخرج عن الزمان والمكان، وهذا معنى عبارة (كلمح بالبصر).. والقدر هو تنفيذ القضاء وابرازه في حيز الزمان والمكان، على مكث، وفي تطور.. وفي آية أخرى يقول تعالى: (يمحمو الله ما يشاء، ويثبت، وعنده أم الكتاب).. فعبارة (يمحو الله ما يشاء ويثبت) تشير الى القدر، وهي تشير الى التطور بتعاقب صور الكائنات.. وعبارة (وعنده أم الكتاب) إشارة الى القضاء.. وفي قوله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم).. فعبارة (وما ننزله إلا بقدر معلوم) تعني القدر!!، في حين أن عبارة(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) تعني القضاء.. وما يعنينا هنا، بصورة خاصة، أن القدر محكوم بالزمان والمكان، وهو في منطقة الثنائية.. ولذلك ما يدخل بالإرادة، يشمل الخير والشر.. والإرادة والرضا. فالله تعالى، قد يريد شيئا، ولا يرضاه!! فإرادة الله تعالى، لا تعصى، ولكن الله تعالى يريد أن ينقل الخلائق من طاعة، مايريد، الى طاعة ما يرضى.. وعن كونه تعالى، يريد شيئا لا يرضاه يقول تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم).. ففي الارادة يدخل الكفر والايمان، ولكن بالرضا لا يدخل إلا الايمان.. فمنزلة الرضا منزلة خير، الشر فيها غايب، ومنزلة الإرادة منزلة خير الشر فيها أكثر منه في منزلة الرضا.. والدين كله عمل في الخروج من الارادة الى الرضا.. فقد ارسل الله تعالى، الرسل ليعينوا العقول لتخرج مما اراده الله الى ما يرضاه الله.. فالعقول هي مصفاة الرضا من الارادة.. وهي لتقوم بذلك ، عليها أن تقوم بترويض نفسها، على التمييز بين قيم الأشياء، وهذا هو النقد، في أدق مستوياته!! فالإرادة الإلهية القاهرة ، هي دين الاسلام العام، أما الرضا الإلهي اللطيف فهو دين الاسلام الخاص، يقول تعالى: (وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم..).. فإله الأرض، هو إله الإرادة، وهو الرحمن.. وإله السماء، هو إله الرضا، وهو الله.. وإنما هما إله واحد: (قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعوا ، فله الأسماء الحسنى.. ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها.. وابتغ بين ذلك سبيلا). أعتقد أنني، فيما تقدم، أعلاه، وضعت الصورة العامة، لأساسيات نظرة الاسلام للواقع - طبيعة ما يتشكل فيه ، وعبره، والقانون الذي يحكمه، وعلاقات التغير والثبات، والغاية التي يستهدفها - وأهم القضايا، في كل ذلك: السببية، والغائية الكونية، ووحدة القانون الذي يحكم الأكوان، والإنسان، ومجتمع الانسان.. ووحدة الغاية بالنسبة للأكوان والانسان.. وما تقدم أيضا، يضع الأساس للنظرة التاريخية، في الاسلام، وعلاقتها بالنظرية النقدية. وما ينبغي ملاحظته، أن التطور حسب الاسلام، ليس خطيا، وإنما هو أشبه بسير الموجة، أو بسير الانسان، يقول الأستاذ محمود: "وكما أن الزمان، على كوكبنا هذا، يسير على رجلين، من ليل ونهار - من ظلام ونور - وكما أن الانسان يسير على رجلين من شمال ويمين، فكذلك الحياة تتطور على رجلين من مادة وروح.. وعندما يقدم المجتمع البشري، في ترقيه، رجل المادة ، ويثبتها، ويعتمد عليها، يكون في حال تهيؤ ليقدم رجل الروح، وهو لا بد مقدمها: (كان على ربك حتما مقضيا) ذلك أن تقدم الحياة لا يقف اطلاقا، ولا يتأخر، ولا يكرر نفسه، وإنما يسير قدما في مدارج مراقيه، حيث تطلب الحياة أن تكون كاملة في الصور، كما هي كاملة في الجوهر.. وهيهات!! أو قل سير الحياة، في مراقيها، كسير الموجة، فهي لا تنفك بين سفح وقمة، وهي عندما تكون في السفح إنما تحتشد لتقفز الى القمة، وإنما يمثل السفح التقدم المادي للمجتمع البشري، وتمثل القمة تقدمه الروحي، والذين لا يرون صورة سير المجتمع مكتملة، وإنما يرونها بالتفاريق، ينعون عليه تقدمه المادي، ولا يعتبرونه إلا انحطاطا، ويحسبونه رجسا من عمل الشيطان، والله هو المسير الحياة اليه، على هذين الرجلين، من المادة والروح. وفي الحق، أنه لدى التوحيد، إنما المادة والروح شيء واحد، ولا يقع بينهما اختلاف نوع، وإن وقع بينهما اختلاف مقدار.." وفي موقع آخر يقول الاستاذ محمود: "يقولون أن التاريخ يعيد نفسه، وهذا حق، ولكنه ليس كل الحق، ذلك بأن التاريخ لا يعيد نفسه بصورة واحدة، وإنما يعيدها بصورة تشبه من بعض الوجوه وتختلف من بعضها عما كان عليه الأمر في سابقه، فالمكان ليس كرويا، ولا الزمان، تبعا لذلك بكروي وإنما هما لولبيان، يسيران من قاعدة الى قمة، تشبه فيهما نهاية الحلقة بدايتها، ولا تشبهها" هنالك نقطة أساسية، وهامة جدا وهي أن ادراك تطور الحياة لايقوم على فهم الماضي، والحاضر وحدهما، وإنما أهم من ذلك أنه يقوم على اعتبارات المستقبل.. فالحياة مشدودة الى غايتها، ومسيرة اليها ، تسييرا لا تملك عنه فكاكا (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ، ليخرجكم من الظلمات الى النور) والعنصر الأساسي في تطور الانسان، هو عنصر الخيال.. يقول الاستاذ محمود: "الانسان حيوان متطور، وإنما جاءت مقدرته على التطور من مقدرته على التخيل - تخيل الأشياء المقبلة".. ومعرفة المستقبل أمر ممكن، وقد نشأ في الغرب علم خاص بالمستقبل - وقد ناقشنا هذا الأمر بشيء من التفصيل، في كتاب (السلام)، ويمكن الرجوع اليه - يقول الأستاذ محمود: "لأن المعلم واحد فإن النهايات ظاهرة في البدايات، ولكن ظهورها يحتاج منا الى إعمال فكر"!! ففي النواة، توجد الشجرة كاملة، يمكن أن تراها عين العقل، وإذا تهيأت، البيئة الضرورية والمناسبة، ظهرت للعيان.. وكذلك الحال بالنسبة للمستقبل، فهو موجود الآن في الحاضر ويمكن لعين العقل أن تراه، ومتى ما اكتملت العناصر الأساسية، الضرورية، لظهوره، ظهر للعيان، وأصبح هو الحاضر الجديد.. ومن هنا تأتي الأهمية، الكبيرة جدا للغائية الكونية فمن دونها يكون السير في التيه.. ونحن نزعم أنه لا سبيل للرؤية الصحيحة، للمستقبل، إلا سبيل التوحيد، فحسب التوحيد "ما من شيء كان، أو سيكون، إلا وهو كائن الآن"، كما يعبر الأستاذ محمود.. وفي عبارة أخرى يقول الأستاذ: "من الناس من لا يرى الى أبعد من أنفه، ومنهم من تنجاب عن بصيرته سحب الظلمات ، وحجب الأنوار، فيرى ورود الحياة، وصدورها، ويرى سيرها فيما بين ذلك.." الناس - كل الناس - في حياتهم اليومية، يتعاملون مع الحاضر، من أجل مستقبل أفضل.. فمن الناحية العملية المستقبل، موجود دائما، في تفكير الناس، وسلوكهم، وهو الغاية، فالجميع يعملون، ليوفروا لأنفسهم ، ولمن يهمهم أمرهم حياة أفضل، وهذا أمر طبيعي.. ولكن الخلل، الأساسي، يأتي من القصور في تصور الحياة الأفضل!! ومن الأسباب الأساسية، للقصور في تصور الحياة الأفضل، أن هذا التصور يمليه الخوف، بأكثر مما يمليه الفكر السليم.. وهذا الخوف، منه ما هو موروث من تجربة الحياة الطويلة، والتي عانت ضمن ما عانت من الجوع، والموت جوعا، كما تمليه تجربتنا في الحياة الحاضرة.. فالكل يريد أن يحتاط ضد العوز، والمرض، والشيخوخة، والموت، وهذا التحوط لا يكون، كما أوهمنا الخوف، إلا بضمان الحياة الوحيد، المال!! وقد عمق، نمط التفكير الرأسمالي، من هذا الخوف، والذي هو أساسا نتيجة له، فأصبحنا في حياتنا كلها، نكدح، ليل نهار، في سبيل المال، وهكذا ضيعنا الحياة في سبيل العيش!! ثم لا مفر من الموت!! علينا أن نعمل من أجل حياة أفضل في الحاضر، وفي المستقبل، بل لا بد لنا من ذلك، ولكن عملنا، لن يكون منه طائل، بل قد يسبب لنا الشقاء بدل السعادة، إذا لم نتخلص من إملاءات الخوف، الموروث والمكتسب، لنعمل وفق رؤية يمليها العقل الصافي، والقلب السليم!! فمن أجل الحياة الأفضل، في الحاضر، وفي المستقبل، القريب، والبعيد - والبعيد هذا يشمل ما بعد الموت - علينا أن نعمل، قبل كل شيء، وفوق كل شيء، على تحصيل العقل الصافي، والقلب السليم، هذا واجبنا الأول والأساسي.. وكل الخلل هو خلل في تصور الواجب!! ونحن لم نبعد عن قضيتنا، فالعقل الصافي والقلب السليم، هما الشرط الأساسي، للنقد السليم.. وإطار التوجيه، والمنهاج اللذان يوفرانهما، هما ما تقوم عليهما، النظرية النقدية في الاسلام. نرجع مرة أخرى الى موضوع الزمن.. فقد قررنا، أنه في التصور الاسلامي، لكل شيء في الزمان وقته.. فأمة المسلمين، التي نبشر بها، ونزعم أنها البديل للحضارة الغربية السائدة - بعد ان ادت دورها التاريخي، حتى استنفدته - هذه الأمة لها وقتها، والذي نرى أنه قد أظل: (ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة، ولا يستقدمون).. وقد جاء أجل الأمة الموعودة، وتهيأت الأرض لها بالطاقة بها، والحاجة اليها، وتمت جميع الأشراط المادية، لظهورها، ولم يبق إلا الإذن الالهي بها، ومجيء رسولها - أحمد - يقول تعالى: (ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط، وهم لا يظلمون).. ورسول الأمة القادمة أحمد(المسيح) - ونحن لنا الى ذلك عودة. لا نزال في إطار الحديث عن الزمن، فالعقل الناقد، ينبغي أن يعرف طبيعة المرحلة التاريخية التي يتحدث عنها، أو يتحدث عما يجري فيها من فكر، ليقومه، وينقده.. فالحق والباطل، كما سبق أن بينا، مرتبطان بحكم الوقت.. ففي أي وقت من يوم الدنيا نحن؟؟ الاجابة، عند الأستاذ محمود - والتي تحمل في طياتها، البشارة، والخبر عن النبأ العظيم – هي أننا في الثلث الأخير من ليل الوقت!! فهو يقول: "نحن نعيش في أخريات الثلث الأخير من ليل الوقت، وقد آذن الصبح بانبلاج. والثلث الأخير من ليل الوقت، كالثلث الأخير من ليل اليوم، منصوص على مدحه وتفضيله.. فكما أن الثلث الأخير من ليل اليوم برزخ بين الليل والنهار، فكذلك الثلث الأخير من ليل الوقت، فإنه برزخ بين الدنيا والأخرة".. ويقول: "نحن، بشرية القرن العشرين!! نحن بشرية الثلث الأخير من ليل الدنيا!! ومعلوم قيمة الثلث الأخير من ليل اليوم: (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا).. بنفس هذا القدر يجب أن نعلم قيمة الثلث الأخير من ليل الدنيا، وقيمة البشرية التي تعيشه.. فهذه البشرية هي الموعودة بتحقيق جنة الأرض، في الأرض: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الأرض حيث نشاء فنعم أجر العاملين).. هذه البشرية المعاصرة، هي بشرية اليوم الآخر، الذي من أجل تحقيقه ارسل الرسل، وأنزلت الكتب، وشرعت الشرائع، في جميع حقب هذه الحياة الدنيا" من المؤكد، أن هذا الذي ذكرناه، هو إطار عام للنظرية النقدية، في الاسلام، ويحتاج الى بعض التفاصيل.. ولكنه كاف لاعطاء الصورة العامة، التي نرمي اليها.. وسترد بعض التفاصيل، إن شاء الله، عندما نتحدث عن فلسفة التاريخ.. المهم الآن أن ندخل الى الحديث عن العقل الوسيلة الأساسية للنقد، وفيما تقدم وضحنا اطار التوجيه في الاسلام، الذي يقوم عليه هذا العقل، وبقي أن نربط بين هذا الإطار كمفهوم انطولوجي، وما يقوم عليه من معرفة عملية
خالد الحاج رفاعة - 27 مارس 2008
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
إطار التوجيه والنقد الذاتي النقد أمر طبيعي، وتلقائي، بالنسبة للعقل.. فحياة الكائن البشري كلها، تقوم على تمييز العقل بين قيم الأشياء، والسلوك وفق هذه القيم. ولكن هذا، لا يجعل كل انسان، صاحب تفكير نقدي، بالمعنى الاصطلاحي.. فالتفكير النقدي هو التفكير الذي يقوم على نظرية في الكون، توجه الفكر، وتعطيه الموازين، التي يزن بها قيم الأشياء بدقة، ويحدد وفقها الوسائل والغايات، ويحدد الصحيح من الخاطيء، والحق من الباطل، والنافع من الضار، بالصورة التي تعين على توجيه العمل البشري، الوجهة الصحيحة المطلوبة، وتعين على خلق اطار عام، يجعل الحوار بين البشر ممكنا.. هذه النظرية عند الماركسية، مثلا، هي المادية الديالكتيكية، وفي الاسلام هي التوحيد.. ولكن هنالك، صورة من النقد السلبي، الذي يقوم على مجرد معرفة الأخطاء، وتصحيحها، مثل هذا التفكير، هو ما نجده عند كارل بوبر، وهو نقد لا يصلح إلا في اطار محدود، هو إطار العلم المادي التجريبي.. وحتى في هذا المجال، هو يقوم على اطار paradigm توجيه .. العقل لا يمكن أن يعمل دون إطار توجيه، يحدد وفقه أسس الخطأ والصواب، والضار والنافع.. قد يكون هذا الإطار صحيحا أو خاطئا.. وقد يكون واضحا ومحددا، عند صاحبه، أو غير واضح ولا محدد، لكنه في جميع الحالات هو موجود، حتى عندما يكون هذا الإطار، هو مجرد المصلحة الذاتية، التي يقيس وفقها عقل الفرد، ما هو صحيح وما هو خاطيء، وما هو نافع وما هو ضار.. فلذلك ليست القضية نظرية أو لا نظرية، وإنما القضية: أي نظرية!؟ فالنقد، بل والتفكير كله، تتوقف صحته، من خطأه، على صحة أو خطأ النظرية، التي توجه العقل، وتعطيه الموازين التي يزن عن طريقها الأشياء، ويحدد قيمتها.. ومن هنا، تأتي الأهمية القصوى للنظرية و إطار التوجيه، الذي تعطيه للفكر والحياة، فصحة التفكير وخطأه، وصحة النقد أو خطأه، يعتمدان، بصورة جوهرية، على صحة النظرية أو خطئها.. وصحة النظرية - أي نظرية - تتوقف على تصورها لطبيعة الكون، والقانون الذي يحكمه، وعلى الطبيعة البشرية، وانعكاس ذلك، على تحديد علاقة الفرد بالكون، وعلاقة الفرد بالمجتمع. والحضارة الغربية، على الرغم من أنها، لا تقوم على مذهبية واضحة، ومحددة، إلا أنها تقوم على إطار توجيه، لا يخرج من القضايا التالية: 1. الطبيعة المادية: وهي تمثل إطار التوجيه العام الأساسي.. فالحضارة الغربية، بصورة عامة، تقوم على غلبة التصور المادي للكون.. وغلبة التصور المادي للحياة.. وهذا لا يعني بأية حال، الغياب التام للجانب الروحي - هذا في تقديري أمر مستحيل - وإنما يعني أن الغلبة والهيمنة للتفكير المادي والحياة المادية.. وحتى لو كانت هنالك أغلبية تؤمن بالله، وبالدين، وبالقيم الروحية، فإن هذا الإيمان دوره ضعيف جدا في توجيه سلوك الناس وتفكيرهم، حتى بالنسبة لأولئك الذين ينتمون للأديان السماوية الكبرى مثل الاسلام، والمسيحية، واليهودية.. فجميعهم يغلب على تفكيرهم وسلوكهم الجانب المادي.. فالعبرة بالإطار الذي يوجه التفكير والسلوك، في الحياة اليومية، وهذا قطعا، بالنسبة للحضارة السائدة، ليس الدين وقيمه، وإنما هو المادية. 2. العلمانية: العلمانية تقوم على توكيد الحياة الدنيا، وتوكيد العقلانية وحرية الفكر، بمعنى أن يكون العقل هو الحكم الفيصل في كل قضايا الفكر والمعرفة.. وأن يكون العقل حرا، في تناول هذه القضايا، دون حجر عليه، ودون الحاجة للإعتماد على شيء خارجه. 3. المنهج العلمي: والمقصود به منهج العلوم المادية التجريبية.. فالعلم، ومنهجه، هو أعظم انجازات الحضارة الغربية، وهو صاحب الأثر الأكبر على تفكير الناس.. فعليه يقوم تصور الكون، والقوانين التي تحكمه.. ومنهج العلوم التجريبية، كان يعتبر، والى حد كبير لايزال، المنهج العلمي الوحيد، وكل منهج غيره، لا يتصف بصفة العلمية.. وتطبيق هذا المنهج في الحضارة الغربية، ليس قاصرا، على مجال العلوم الطبيعية، فهو عندهم يحكم التفكير العلمي الصحيح بصورة عامة.. وهذا المنهج، هو الذي زاد من توكيد مادية الحضارة.. وتطبيقاته، وما تم عبرها من انجازات أخصبت الحياة البشرية، هي صاحب الدور الأكبر في هيمنة الجانب المادي، على حياة البشر.. 4. اللبرالية: إن أهم الأسس التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية في الحضارة الغربية، هي: اللبرالية ، والديمقراطية، والرأسمالية.. وثلاثتها محكومة بأطر التوجيه المذكورة في النقاط الثلاثة، أعلاه.. واللبرالية، هي توكيد للفردية، والحرية الفردية، والملكية الفردية. هذه هي أساسيات اطار التوجيه في الحضار الغربية.. وجميعها ، لها وجهها من الحق، ولكنها جميعها أيضا، تقوم على خلل، وقصور، أساسيين، بصورة تجعل الحضارة الغربية، حضارة فاسدة في جوهرها ، وهذا ما سنبينه في موضعه، عندما نتحدث عن الحضارة الغربية.. جميع مصطلحات الحضارة الغربية، الأساسية، مرتبطة، ببعض هذه الموجهات، ومحكومة بها، وينبغي النظر إليها في إطارها.. فجوانب الصحة، وجوانب الخطأ، في هذه المصطلحات، يرجع بصورة اساسية الى إطار التوجيه، الذي يقوم على النقاط الأربعة المذكورة.. وهذا ، ما سنتناوله ، بالنقاش، عند نقد الحضارة الغربية. إن أهم ما نود الإشارة اليه هنا هو أن أهم ما يميز الاسلام كنظرية نقدية، الى جانب التصور الذي يعطيه التوحيد للكون وللطبيعة البشرية، والقانون الذي يحكمهما، هو أن إطار التوجيه في الاسلام ليس تصورا خارجيا فقط، وإنماهو أساسا تحقيق داخلي!! فالتوحيد، الذي هو إطار التوجيه الأساسي، هو صفة الموحد (بكسر الحاء) - صفة الانسان. وهذا يجعل الميزان الذي وفقه تتحدد قيم الأشياء ليس هو العقل الخام - العقل المجرد - كما هو الحال، عند جميع النظريات النقدية الأخرى، وإنما هو عقل المعاد.. وعقل المعاد، هو نفس عقل المعاش، ولكن بعد أن يتم تأديبه، وتهذيبه، عن طريق المنهاج، منهاج (طريق محمد) عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.. وهذا التهذيب عمل في النقد الذاتي، وفقه يتم الانتقال من عقل المعاش الى عقل المعاد، والتسامي في مراقيه.
النقد الذاتي هو أساس النقد وجوهره النقد الذاتي، في الاسلام، هو عمل دائم، يستوعب الحياة جميعها، في كل تفاصيلها.. والى ذلك الاشارة بقوله تعالى، لنبيه: (قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له وبذلك أمرت، وانا أول المسلمين).. والنقد الذاتي وسيلة لتحقيق كمال حياة الفكر، وحياة الشعور.. هو وسيلة لتحقيق انسانية الانسان.. وهذه هي غاية الانسان، وغاية الأكوان.. وقد سبق أن ذكرنا، أن في الاسلام، ليست هنالك غاية في ذاتها إلا الانسان.. وكل شيء في الوجود، إنما هو وسيلته.. فتحقيق انسانية الانسان هو جماع التكليف الديني، في جميع أكوان وجود الانسان.. في هذه الحياة الدنيا، وفي دنيا البرزخ، وفي النار، وفي الجنة.. والنقد الذاتي، الذي يقوم عليه منهاج (الطريق)، غرضه تحقيق هذه الغاية.. فالسالك وفق هذا المنهاج، عمله يكون صحيحا، بالقدر الذي به يتغير في اتجاه تحقيق انسانيته، فإذا لم يحدث التغيير المطلوب، أو توقف من النمو، فلا بد أن هنالك خطأ ما، في تطبيق المنهاج، فعلى السالك تصحيح هذا الخطأ، عن طريق النقد الذاتي، والذي يقوم على معرفة عيوب النفس، ومعرفة عيوب العمل، لتصحيحهما والانطلاق في مراقي الانسانية.. وعمل المنهاج كله، يقوم على التجربة، في الخطأ والصواب، بالصورة التي تعين العقل على القوة والاستحصاد، حتى يكون على الاستقامة، ويقود النفس الى الاستقامة.. وبذلك يتم الانتقال المتدرج، من الحياة الحيوانية - الحياة الدنيا - نحو الحياة الانسانية - الحياة العليا أو الأخرى.. أو من النفس الأمارة بالسوء الى النفس الكاملة.. وقد سبق أن ذكرنا أن الانسان، ما دامت تسيطر عليه صفات الحيوان، خضع لها أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا.. فالحد الأدنى، من تحقيق انسانية الانسان هو تجاوز صفات الحيوان، بصورة تامة.. وهذا يعني، ضمن ما يعني، أن يكون ما يسير الانسان في جميع حياته، الفكر، بدل الغريزة التي كانت تسيره في مرحلة الحيوانية.. فالانسان، هو برزخ بين الملائكة والأبالسة، وهو نقطة التقاء النور والظلام - العقل والشهوة - وقد أمر العقل في الإنسان، بترويض الشهوة.. وعلى هذا قام التكليف، وبه ظهر الإنسان.. فانسانية الانسان تحدد بدخول ( القيمة) في حياته.. تلك القيمة التي جعلته يفارق خط الحيوان، حيث الغرائز والشهوات هي التي تسيره، الى خط الانسان، حيث الغرائز تخضع لسيطرة وتوجيه العقل. فالنقد الذاتي يهدف، أول ما يهدف الى تحرير الفكر.. فالنفس العليا التي أشرنا اليها، إنما هي النفس الخاضعة في شهواتها لمقتضيات العقل القوي المستحصد.. والنقد الذاتي، الذي يقوم عليه المنهاج، إنما هو عمل في اعانة العقل على هذه القوة والاستحصاد.. ولكي تتحرر النفس من ربقة الحيوانية، وتستقيم، لا بد أن يستقيم العقل أولا، حتى يفكر التفكير المستقيم.. فالفكر موؤف بأفات لا حصر لها، وسببها جميعها، الخوف.. والطمع طرف من الخوف.. والهوى صنو الخوف.. وعمل المنهاج هو التخلص من آفات الفكر، بالتخلص من الخوف، ومن اتباع الهوى .. فالمنهاج كله عمل في ترويض العقول على دقة التفكير.. يقول الأستاذ محمود: "وإنما من أجل رياضة العقول على أدب الحق وأدب (الحقيقة)، حتى تقوى على دقة التفكير ، جاء الاسلام، وأنزل القرآن، وشرعت الشريعة.. فأنت إذا سُئلت عن الاسلام فقل لهم: انه منهاج حياة، وفقه تراض العقول، لتقوى على دقة التفكير.. والله تبارك وتعالى، يقول في ذلك: (وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون).. قوله تعالى: (وأنزلنا اليك الذكر) يعني القرآن المحتوي على الحقيقة، كلها، وعلى الشريعة كلها .. الحقيقة التي أعلى من مستواك، والحقيقة التي في مستواك، والحقيقة التي في مستوى أمتك.. وعلى الشريعة التي هي في مستواك، والشريعة التي في مستوى أمتك - قوله تعالى: ( لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني لتفصل لهم الشريعة التي يحتاجونها، وطرفا من الحقيقة التي يطيقونها، مما يزيد في فهمهم، واحترامهم للشريعة.. قوله تعالى (و) من قوله تعالى: (ولعلهم يتفكرون) يعني مرهم أن يعملوا بالشريعة، بعقول مفتوحة، وقلوب حاضرة.. قوله تعالى: (لعلهم يتفكرون) هو المعلول، وراء كل العلل، والمطلوب وراء كل المطالب، والمقصود وراء كل المقاصد.. يتفكرون في ماذا؟ في السماوات والأرض؟ لا!! ليس فحسب!! فإنما هذا تفكير مقصود لغيره.. مقصود بالحوالة!! أما التفكير المقصود بالأصالة فهو تفكيركم في أنفسكم.. قال تعالى: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ!! أَفَلا تُبْصِرُونَ؟؟) .. " منهاج (الطريق) كله، في عباداته، وفي معاملاته، يقوم على (التقوى)، التي تثمر (الفرقان) .. والفرقان هو التفكير الدقيق، والتمييز السليم، بين قيم الأشياء، وهذا هو ميزان النقد.. وهذا ما جعلنا نقول، أن النقد الذاتي هو أساس النقد وجوهره.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ، إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً، وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) قوله تعالى: (يجعل لكم فرقانا) يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم بها تفرقون بين الحق والباطل.. يعني يجعل لكم مقدرة في عقولكم، بفضل التقوى، بها تقوون على التفكير الدقيق، والتمييز السليم.. فالتقوى (شجرة) والفرقان (ثمرة) .. وكلما تدق التقوى، يدق الفرقان، ويقوى.. والتقوى مستويات، والفرقان مستويات.. وأغلظ مستويات التقوى ما يكون عند المؤمن العادي، وهو مستوى الحلال البين والحرام البين.. ثم يتم التسامي في مراقي التقوى، بصورة منهجية، الى مرتبة الورع، فصاحب اليمين، فالبر، فالمقرب، ثم صاحب الاستقامة، وهو يقابل النفس الكاملة.. وليس للكمال نهاية، وكذلك ليس للإستقامة نهاية. إن غرض النقد الذاتي، الذي يجري بهذه الصورة التي ذكرناها، هو ترويض العقول على التواضع، وعلى المحايدة، وعلى البراءة من الغرض، حتى تستطيع أن ترى حقيقة الأمر على ما هو عليه، وبذلك تملك الميزان الدقيق والسليم، الذي به تزن قيم الأشياء، دون أي تدخل، من الذات يفسد هذا الوزن، بعد أن تكون الذات قد تخلصت، بفضل الله، ثم بفضل العمل بالمنهاج، من كل الانحيازات.. وههنا يكون الفكر، ليس تعملا، وإنما هو طبيعة، قد تصفت من جميع أسباب التواء الفكر، وضعفه، وقلته.. نحن هنا لسنا بصدد التفاصيل فيما يتعلق بالنقد الذاتي، كما هو في منهاج (الطريق)، وإنما أردنا فقط توكيد أهمية التربية العقلية السليمة، التي يقوم عليها الاسلام، كنظرية نقدية.. وهذا، أمر غائب تماما، في جميع النظريات النقدية الأخرى، الأمر الذي أدى، ويؤدي الى اضطرابها وعجزها.. ومن يحب أن ينظر في التفاصيل، نحيله الى كتاب (تعلموا كيف تصلون).
خالد الحاج عبدالمحمود رفاعة في 8/4/2008[/size]
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
بسم الله الرحمن الرحيم الاستاذ محمود محمد طه في الذكري الثالثة والعشرين محاولة التعريف بأساسيات دعوته
(وإنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين) الإسلام كنظرية نقدية نقد الواقع
إن ما يحدد نظرتنا للواقع، وتعاملنا معه، هو موقفنا من الحقيقة.. بل إن موقفنا من الحقيقة، هو الذي يشكل جميع تفكيرنا، وحياتنا .. وفي الاسلام - كما سبق أن ذكرنا - الحقيقة واحدة، ومطلقة.. وهي الذات الالهية .. ولأن الحقيقة مطلقة، فلا شئ في الوجود، يمكن أن يقوم من دونها، أو يكون على غير صلة بها .. فكل شئ في الوجود هو وجهها (واينما تولوا فثم وجه الله) .. فهي مهيمنه على الوجود هيمنة مطلقة .. وهذه الهيمنة، هي دين الاسلام العام، الذي لا يخرج عنه خارج، ولايشذ عنه شاذ .. فأي نظرة، لأي شئ في الوجود، دون اعتبار هذه الحقيقة، هي نظرة قاصرة، ومنبتة!! ولما كانت الحقيقة هي صاحبة الفاعلية المطلقة في الوجود، فكل مايحدث في الوجود هو تجلي لقدرتها - تجسيد لهذه القدرة - وهذا هو الواقع .. والقدرة هي تنزل عن الارادة، والارادة تنزل عن العلم، ولذلك قلنا ان الواقع هو تجسيد علم الله، فهو مصنوع من مادة الفكر.. وقد أوردنا قول الأستاذ محمود في هذا الصدد، ونعيده هنا، فهو قد قال من كتابه (القراّن ومصطفي محمود والفهم العصري).. "فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط والمطلق في ذلك - وانه لحق ان العلم قد صنع من مادة الفكر ومن اجل ذلك جاءت كرامة الفكر .. ولم يجعل الله هادياً في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر.. وانما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع .. قال تعالى: (وأنزلنا اليك الذكر، لتبين للناس، ما نزل إليهم، ولعلهم، يتفكرون) .. فكأن العقل إذا روّض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، "ادب الوقت"، اصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه .." ولوأن الواقع والفكر بينهما اختلاف نوع، لما أمكن للفكر، ان يتعامل مع الواقع .. فكون الواقع، مصنوع من مادة الفكر، هو جوهر العلاقة بين الفكر والواقع، كما هو جوهر تميز الانسان على جميع خلق الله .. وهو الذي أعطى الانسان إمكانية، ان يكون خليفة الله، وجعل هذا واجبه الاساسي بل وقدره المقدور. وفي حين ان الحقيقة واحده، ومطلقة، فإن الحق والباطل، متعددان ونسبيان .. فالباطل ليس اصلاً، في الوجود، وإنما هو فرع .. فالباطل لاوجود له في الحقيقه، وانما وجوده وجود عقلي، وجود شرعي، وذلك لان كل مايدخل الوجود، لايدخل إلا بارادة الله .. وإرادة الله، لا تكون باطلاً، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً .. وإنما هي دائما تكون لحكمة، وهذه الحكمة الالهية، هي وجه الحق الذي في الباطل.. فالباطل هو وجه الحق البعيد من الحقيقة، في حين ان الحق هو الوجه القريب منها .. وكلاهما متحرك يطلب الحقيقة، ونسبيتهما، هي نسبة قربهما، أو بعدهما من الحقيقة. وأمر هذه الثنائية، هو امر ضروري جداً، لادراك العقول البشرية، فهي لا تدرك الأشياء الا بضدها، ولذلك خلق الله تعالى الازواج .. قال تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون * ففروا الى الله، اني لكم منه نذير مبين).. فالحكمة من خلق الازواج هي تمكين العقول من الادراك: "لعلكم تذكرون" والتذكر عملية مزاوجة بين طرفين: الذاكرة والخيال .. قوله "فروا الى الله" يعني فروا من التعدد الذي يقوم عليه ظاهر الواقع، الى الوحدة، التي تقوم عليها الحقيقة .. أو فروا من الادراك الشفعي - إدراك العقول - الى الادراك الوتري – ادراك القلوب!! لقد سبق ان ذكرنا، أن الواقع هو تجلي الله .. والتجلي هو ظهور "الأمر" في الزمان والمكان يقول تعالى: (كل يوم هو في شان) وشأنه تعالى، هو ابداء ذاته لخلقه ليعرفوه .. ويومه هنا، هو لحظة التجلي، وهي تدق حتى تخرج عن الزمن .. والزمن هو اكبر خلق الله، على الاطلاق، والمكان هو مظهر الزمان، وللوحدة بين الزمان والمكان، اصبح يعبر عنهما في العلم الحديث بالزمكان .. ومايظهر في الزمان والمكان - الواقع - يشمل النور والظلام، الخير والشر، الحق والباطل .. الخ، ولكن هذه الثنائيات ليست متساوية، فدائماً أحدها أصل، والثاني فرع، والاختلاف بينهما اختلاف درجة .. فالنور أصل، والظلام فرع .. والخير اصل والشر فرع.. والحق اصل والباطل فرع ..الخ وجميعها متحركة، والحركة دائماً من الفرع، نحو الاصل، والاصل نفسه متحرك، يطلب الحقيقة – وقد سبق الحديث عن ذلك .. ومانريد ان نؤكده هنا هو أن الحركة في الواقع هي حركة هادفة، وليست عشوائية .. وغايتها النهائية هي الحقيقة .. وهي في سيرها نحو هذه الغاية، في كل وقت جديد تنزل منزلة جديدة.. وهذه المنازل وفقها يتحدد الحق والباطل .. وهذا مايسمي "حكم الوقت" وهو أمر هام جداً، ولا يمكن من دونه قراءة الواقع، قراءة صحيحة .. هذا الذي ذكرناه، من ان الحركة في الكون، حركة هادفة، هو مايعبر عنه ب "الغائية الكونية "، وهو أمر غائب تماماً في الفكر الغربي، وهذا من اكبر صور قصور الحضارة الغربية – كما سنري في موضعه .. المهم أن القراءة الصحيحة للواقع، لاتقوم على مجرد رؤية أحداث الواقع، وانما تقوم على رؤية الحكمة من وراء هذه الاحداث ..وإذا لم يكن هنالك ايمان، بوجود حكمة، وراء احداث الواقع - وهذا ما عليه الفكر الغربي في معظمه – فلا يمكن ان تكون هنالك قراءة صحيحه للواقع، وانما ينظر الى أحداثه كأحداث عشوائية، اعتباطية، وهذا جوهر ما يقوم عليه فكر مابعد الحداثة. علينا أن نصطحب هذه النقطة معنا، دائماً، لانها تشكل جوهر الاختلاف بين الفكر الاسلامي، والفكر العلماني..
حكم الوقت: تتحدث بعض مدارس الفكر الغربي، عن النظرة التاريخية أو التاريخانية .. وهي تعني في تبسيط، تأثر الفكر والحياة، بالظروف التاريخية، فلا يمكن مثلاً، ان تسبق الاشتراكية الرأسمالية، ولا أن تسبق الرأسمالية الاقطاع .. فظروف التاريخ، ومايحدث فيه هي التي تحدد طبيعة المرحلة .. وفي الغالب، تقوم هذه النظرة على مفهوم تطوري .. ما يقابل هذه النظرة من الاسلام هو مفهوم "حكم الوقت" وهو، وإن كان يسير في نفس إتجاه النظرة التاريخية إلا أنه اكمل منها بما لا يقاس .. وإنما يجئ الاختلاف الجذري، بين النظرتين، من أن مفهوم "حكم الوقت" يقوم على "الغائية الكونية" وهي بدورها، تقوم على أن وراء احداث الكون، إرادة مدبرة حكيمة، تضع كل شئ في موضعه .. ويمكن فهم مرامي هذه الارادة المتفردة، وحكمتها عن طريق العمل بالمنهاج الذي وضعته للبشر وهو منهاج، في جملته، يعمل على خلق الصلة بمصدر هذه الارادة، والتلقي عنه ومعرفة حكمته، وراء فعله، والعمل وفق هذه المعرفة وهذا ما يعرف في الدين ب- "أدب الوقت" .. فعن طريق العمل بالمنهاج، والتأدب بادب الوقت نعرف حكم الوقت، فتظهر لنا حكمة الله الباطنة وراء فعله الظاهر، ونكون على بينة من الامر، في الفكر وفي السلوك .. وهذا لا يوجد له أي مقابل، في الفكر الغربي .. بل ان مجرد، مفهوم "الغائية الكونية" في هذا الفكر غائب . جل ما نريد أن نقرره هنا، هو أن قراءة الواقع، واحقاق الحق وإبطال الباطل، لا يمكن أن تعرف في وقتها، إلا بمعرفة حكم الوقت، وهو ببساطة: الحكمة وراء ما اظهره الله في الوقت.. وهذا لا يتم الا عن طريق العقول المؤدبة بادب الوقت (فالعقل، اذا روض، وادب بادب الشريعة، وادب الحقيقة "ادب الوقت"، اصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه)، فهذا العقل هو الذي يدرك القراءة الصحيحة للواقع، فيعرف ماهو باطل حسب حكم الوقت، فهو زائل .. وماهو حق حسب حكم الوقت، فهو باق، ونام .. وبذلك يقوم، بتصفية الرضا من الارادة . والواقع بالطبع درجات، فهنالك الواقع الذي يمثله التجلي اللحظي، والواقع بالنسبة لكل فرد، في كل جزيئات حياته .. والواقع بالنسبة للمجتمع المعين، أو الدوله المعينة، والواقع للحضارة ككل .. وكل هذه المستويات متداخله، ومتكاملة.. ونحن ما يعنينا هنا هو الواقع الحضاري بالذات، وهو مؤثرعلى جميع صور الواقع الاخرى .. ولمزيد من البيان، وحتي تكتمل الصورة، سنعرض نماذج من قراءة الأستاذ محمود للواقع، وهي بالطبع قراءة تقوم على تطبيق منهج الاسلام الذي يدعو له .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خالد الحاج: الإسلام كنظرية نقدية (Re: Omer Abdalla)
|
نماذج من قراءة الواقع لقد ذكرنا أن الوجود، يحكمه قانون واحد، هو الارادة الالهية المتفردة .. وقلنا ان الوجود كله سائر الي الله، أو مسير اليه، وفق هذا القانون الواحد .. وهو وجود طبيعته واحدة، ليس فيه اختلاف نوع، وإنما كل إختلاف فيه هو اختلاف درجة .. والحركة في الوجود حركة، تطورية، من الجهل الى العلم، ومن الباطل الى الحق، ومن التعدد الى الوحدة، ومن الكثافة الى اللطافة.. فكل الذي يفنى في الوجود، هو الوجه الغليظ من الاشياء .. وغاية الوجود، هي تحقيق الانسان – الخليفة - وهي غاية تتحق، في مراحل، أو دورات لولبية .. وكل ذلك ذكرناه، وهو مما يعين، إعانة فعالة، على قراءة الواقع ، ومعرفة حكم الوقت . والمنهج الاساسي، في معرفة حكم الوقت، وفي المعرفة عموماً هو "الكشف" ويجب الا يكون هنالك غموضاً، في استخدام المصطلحات.. فالكشف ببساطة هو ظهور الحقائق، من العقل الباطن الى العقل الواعي .. والعقل الباطن، في الدين، هو القلب .. وكل المعرفة، سواء دينية أو غير دينية، هي تقوم على هذا الكشف .. وكل ما هنالك، ان للدين منهاج علمي و عملي لا يتوفر في المجالات الاخري .. ومنهاج الدين في المعرفة، يقوم علي قوله تعالى: (واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شئ عليم) .. وأهم مايقوم عليه هذا المنهاج، هو انه لا يفصل الاشياء، عن بعضها البعض – كما تفعل الحضارة الغربية – وانما هو يعمل على توحيدها .. واهم مايعمل على توحيده هو الزمن نفسه .. فهو يوحد الزمن كله، في اللحظه الحاضرة، فهي وحدها الزمن الحقيقي، وكل ماعداها هو زمن باعتبار الحكمة .. وخلاصة هذا التوحيد، هي أن الكون كله موجود في كل جزء منه .. والزمن كله موجود في اللحظه الحاضرة .. ولذلك، المستقبل موجود في الحاضر، في صورة جنينية، يستطيع العقل ان يراها، وهذه من أهم جوانب معرفة الواقع. إن الواقع الذي يعنينا هنا، كما سبق أن ذكرنا، هو الواقع الحضاري، والمستويات الاخرى، بما فيها الواقع الفردي، تتبع، ولذلك سنجعل حديثنا قاصراً عليه نماذج من قراءة الواقع الحضاري: نقد الواقع يقتضي التمييز بين ماهو في طور الفناء منه، ولم يعد مما ينفع الناس، وما هو في طور التشكل، وينتظر ان تكون له السيادة، بل وينبغي ان تكون له السيادة، لانه الحق حسب حكم الوقت الجديد، ولانه مما ينفع الناس .. بل في بعض الحالات لا يمكن لحياة الناس ان تستقيم من غيره.. وهذا الاخير – الذي لا يمكن لحياة الناس ان تستقيم من غيره – هو الأهم .. ونحن هنا سنورد بعض النماذج لقراءة الأستاذ محمود، للواقع، وهي قراءة تقوم على التوحيد، والمعرفة بحكم الوقت، ثم هي منطقية وواضحة، للعقول المختلفة . إن اهم مرتكزات، قراءة الأستاذ محمود للواقع الحضاري، يمكن أن تلخص في النقاط التالية: 1/ إن حكم الوقت يقضي على البشرية، على مستوي الكوكب الارضي أن تتوحد .. وهذا يحدث لاول مرة في التاريخ، وهو يشكل التحدي الأساسي، لاي فكر او دين يطرح نفسه، كما هو يشكل التحدي الاساسي للحضارة القائمة . 2/ وحدة البشرية، تقتضي، ان يلتقي الناس على ما يجمع بينهم وهو العقل والقلب، أو الفكر والخلق، وان يتجاوزوا تماماً ما يفرق بينهم، وأهم مايفرق، اعتبارات: العنصر والجنس، والعقيدة، واللون، والتفاوت في الحقوق والواجبات، خصوصاً في السياسة والاقتصاد . 3/ إن جوهر ماتقتضيه الوحدة البشرية هو السلام .. السلام الفردي، والسلام في المجتمع .. والسلام، يقتضي كل ماذكر في النقطة الثانية، واكثر!! وهو يقتضي بصوره خاصة زوال جميع اسباب الحرب، والعنف، والعدوان، في النفس البشرية، وفي المجتمع البشري. 4/ الحضارة الغربية، ادت دورها التاريخي .. أدته حتى استنفدته .. ودورها التاريخي، الذي قامت عليه حكمة دخولها الوجود، هو اخصاب الحياة المادية، الحياة الدنيا، وتوفير الوسائل العلمية والتكنولوجية الضرورية، لهذا الامر .. ثم رفع وعي الافراد بالصورة التي تجعلهم يتطلعون الى إشباع حاجاتهم الفكرية والروحية، وتحقيق انسانيتهم .. وقد فعلت الحضارة الغربية كل ذلك، ولم يعد عندها ماتقدمه، خارج الاطار المادي، والاطار المادي لم يعد وحده كافياً، فلابد من حضارة جديدة، تستجيب لتحديات الواقع الجديد .. ونذكر بالقاعدة الاساسية في التغيير، وهي: كل الذي يفني هو الصور الغليظة للاشياء، ومايبقى هو ماينفع الناس .. ونعتقد أن الحضارة الغربية بلغت نهاية تطورها، في النصف الثاني من القرن العشرين.. ثم أخذت – بمقياس تحقيق أنسانية الانسان، وحل مشكلاته - تتدهور وتفشل كل يوم جديد .. بل اخذت تتخلى عن بعض قيمها الايجابيه، وبدلاً عن حل المشاكل أخذت تخلق مشاكل جديدة، سواء بالنسبة للفرد البشري، أو للمجتمع البشري .. وهذا كله سنبينه في موضعه.. 5/ ما يقال عن الحضارة الغربية، كحضارة مادية، يقال عن الدين، وبصورة أوكد.. فالدين بصورته التاريخية، التقليدية، والتي تقوم على العقيدة والاذعان فقط، لا مجال له في الواقع الجديد، ولا يستجيب للحد الأدنى من تحديات هذا الواقع.. فالدين لا يمكن ان يستجاب له، إلا إذا اقنع العقول الذكية المعاصرة، وإلا إذا قدم حلولا عملية لمشكلات الانسانية، وهذا يقتضي أن يرتفع من مستوى مجرد العقيدة، الى العلم.. مع ملاحظة أن الايمان هو المقدمة الطبيعية، لأي علم، مادي أو روحي، ديني أو دنيوي.. 6/ خلاصة قراءة الواقع تقول ان البشرية المعاصرة، وصلت الى قمة تطورها البشري، وهي قد تهيأت لدخول عهد انسانيتها. وهذه هي الغاية الكونية، التي يعمل لها الكون كله، وليس الحياة فقط.. يقول تعالى: (وسخر لكم ما في السموات والأرض، جميعا، منه) ويقول: (ولله جنود السموات والأرض).. فقوى الخير، وقوى الشر جميعها، مسخرة للإنسان، مسخرة له، لتحقيق انسانيته، وليبرز الى مقام عزه، كخليفة لله في الأرض.. وقد استعدت الأرض لهذا النبأ العظيم، وليس لها عنه مندوحة فإن الله بالغ امره . والآن لنرى، من أقوال الأستاذ محمود ما يؤكد هذه النقاط الخاصة بقراءة الواقع الحضاري، وما تقتضيه هذه القراءة.. أو بعبارة أخرى نقد الواقع.
وحدة الكوكب الأرضي ومقتضيات هذه الوحدة: لقد تحدث الأستاذ محمود، عن وحدة الكوكب الأرضي، بوقت طويل قبل ظهور مصطلح (العولمة).. وعلى كل، هنالك اختلاف جذري بين رؤية الأستاذ لهذه الوحدة، ورؤية العولمة لها. لقد جاء من كتاب الأستاذ محمود (رسائل ومقالات الأول) قوله: "هذا الكوكب الصغيرالذي تعيش فيه الانسانية، وحدة جغرافية، قد ربط تقدم المواصلات الحديثة السريعة بين اطرافه ربطا ألغى الزمان، والمكان، الغاء يكاد يكون تاما، حتى لقد اصبحت جميع اجزاء المعمورة تتجاوب في مدى ساعات معدودات للحدث البسيط يحدث في اي جزء من اجزائه.. يضاف الى ذلك ان هذا الكوكب الصغير معمور بانسانية متساوية في اصل الفطرة وان تفاوتت في الحظوظ المكتسبة من التحصيل والتمدين.. فينبغي والحال هذه، بل انه في الحقيقة، ضربة لازب ان تقوم فيه حكومة واحدة، تقيم علائق الامم على اساس القانون كما تقيم حكومات الامم - كل في داخليتها - علائق الافراد على اساس القانون.. فذلك امر مستطاع، بل هو امر لا معدى عنه.. فان المتتبع لتطور الحياة يعلم جيدا ان مسالة الوحدة العالمية مسألة زمن فقط".. وهذا المعنى ورد بصور مختلفة، في مواقع عديدة جدا، من كتابات الأستاذ، وأقواله، ونحن لا نحتاج لمتابعتها، ولكن يمكن ايراد بعض النماذج الأخرى، فقد جاء من كتاب (التحدي الذي يواجه العرب) الصادرة طبعته الأولى في سنة 1967 قوله: "بايجاز فإن التحدي الذي يواجه البشرية اليوم هو أن الكوكب الذي نعيش فيه قد اكتملت له الوحدة المكانية، وقد اصبح يتطلب من البشرية التي تعيش فيه، أن تحقق الوحدة الفكرية بين افرادها، حتى يستطيعوا أن يتعايشوا في سلام - إن لم نقل يعيشوا في سلام - مع اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وعاداتهم، وعقائدهم، فإن هم عجزوا عن ذلك فسيكون مصيرهم مصير كل الأحياء الذين عجزوا عن أن يوائموا بين حياتهم وبين بيئتهم - وقد جرت بذلك سنة الأولين .. وتوحد البشرية عن طريق الفكر - وليس هنالك من طريق سواه - يتطلب مدنية تعطي منزلة الشرف للفكر".. ولقد جاء من كتاب (مشكلة الشرق الأوسط) اكتوبر 1967 في الفصل الأول تحت عنوان (صور الأشياء) قوله: "هنالك ثلاثة امور لابد من استيقانها:- أولها: أن حكم الوقت يقضي على هذه البشرية التي تعمر هذا الكوكب أن تتوحد وثانيها: أن هذه البشرية لكي تتوحد، لا بد لها من السلام. وثالثها: أنها من أجل السلام لا بد لها من المدنية التي تنشر حكم القانون العادل".. وقد جرت تفاصيل في كل هذه الجوانب، ويمكن لمن يشاء أن يرجع اليها. ويقول الأستاذ محمود، عن مقتضيات وحدة الكوكب الأرضي، ما نصه: "بفضل الله، ثم بفضل هذه الكشوف، أصبحت الانسانية تعيش في بيئة طبيعية جديدة .. بيئة صغيرة موحدة.. ولكي توائم الانسانية بين مذاهبها الاجتماعية، وبيئتها الطبيعية هذه الموحدة، أصبح لزاما، أن تبرز الى حيز الوجود، مذهبية اجتماعية، عالمية، موحدة، أيضا، عندها تلتقي الانسانية جمعاء، التقاء اصالة، بصرف النظر عن اختلاف اللون واللسان والموطن. وبنفس القدر الذي به اصبحنا نعيش في بيئة، واحدة، فقد وجب علينا أن نفكر تفكيرا جديدا، تفكيرا يتسم بالأصالة، وبالشمول، وبالدقة.. ووجب علينا أيضا أن نعيد النظر فيما تواضع عليه الناس، في العهود السوابق، من مفاهيم ومدلولات"
| |
|
|
|
|
|
|
|