|
لماذا اقتتلنا كل هذه السنين
|
هذا الموضوع أرسلته للأخ الزاكي منذ أكثر من شهر لينشره بمجلته ، لكن يبدو أن الزاكي لا يرغب في ذلك أو أن لديه إشكالات فنية ، وعلى كل حال فإن نشره هنا لا يلغي حق الزاكي في نشره هناك ، عامل نفسي مهم !!!!
لماذا اقتتلنا كل هذه السنين ؟ كلما اقتربنا من إرساء أسس السلام ، وكلما اقتربنا من توقيع الاتفاق النهائي ، يزداد رسوخ هذا التساؤل في ذهني ، أعلم أن البعض يمكن أن يقول أنه تساؤل غريب وساذج ، لأن الكل يعرف مسببات هذه الحرب اللعينة التي عطلت مسيرة التنمية في الوطن لنصف قرن من الزمان . لكني في طرحي لهذا التساؤل لا أسعى أبدا للحصول على إجابة تعدّد لي مسببات الحرب ، سواء كانت هذه الأسباب تاريخية أو اجتماعية أو سياسية أو جغرافية . أنا فقط أتساءل ، لماذا ارتضينا الآن ما لم نرتضيه بالأمس ؟ لماذا توصلنا إلى هذا الحل الذي توصلنا إليه الآن ولم نتوصل إليه من سنين عديدة ؟ لماذا أجلنا هذا الحل كل هذه السنين ؟ ولماذا أصلا أوجدنا الفرصة لتراكم مسببات الحرب ؟ ولماذا عمقّنا جذور الفرقة إلى هذا الحد ؟ لو أننا كنا جادين من البداية ، ولو أننا كنا وطنيين مخلصين ، ولو أننا لم نبتلى بالأنظمة العسكرية والشمولية ، لكانت هذه الحرب انتهت منذ أمد بعيد ، بل ربما لم تقم الحرب أصلا لو أننا أرسينا من البداية مجتمعا إنسانيا يرعى العدالة والحرية والمساواة . مجتمعا سودانيا يعامل أبناءه على أساس المواطنة . ونحن حاليا نعترف بأننا ظلمنا ، وبأننا قصّرنا ، وبأننا أخطأنا ، وبأننا نقضنا عهودنا ، وبأننا فشلنا في وضع لبنات المجتمع الذي نريده لنستمتع بالوطن الذي نريده ، نعترف الآن فقط بعد ما أحلنا وطننا إلى خراب . نحن طيلة السنين الماضية كنا نكابر ونغالط ، كنا نغالط أنفسنا ، ونغالط غيرنا ، كنا ندفن رؤوسنا في الرمال ، ونتهم المظلوم بأنه هو الظالم ، مرة أسميناه متمردا ، ومرة أسميناه قاطع طريق ، ومرة أسمينا عمله نهبا مسلحا ، لكن كل هذا لم يلغي الحقيقة ، والحقيقة أن العدالة منعدمة ، وأن الديمقراطية مغضوب عليها ، وأن المساواة ليست جزءا من تكويننا وأن العدل مفقود ..... مفقود . واجهنا كل حاملي السلاح بالسلاح ، وطحنّا بعضنا بالسلاح ، وأدرنا ظهرنا لكل الصامتين ، بل جعلناهم وقودا للحرب في كثير من الأوقات . كنا نتصور أن السلاح سيحل مشكلتنا ، كنا نأمل في إخافتهم ، وفي قهرهم ، وفي إسكاتهم ، وما عرفنا أبدا انهم حتى لو صمتوا فإن صمتهم سيكون صمتا مؤقتا . لكن الأيام أثبتت لنا أننا كنا على خطأ ، وأننا استمرأنا أخطاءنا ، وتقصيرنا ، واستمرأنا ظلمنا وإهمالنا . فالسلاح لم يحلّ لنا مشكلة ، والقهر لم يسكت المظلومين ، ونفخة أوداجنا لم تنجح في إخافة أحد . واتضح لنا أننا الهوة تتسع وتتعاظم وتخرج عن سيطرتنا كل يوم . الآن نحن وضعنا ورقة بيضاء أمام حاملي السلاح ، وقلنا لهم اكتبوا طلباتكم ، ونحن سنبصم عليها بالعشرة ، لكنا نسينا مرة أخرى أن نقدم نفس الورقة للمظلومين الذين لا يحملون سلاحا . ونحن نرى الظلم الذي يعيش تحته هؤلاء الصامتون ، وذلك لأننا ما زلنا نؤمل في استمرار صمتهم وركودهم ، ولا نتساءل إلى متى سيظل هذا البركان خامدا . هناك بؤر كثيرة في الوطن يمكن أن تنطلق منها شرارة الحرب ، ونحن اعتدنا أن لا نعالج أي خطأ إلا بعد أن يشهر أحد السلاح في وجهنا . وبالرغم من أن هذا قد تكرر كثيرا في تاريخ وطننا ، أي إشهار السلاح في وجهنا ، إلا أننا فقط ظللنا نسعى لأن نجد لكل تمرد الجديد اسما جديدا ، ثم نشرع في طحن بعضنا البعض ، وبعد أن تتساقط منا أرواح عديدة ، وتباد قرى وغابات وحيوانات ، ويهجّر منا الآلاف ، وبعد أن تهد جبال ، وتحطم طرق وجسور ، نرجع ونقول أننا أخطأنا ، وأننا ظلمنا ، وأننا قصّرنا . ثم نرجع بعد حين ، فنثوب إلى رشدنا ونتخلى عن غينا ، ونهجر مغالطاتنا ، ونرجع فنسمي من كان يرفع السلاح في وجهنا بأنه من أهلنا ، وبأنه وطني غيور ، وبأنه وحدوي ، وننسى بل نلحس كل ما قلناه بالأمس وكل ما رميناه به من إساءات ، ثم نجزم بأننا لن نعود لظلمنا ، ولن نعود لتقصيرنا ، ولن نعود لأخطائنا . نحن مصابون بداء اسمه الثوابت ، كل واحد منا له ثوابته ، كل نظام له ثوابته ، كل مجموعة لها ثوابتها ، وثوابت كل واحد منا تعتبر منطلقات ظلم عند الآخر . ونظل نخوض في هذه الثوابت متناسين أن هناك ثوابت محددة كان يجب أن تكون هي فقط ثوابتنا كلنا ، وأنها يجب أن تصبح أولويات للعمل في وطننا ، وما عداها يعتبر أمورا ثانوية ومتعلقة ببرامج لأفراد أو مجموعات أو منظمات تعمل داخل الأطر العامة . وثوابتنا يجب أن لا تخرج عن دائرة الدين لله والوطن للجميع ،وأن تتضمن التزامنا الصارم بالحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة ، ولا ثوابت تهم الوطن غير هذه ، وأي ثوابت أخرى هي ثوابت أفراد أو مجموعات وليست ثوابت الوطن . نحن ما زلنا نكابر ، وما زلنا نغالط ، وما زلنا نظلم ونقصّر ونخطئ . نحن لم نتعظ من هذه التجربة الطويلة ، والمملة ، والخاسرة ، يبدو أننا خرجنا منها دون أن نحقق نضجا ، ودون أن نبني وطنا ، ودون أن ننشئ المجتمع الذي طالما تمنيناه . ما زلنا نغمض عيوننا عن الثوابت السليمة التي هي ثوابت الوطن ، وما زلنا نتبنى ثوابتنا الخاصة ، التي هي ثوابت الأفراد وثوابت المجموعات . لابد أن نعي أن الظلم قد طال العديد من أجزاء وطننا ، والعديد من أبناء وطننا ، ولابد أن نعي أنه يجب علينا أن نبني المجتمع الذي لا يحترب ، وما ذلك إلا بأن نتخلى عن ثوابت الأفراد والمجموعات ، وننتقل إلى ثوابت الوطن ، ونمنح كل ذي حق حقه ، ونساوي بين مواطنينا جميعا ، ونساوي بين أجزاء وطننا جميعا ، ونمنح الفرصة للجميع ليعيشوا مستمتعين بوطنهم الموحد كما يريدونه ، ممارسين للديمقراطية في كنف العدالة والمساواة والحرية . والوطن ليس ملكا لأحد ، ولا ملكا لجماعة أو لحزب ، ومستقبل الوطن ملك لأجيال لم تولد بعد ، وهؤلاء وغيرهم سيصبون علينا لعناتهم إن سلمناهم وطنا ممزقا ، محتربا ، ومضطربا . والتخلي عن الأنانية الفردية أو الجماعية ضرورة قصوى لتحقيق إنجاز تاريخي ، فلا ينبغي أن نغلّب مصلحتنا الشخصية أو الحزبية على مصلحة الوطن ، وإذا وجدنا أننا نسعى لحماية أنفسنا من محاسبة أو من خسارة على المستوى الشخصي فإن من الأفضل لنا أن ننسحب من الحياة العامة وأن نعود إلى المكان الذي يناسب قدراتنا ، وأن نترك العمل العام لأشخاص يعرفون قيمته ويقدرونه حق قدره ، ويفهمون تضحياته .. إذا كنا قد بلغنا سن الرشد ، وإذا كنا قد استوعبنا تجاربنا وتجارب الإنسانية ، فإن الطريق ستكون واضحة أمامنا ، وإذا ظللنا نغالط ، ونكابر ، ونظلم بعضنا بعضا ، وإذا ظللنا نعيش في وهم مستمر بأن المظلوم يمكن أن يتحمل الظلم أبد الدهر فإننا لن نتمكن أبدا من تشييد الوطن الذي نريده ، وبالتالي ستدور دائرة الحرب بنا مرة أخرى ، ومرة أخرى لن ينقذنا منها إلا أن نبلغ رشدنا .
|
|
|
|
|
|
|
|
|