|
من دررالحقيبة .. كلمات من ذهب .. وتوثيق دقيق لحركة المجتمع السوداني !
|
:: الحقيبة ... هى فى الحقيقة حقبة من الزمن لونت الغناء السوداني بلون معين , فظهرت اغنيات واشعار لها وقع خاص مختلف عن الأغنيات التى نسمعها الان , وكان للظروف الاجتماعية فى تلك الفترة أثرا مباشرا وقويا فى اخراج القصائد على صورتها تلك .
هذه الظروف طبعا اختلفت الان , فكان طبيعيا ان تختلف القصائد , ومسبباتها , وذوق الأذن المستمعة لها .
لو ظهر الشاعر عتيق الان , هل يمكن ان يكتب ( أرجوك يا نسيم روح ليهو ..) , بينما وصال المحبوبة الان قد أضحى على بعد ... مسنجر !.
لقد كان شعراء الحقيبة يلاقون صعوبة كبيرة فى مجرد ملاقاة محبوباتهم ( من بعيد لبعيد ) , ويتفرصون الفرص لملاقاتهن فى الأوقات التى يخرجن فيها , مثل يوم زيارة المستشفى فى قصة القصيدة المشهورة ( حبيبي آه ..قلبي تاه .. فى يوم الزيارة !) , فبالله عليكم ما الذي سيدفع شاعراً من زماننا هذا الى مقاساة اللوعة والحرمان وسهر الليل , بينما محبوبته متاحة بمجرد ( مسكول) أو مكالمة على المحمول ! , وما أكثر الكافيتريات فى السوق العربي , و (بين جناين الشاطي وبين قصور الروم ! ) . وجدت نفسي فى قراءة متمعنة لمجموعة من أجمل قصائد الحقيبة , للشعراء الذين قدموا أجمل الأغنيات السودانية , ولا اخفي عليكم اننى لو كنت مسئولا عن إجازة نصوص الأغنيات ( بتاعت الزمن دا ) لجمعت معظم قصائد أيامنا هذه وسكبت عليها البنزين !.
فيا ترى هل هذا هو ما تنبأ به خليل فرح فى قصيدته ( تم دورو ودور ) حين قال :
( قالو الكون اتطور .. لا عاشق خفيف .. لا جميل يتصور ) !.
لا أود ان أطيل الكلام, ولكني أدعوكم الى سياحة صغيرة لمطالعة هذه المجموعة من قصائد الحقيبة :: (تنبيه : القصائد موضوعة كصورة وليس نص , ربما يستغرق تحميلها بعض الوقت ... فالصبر ! )
لنبدأ مع خليل فرح , وعازه :
قصيدة عزه فى هواك , مثلت صوتا للسودان , بل أن عازه كما كتبها خليل فرح صارت عرفا هى السودان نفسه , ووجدت هذه القصيدة شهرة وقبولا كبيرا , وهى بإيقاع لحنها المميز , من الألحان التى يبدأ بها العازفون تعليم النوتة الموسيقية , لسهولتها وسلاستها .
قبل عشرات السنين , كتب خليل فرح داعيا سكان المدن الى الذهاب الى الضواحي , حيث الحياة الوديعة , البعيدة عن الزحام ( والجوطة) , للتمتع بمناظر الطبيعة الساحرة , وجمال الحسان الريفيات اللواتي قال عنهن المتنبي : حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفى البداوة حسن غير مجلوب كان ذلك قبل عشرات السنين , والخرطوم لم تزل مدينة صغيرة , فيا ترى ماذا كان سيقول خليل فرح لو أنه رأى الخرطوم الان بكل هذا الضجيج والزحام ؟! طالعوا معي قصيدة فى الضواحي , وانظروا الى الوصف المحكم الناطق , خاصة حينما يقول ( يا ام لسانا لسّـع معـجـّـن ) , وانظروا الى الدلال و( الدلع الجد جد) , بتاع الموصوفة , ورغم ذلك , يقول خليل : النفوس ما اتعدت حدودك!
الى قصيدة فى الضواحي :
ونذهب الان غرب النيل , الى مدنية امدرمان , لقد استغربت جدا بعد قراءة قصيدة خليل فرح ( ماهو عارف قدمو المفارق ) , استغربت كيف لا يكون فى امدرمان حي أو شارع أو مؤسسة كبيرة تسمى باسم خليل فرح؟ ان مدى المحبة والتوثيق –ببساطة- الذي قدمه خليل فرح لامدرمان , ربما لم تقدمه لها أجيال من المؤسسات الرسمية , تلك المؤسسات التى تحفر مجاري الخريف , ثم تدفنها بعد الخريف , لتعيد حفرها – بميزانية جديدة – فى الخريف القادم !! . امدرمان التى قال عنها فى القصيدة ( يا ام قبايل ما فيك منافق ! ) , هناك , حيث ( مسرح الغزلان فى الحدائق .. والشوارع الغر , والمضايق ) !. كل هذا الجمال فى امدرمان حينما ابتعد عنه الشاعر قليلا وفارقه , كانت النتيجة هى قصيدته البهية , ( ماهو عارف قدمو المفارق) :
وخليل فرح , كأنه , فى بعض كتاباته , يرى واقعا معاصرا , فمن خلال لمحة سريعة جدا يقدمها لنا عن تأريخ امدرمان , نجده يقول : ( بطرا الأسـسوك زمان ... كانوا نحاف جسوم , ما سمان !! ) , انه يريد ان يشير إشارة زكية الى ان الأجداد من مؤسسي المدينة كانوا أصحاب مبدأ صادق , لا يهتمون بأعراض الدنيا كثيرا , ولم يكنزوا الشحم واللحم فى أجسامهم , ولم يعرفوا الفساد وأكل المال العام ! , فهم نحاف الأجسام , فماذا يقصد خليل فرح بهذه الإشارة ( الخبيثة) يا ترى؟!! . نستشف بعض الإجابات , وواقع الحال من قصيدته ( اذكر بقعة امدرمان ) :
وخليل , له موهبة التصوير اللغوي الذي يضعك فى الصورة تماما , حتى لكأنك تشاهد المنظر نابضا بالحياة امامك . انظروا الى قوله : ( يضاحك فى المرايا خيالو .. ما عارف البموتو حيالو ) ! وهو جزؤ من قصيدته المسماة ( صباحك مالو ) :
موهبة خليل فرح اذن واضحة فى تجسيد المشاهد , وبراعة التشبيه , حتى لكأنه ( رباطابي ) كما نقول !. وهذا واضح حينما نقرا تشبيهه لـ ( سيرة عريس ) , الجميع يسيرون مع العريس , مجموعة من الحسان الجميلات فى ثياب زاهية , فيشبهها خليل تشبيها ( رباطابيا اصيلا ) بقوله :
سيرة زي الروض واحلي فيها كل عين ناعسة كاحلة يـالـهي عـقولنا ذاهلة سـيرة ام دي جنينة راحلة ؟!!!.
واضح طبعا انو عينو ما كانت حاره , دا كان قرض ناس السيره كلهم !.
وخليل فرح يستخدم ايضا الصورة المتناقضة , لينقل المشهد الذى يريده . يقول فى قصيدته ( بلى جسمي ) :
انت كالبدر في علاك وانت كالروض في حلاك انت كالطفل في ولاك وانت للعالمين هلاك !!
انظروا كيف اجتمع الضدان : وداعة الطفل , وإهلاك العالمين !.
واختلاف حال المجتمع مابين زمان والان واضح , تؤكده كتابات شعراء الحقيبة , ومواضيعهم , فهنا خليل فرح يصف مجموعة من (بنات زمان) قائلا :
كلهن متبلمات الا من لحاظن ارحم الجلّ ! ويبدو ان الصورة انقلبت الان , فغالبهن اصبحن سافرات , ومع ذلك , عيونهن ما ببيعملن اى حاجه ! ليس كعيون صاحبات خليل السابقات , او اللائي يقول عنهن :
العقود فوق الصدور جالت والعيون زي السيوف صالت !
ثم ان السيوف نفسها صارت تراثا , فما بالك بالعيون ؟!!
والتشبيه عند خليل فرح يصل حد التجسيد الذى يفوح منه شذى الابداع فى قصيدته المشهورة ( جناين الشاطي ) , فتأمل المشهد الناطق هنا :
الطـريق ان مـرّت بالـخـلوق مزحوم كـالـهـلال الهلَّ النـاس عليها تهوم !
واعتدل فى مجلسك قليلا , وارفع رأسك لتتمكن من مشاهدة كامل القامة العالية للموصوفة هنا:
خـلي جات مرنوعة الصـافـية كالدينار في القـوام مربوعة و شوفا عالية منار
شيء ما , يجذبك الى قصيدة ( جناين الشاطي) , ربما الصورة الناطقة , وربما الاسلوب البسيط المنساب . لنقرأ معا :
فوق جناين الشاطي وبيـن قصور الروم حَـيِّ زهـرة روما و ابـكـي يا مغروم
لو كنت رئيسا لوزراء ايطاليا , كنت اديت خليل فرح الجنسية الايطالية , عشان قصيدة زهرة روما , وقصور الروم دي بس !.
الى قصيدة ( جناين الشاطي ) او ( زهرة روما) :
وننتقل الآن مئات الكيلومترات , من روما الى مدينة ود مدني , فعليكم ان تتخيلوا الفنان محمد الامين , وهو يصدح بتلك الاغنية الجميلة , التى كتب كلماتها شاعرنا خليل فرح , ثم تفكروا , بتأن , فى مدى الدين الفني الذي يدين به وجدان المستمع السوداني , للشاعر الراحل , المبدع , خليل فرح أفندي .
...
نواصل فى المرة القادمة مع شعراء اخرين..
وحتى ذلك الوقت , اليكم هذه الصورة الهدية .. والبكايين يمتنعون !
|
|
|
|
|
|