رجل الفولة والأبيض والمسيرية وكردفان وود لا ينتهى (قصة واقعية مصيرية)
حدثت فصول هذه الحكاية التى أقصها عليكم عندما كنت فى نعومة أظافرى طفلاً صغيراً لم يتجاوز الثامنة أو التاسعة من العمر ، وقد جئت مع أهلى إلى بلدة وديعة فى غرب السودان تسمى "رجل الفولة" تتوسط كردفان بها قوم كرام وأصالة لم أشهدها فى أى مكان آخر فى الدنيا ، وكان ذلك ابان مطلع ستينات القرن الماضى ، عندما تم نقل الوالد عليه الرحمة من مدينة بربر إلى تلك البلدة الوادعة (ناظر) للمدرسة الوسطى حينذاك ، وكان للدنيا وقتها طعم يختلف عن دنيا اليوم حيث الطبيعة تهيمن على كل شىء فى ذلك المكان الوديع ، وهى تختلف تماماً عن مناخ مدينة بربر العظيمة التى أتينا منها بمعية الوالد ، فوجدنا لون الأرض يختلف وسحنة الناس تختلف ، ورأينا لأول مرة الغابات والأشجار والأودية والأفاعى والهشاب وأشجار التبلدى الشاهقة وأنواع الطيور وأسراب النعام والغزال وجداد الوادى والثعالب والسحالى والثيران والأبقار والخضرة تغطى كل شبر من الأرض ، حقيقة كانت (نقلة) كبيرة حتى بالنسبة لعقولنا الغضة ، حتى سحنات الناس وجدناها تختلف فكان هنالك المسيرى والحمرى والبديرى والدينكاوى والشلكاوى والنويرى والجلابى والقبطى والإغريقى وتهيمن بشكل عام سحنة البقارة على عامة الناس فرجل الفولة تقع فى الوسط تماما لمناطق البقارة فى كردفان الحبيبة ، فعرفنا عندها أن وراء هذه الأودية وخلف هؤلاء الشعوب يكمن سر الحياة ووراء كل خط أفق آفاق أخرى وشعوب تختلف عن سابقتها ، وما زال هذا ديدننا فى التعامل مع الحياة إلى يومنا هذا (وفوق كل ذى علم عليم) ، يا سبحان الله ، هل تصدقون أنك يمكن أن تفتح باب الشارع فترى أول ما ترى نعامة تهرول أمامك ، وإذا أردنا أن نفعل هذا بمقاييس اليوم ، فعلينا أن ندفع آلاف الدولارات لنذهب لمنتجعات نيروبى أو أدغال أفريقيا ، أو جزر الكاريبى لصناعة مثل هذا المنظر ، أما فى ذلك الزمان فكانت هذه هى طبيعة حياة الناس فى أرضهم وحلالهم وعيشهم الهنىء ويا ليت الزمان يعود يوماً ، عادات وتقاليد الناس كانت غريبة عن المألوف ، فقد قدمنا من مناطق يضرب الناس بعضهم البعض بالسوط عندما يرقصون وفى الليل ، وهنا فى رجل الفولة يهتز الناس رجالاً ونساء إهتزازاً شديدا وهم يمارسون طقوس رقصة النقارة وفى النهار ، فشتان بين العادتين والرقصتين ، فى رجل الفولة كان منظر رؤية بعض الناس وفق عقولنا الصغيرة (مخيفاً) ولم تتعود عيوننا الصغيرة على منظر الدينكاوى الفارع الطول أو المسيرى يسير مع كل أهل بيته وهم على ظهور الثيران ، وقد وجدنا العكس تماماً فكل هذه السحنات ما هى إلا مزيج من طيبة وسلام ووداعة لا يعرفها إلا من عاشها وعاشر مثل هؤلاء القوم الكرام الأصيلين ، ورويداً رويدا بدأنا نستكشف الروائع والجمال المذهل لهؤلاء القوم ، وما كانت سحناتهم إلا مواكبة للطبيعة من حولهم ، ففيهم بعض خشونة يتطلبها وضع الأرض من حولهم وفى دواخلهم ليونة خصوصاً الأناث منهم من كل هؤلاء الشعوب التى ذكرتها، ويمكن تصنيف ذلك للجمال الفطرى التى وهبته الطبيعة لبلادهم ، وما أجمل فصل الخريف فى ذاك المكان فترى الضفادع وتسمع أصوات الطيور والحيوانات فرحة تستقبل الموسم الجميل ويعيش الإنسان والحيوان فى تمازج وود عجيب ، ورغم أننى من مواليد مدينة القضارف فى شرقنا العظيم إلا أننى لم أعرف جمال الخريف إلا فى غرب السودان بكردفان حيث يمتد بساط الخضرة ليغطى كل أرض المسيرية ، ويا له من منظر خلاب يسلب العقول ، وفى تلك البلدة الوديعة الطاهرة أصابنى مرض فى (العيون) لا أدرى ما سببه ولم أعرف وقتها تشخيصه أو قصته ، فكنت أصاب بأكولة شديدة فى كلتا عينى ، وأضطر إلى (دعك) كلتا عينى بيدى فتتهيج وتصير حمراء اللون تذرف الدموع بإستمرار ، صنفه لى الأطباء فيما بعد أنه (رمد ربيعى) وأظنه يدعى تراكوما أو شىء من هذا القبيل ، على العموم ولصغر سنى ، ورغم وجود مستشفى كبير فى رجل الفولة إلا أن الأطباء عندئذ لم يفلحوا فى وقف هذا الإلتهاب المزعج ، مما إضطر والدى أن يرسلنى إلى مدينة الأبيض ، حضارة الغرب وأم المدن السودانية ، وكان وقتها قد أتى إلى مدينة الأبيض طبيب مصرى متخصص فى أمراض العيون يدعى (منير بيرم) لعل سكان الأبيض فى الستينات يعرفون هذا الرجل والذى علمت فى ما بعد أنه قد إنتقل للدار الآخر ، عليه رحمة الله تغشاه فى قبره وتنزل عليه برداً وسلاماً إلى يوم الدين. أذكر وقتها أننى قد أكملت الصف الثانى الإبتدائى وبدأت الإجازة الصيفية ، وأذكر أن من بين أساتذة المدرسة الوسطى أستاذ يقال له (أستاذ شلال) ، ولا أذكر باقى الإسم ، وهو من سكان الأبيض ، وبما أن والدى عليه الرحمة كان ناظراً للمدرسة الوسطى فقد طلب من أستاذ شلال أن أرافقه للأبيض بغرض العلاج ، وفعلا قد كان هذا الأمر ، فصحبت الأستاذ فى رحلة شيقة بالقطار ، حتى نزلنا فى بلدة صغيرة قريبة من الأبيض ، ومن هناك ركبنا سيارة حتى وصلنا مدينة الأبيض ، حيث الكهرباء وشوارع الأسفلت والسينما والنوادى الثقافية والمسارح والحضارة والحدائق (والبان جديد) ، فكانت (نقلة) أخرى بالنسبة لعقلى الصغير ، قضيت مع الأستاذ وأسرته أمتع أيام حياتى وقد رحبوا بى جميعاً رجالاً ونساء شيباً وشباب وكنت محل عنايتهم وإحترامهم وكرمهم الفياض ، بارك الله فيهم وجزاهم الله عنى خير الجزاء فقد تعلمت الدرس الأول فى الأبيض (إنما السودانيين إخوة) وإنما هم فعلاً أسرة كبيرة واحدة إذا شاك أحد السودانيين شوكة تداعى لها سائر السودانيين بالسهر والحمى ، وقام الأستاذ معى بالواجب الأبوى الكبير وفعلاً أخذنى للطبيب المصرى منير بيرم رحمه الله الذى تعامل معى بإنسانية مبالغ فيها ، وقد وقر حب هذا الطبيب فى نفسى وما زلت أكن له نفس الدرجة من الحب رغم صغر سنى ورغم إنتقاله للآخرة إلا أن ذلك الحب سيبقى للأزل ، وشاءت إرادة المولى عز وجل أن يكتب لى الشفاء التام على يد هذا الرجل الإنسان حتى أننى ومن وقتها لم أعرف للعيون مرضاً ولا ألما ولا حكاكاً ، بارك الله فيه وفى أستاذى شلال وفى والدى الذى كان يهتم لأمرى ، قضيت زهاء الشهرين فى الأبيض ، وحان وقت العودة لأهلى فى رجل الفولة ، وبما أن فى الإجازة بقية فقد آثر الأستاذ شلال أن يعيدنى إلى أهلى ويكمل هو بقية الإجازة فى بيته فى الأبيض ، وكان لابد من توفير وسيلة آمنة لعودتى ، رغم أن السودان وقتها كان فى أمان تام خصوصاً فى هذا الغرب الحبيب ، ووالله لو وضعنى وقتهاعلى ظهر ثور لعاد بى إلى رجل الفولة آمناً دون ان أصاب بمكروه. قصة العودة: وجد الأستاذ شلال لورى شاحن متجه إلى رجل الفولة ، فطلب من صاحب اللورى أن أرافقهم فى هذه الرحلة ، وعندما أقول لورى شاحن لا يمكن أن تتصوروا معنى هذه الكلمة ، فاللورى ممتلى بالبضائع بشكل كبير ، وفوق البضائع يركب عشرات الأشخاص على ظهر البضاعة ، وهذا منظر والحق يقال عجيب عجيب ، وتجد الناس (المسطحين) فرحين جداً بهذا النقل السريع ، وإمعاناً فى الإطمئنان قال صاحب اللورى لأستاذى شلال ، ما فى مشكلة أنا معاى (عريس وعروس) متجهين أيضاً إلى رجل الفولة ، وقد حجزوا المقعد الأمامى ، لأن هذا العريس أستاذ جديد فى المدرسة الإبتدائية منقول من (مدنى) إلى (رجل الفولة) وهم قد حجزوا المقعد الأمامى فى اللورى ، ولا مانع أن يصاحبهم (ود الناظر) ويركب معهم فى (الأمام) يا الله ، هذه والله درجة رفيعة ومركب مريح ورحلة جميلة كانت من أمتع الرحلات التى قمت بها فى حياتى ، وبالفعل حضرت فى الموعد المحدد بعد أن ودعنى أهل بيت الشلال بالدموع والهدايا والدعوات ، وأخذت أغراضى وذهبت إلى الموقف ، وهنالك إلتقيت بالعرسان وبصاحب اللورى وشاهدت المنظر الخلفى للورى والناس متراصين فى أعلى اللورى بشكل عجيب ، وفعلاً ركبت فى المقعد الأمامى وتوسطت العرسان بناء على طلبهم وسار اللورى على بركة الله متوجها صوب غربنا الحبيب ، وقد فرح بى العرسان أيضاً وبدأوا فى مسامرتى طوال الرحلة حيث تعرفت عليهم وتعرفوا علىَ ، وقال لى العريس أنه سيكون المدرس الجديد فى رجل الفولة وسأكون أحد تلاميذه ، ففرحت بهذه المعرفة أيما فرح ، كان العريس رجلاُ أنيقاً من أهل الوسط فى السودان ، وعروسه تزين اللورى بأدبها وجمالها وحنتها وحيائها وعطرها ، ثم عرفنى العريس على إسمه فقال لى أن إسمه (دفع الله) وأن عروسه (بلالة) وعرفتهم على إسمى (هشام) وأننى (ولد الناظر) وكانت تلك أيضاً (درجة) رغم أن أقرانى وزملائى كانوا يكرهون أولاد النظار فى ذلك الزمان ظناً منهم أن أولاد النظار يتم كشف الإمتحانات لهم فى البيوت ولا حول ولا قوة إلا بالله ، رغم أن هذا محال أن يحدث ، بل كان أولاد النظار هم من تقع عليهم العقوبات إذا حلت أولا وهم من يتعرضون لضغوط شديدة حتى لا يظن بهم الاخرون الظنون وأخيراً حل بنا اللورى إلى رجل الفولة وأوصلونى حتى باب المنزل قبل أن يصل العرسان إلى منزلهم القريب جداً من منزلنا ، وطرقوا الباب ففتح لهم الوالد الباب وقال صاحب اللورى لوالدى (إستلم أمانتك) فشكرهم أبى ونزلت فرحا مسرورا على سلامة الوصول متجها نحو أبى وأمى وبقية أخوانى وأخواتى وهم فرحين مسرورين بعودتى سالماً معافى ، فسألتنى الوالدة عليها الرحمة فى تلك الليلة عن الرحلة وكيف كانت ، فقصصت عليها قصة العرسان ، وقلت لها حضرت برفقة أستاذنا الجديد وعروسته وإسمه دفع الله وعروسته بلالة ، فتفاجأت الوالدة من الأسماء ، وقالت لى (هؤلاء أهلى) ، فتعجبت لمقولتها ، هل تصدقون يا أحباب أنها ذهبت إليهم فى نفس تلكم الليلة وتعرفت عليهم وإتضح أن العرسان فعلاً أقرباؤنا؟ إذ أن إسم (دفع الله) فى السودان مرتبط بالعركيين ، وجدتى أم والدتى هى ايضاً عركية وأن هذا الأستاذ وزوجته هم أقربائها جداً ، يا الله ، ما هذه الصدف العجيبة صار بيتنا وبيت دفع الله شىء واحد، وأصبحت مودة متصلة بيننا منذ لك الزمان ، والغريب فى هذا الأمر أن العرسان قد أنجبا طفلاً صغيراً فسمياه (هشام) تيمناً على إسمى ، وهشام هذا يا أحباب هو اليوم المقدم هشام دفع الله عبدالله فى شرطة ود مدنى ، والأغرب من ذلك أننى عندما تقدمت للزواج لأطلب يد زوجتى أم أولادى ، توجهت وطلبت يدها من خالها أستاذى العريس دفع الله ، رفيق اللورى ، فهو خال زوجتى وولى أمرها وأستاذى وأخى الأكبر وحبيبى إلى أن تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها ، والسبب فى ذلك مدينة الأبيض ورجل الفولة الحبيبة وكردفان فلغرب السودان فى قلوبنا ود لا يفنى ، ولكردفان خير لا يعرفه إلا من عاشه. والدنيا فعلا ضيقة شديد وتقبلوا تحياتى وأعذرونى إن أطلت عليكم. ولكم تحياتى (عدل بواسطة يازولyazoalيازول on 03-05-2008, 10:42 AM)

[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1: << 1 >>

احدث عناوين سودانيز اون لاين الان

اراء حرة و مقالات	Latest Posts in English Forum
Articles and Views	اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases	اخبار و بيانات

الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة

About Us
Contact Us
About Sudanese Online

اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين

News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums

If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]