فصل من رواية (بر العجم) *

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 01:44 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-09-2008, 11:37 PM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فصل من رواية (بر العجم) *

    http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/u/upload.cgi

    حينما لفظت عينه العمى ، لم يكن يدري أن المحو هو ظل الليل الكبير . كان يعشق أصداء الطريق ، ويتحسس بديهة الأشياء بلمسات لا تكف عن الأسئلة . وبين البديهة والبصيرة دلف غابة الليل ومتاهات الأمكنة ، أبصر في الظل الكبير تحولات الصيف والشتاء بحساب الجسد ولذة الحواس . لم يعتذر يوما عن مشاوير الحرج كما لو كان ذلك المحو قلقا تشده محنة الغياب ، أو كمن داس على شراك تستفز المتعة إلى مزاحمة الحياة . عرف حينها أن الضوء الشارد هو عتمة المصير في ذاته المضيئة ، فانغمس في الناس بغرابة ، يوم أن سكن حماره في رأس الدرب المتوجهة لـ " الخلوة " شعر عند ذلك أن العمى مزية على الموت ، وأن " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " . مشى في الزقاق مستبدلا لذاته المحترقة من احتكاك جسده الجديد مع ظهر الدابة ، بطعنات حسك السيسبان النائم خلف البيوت ، وصولا إلى " زاوية " عمه في اسفل " أروما ".
    كان في ذلك المكان المرتبك بين الطفولة والفحولة ، حين هلت عليه أحلام سعيدة شعر بها كمن يدخل دغلا في يوم ماطر .
    بدأت دورة الغياب في حياته محوا سعيدا ، وبراءة نبتت على أعشابها طفولة بيضاء بلغت فيها شقوته تخوم العجب ، كاللعب في فصول المرح تحت سماء الخريف بلياقة ينجو معها من زلق الطين المنقوع بمياه الأمطار ، وشراك الترع المنقطعة في عزلتها السعيدة ، وبمهارة تنبت حسد الخلان عندما يخطف " الشليل " ليعدو كالريح في رمال ليلة البدر. كما لو كانت الصحراء تنفخ في رجليه طيورا ، نحو العظم الذي يراه بأذنيه من سماع بعيد ، حين يرمونه في آخر الليل ؛ فيبرد اللعب ليبدأ مرة أخرى في مواسم الطير التي تقع في شباكه من موسيقى الفضاء ، ويستحر المرح في " السبعة حجار "، و " الفات فات " ، و" شدّ ت " ، و" كم في الخط" حتى ينكمش النهار وينهش الشتاء " أروما " بين لسان الحديد ومياه الترع المـارقة عن طاعة نهر القاش .
    ( أ " روما " ) التي ضاهت " جنة التيبر " في مجاز الحروف ، ونفرت عنها بـ ( أ) لف الحرمان كانت أيضا جنة (القا ش) التي سكن فيها طفولة صافية ، وخلف براءة منسية ، بعد أن حفظ القرآن في " خلوة " عمه الساخر " عند عودته من شقاوة يومية " :
    ــ ( أنت لو فتحت كان حتكون كارثة )
    سعد بالنبوءة الناقصة كوسام منح شقاوته عنوانا أيقظ أيامه على حقيقة الحياة ، وأسرار الناس في الكلام العابر . كان يستنفد لغو الأمكنة بسلاسة لا تكف عن الحفظ . وبين المحو والسماع يركب بقايا صور لـ " أروما " المنطفئة . ابتداء من لسان الحديد المدلوق في مسافة القطار القادم من "برعوت " إلى " كسلا " ، مع أيام سجلت في أذنيه مواعيد لا تعرف الغياب من صفارات قطار المسافرين ، والمواشي والبضاعة ، طوال الأسبوع ، إلا عندما تستوطن السيول مجرى الحديد ، وتسكن فيه أياما ماطرة ، بعدما تطرد الفلنكات النائمة على الخط من مزاجها المعتدل . وبينما كانت غابة السيسبان مجازه المدبب بحسك الطريق ، شهدت ظلال الأشجار مشواره اليومي لسماع تخت الشبابيك العاشقة ( لا يمر بها سواه ) ملتقطا همس الأشواق من مطارح بعيدة ، تجر خطواته في ( مشوار السنين ) بين أزقة الغرام ، وعوائقها المصطنعة ، والتسكع المشفوع بالعمى ، كما لوكان يلقى في أغاني العشاق صدمات حميمة.
    انفصل عن أروما كبعير فارق أمه ، بعدما سكنت أطيافها في صدره.
    لم ينس يومها أحلامه في الخريف حين تذوب بيوت الطين كحلوى منفوشة في المطر ، وبقايا طفولته البيضاء ، وحماره المنسي في ذاكرة الطريق .
    ذات غداة ، غادر عمه أروما في جنــــازة ؛ فغادر مغـنطـــيسها في قطــار " برعوت " ليلحق بأخوته في " جبل الختــــمية "

    * * * *

    كانت سنوات الجبل في الختمية ، ورطة عظيمة بين ليالي الضريح ، وأماسي الغـناء في مقهى " أر كويت " الذي طربت مقاعده بزمان (عشه الفلاتية ) المنبعث من راديو فليبس " أبو طارة " ( غنى لها على الحائط تواريخ قديمة) كانت تأتي من مقابر الطرب الأصيل في إذاعة أمد رمان .
    كان صوفيا يدخل للسماع بخلع نعليه في مجاز الهمس ، ليطرب طرب العاشقين ؛ فهو لا ينسى تاريــــخ الســماع في جبل الختمــــــية المنتصب على ضـــــــريح " الحسن الميرغني " ، صاحب التاكا . كان الضريح تختا صوفيا ترطن فيه القبائل أشجان ا لمديح خصوصا " الهد ندوة " حين يسقط بكاؤهم في آخر الليل :

    سِرُ السُلالاتِ لبُ اللبّ من مُضَرٍ خير الفريقين قحطان وعدنان

    تمني يومها لو اكتحل بهرج القوم وانخطافهم في سلطان الحضرة بين الدراويش . كان الحي نشيدا دائم الجريان ، يمتد هسيسه آناء الليل وأطرافه، وتنخرط فيه أفواه الزائرين كالقرب بأصوات أيقظت سكون الجبل . بيد أن سماعه ينشط أحيانا لطرب آخر ينوح في النواحي المعزولة عن الضريح ، حين يقتفي شيخين من دراويش الحي ، يسوقهما راديو الفليبس لتسكن أشجانهم في صوتها الغريق

    عنّي / مالو / صّدوا / واتواروا
    / حظي عاكس / وّلا هم جاروا

    (عشة موسى) المعروفة بـ (الفلاتية) ، أطربت ألحانها تواريخ من زمن الحشمة وملكت قلوب " العذابة " بزمام العّـفة في أربعينات الطرب ، بين ليالي الأعراس وكرات النظر الخاسر . لم تكن ملاحة الحبيب عنوانا ظاهرا للعيون إلا بتلك المسافة العذرية في مـــواسم الفــرح . كانت شفـــوف النــظر( ناهيك عن اللقاء ) تأكل أيام الحبيب في الغياب ، بين حيطان الليل وبيوت الطين الشاردة عن زمن البادية ؛ تلك التي حفظت سيرتها في حكايات صاحبنا فصولا من تاريخ الغفلة . كانوا يلجون الزفاف من أبواب الحياء . حتى أن أحدهم لا يعرف فتوحات تلك الليلة إلا من آهات نصفه المغمور في العتمة.
    بثت دكة السماع في الحي، حكاياته المحبوكة بعدسة صوتية ساخرة :
    ( كان الواحد لمن يدخل في الليل ينطح زي الجمل ) ... ( أدروب ، يوم مات العمدة ، دخل حوش العزا بالمقلوب . شاف الحريم عينك عينك . عاين واحدة وشها زي السعن المعفوص ، سأل نفسه :
    ـ دي مَرَتْ مين دي يا ربي ؟....هسه اليقول دي مرتي .... يقول عندي مره ؟ .... أعوذ بالله .
    انفجر ضاحكا: ها ها ها ....( أتاري ما عارف أنها مرتو ) .
    كان يبث الحكايا بحركات تفتح شهية السامعين ( العذابة خصوصا ) ، للمزيد من ملهاة يقطــّر نكاتها في المشهد الأخير ، حين يسوق الكلام نحو حواس لا تعرف الحشمة ، يحبسها مزاجه الرخيم ، وعقيرته الدافئة في النفوس التي ابصر فيها فجواته المتخيله ، وغسلت أيامه بالمرح بين بر عوت ، وكسلا ، والخرطوم .
    كان يرتدي وجها محليا لطبعة بجاوية ، أنضجت فيها "الشلوخ " هوية صارخة ، كوجوه "أشراف خور بركة " ( النابتين في حدود الحرج بين " مكرام "و " تسنى " ) كما لو كانت خطوطها المحفورة حرزا من الضياع في عناوين القبائل وفوضى الأعراق .
    كان يسعد بتلك الأحلام البشرية في أفلام ساخرة ، أخرج أحداثها بينه وبين أبطالها الذين يورطهم في بطولات خاسرة من إنتاج شوارع " مكرام " ومقاهي " الحلنقة " وخلاوي " هموشكوريب "
    أحس بأبطاله المهزومين تحت أسوار القسوة وسنابك الحياء القاتل ؛ فبث حكاياتهم في كلام الليل :
    ــ ( ادريساي كان خايف ، لكن أنا شجعتو ... قلت ليهو اقطع لسان حماتك العامل زي خشم الموس ... بعد داك ما تخاف .... أنا وصيت ليك العمدة ).
    .... أفطر أدريساي من ليل العفة ، بعد أن مدت حماته شهور الصوم عن معركة الزفـــاف بخرافة بجاوية ...
    ــ حماتو لمن دخلت خيمة بنتها شافت حكاية عجيبة ... ولولت وقالت للعمده
    ــ (الراجل كسر الجرة قـبّال مواعيدها ؟)
    العمدة ضحك قاليها :
    ــ عساك سلمتي من حجـّـارو ..... من يوم داك قطعت لسانها ... تب .
    كان يحكي لهم حتى رواياته الخاصة في يوم زفافه :
    ــ أنا من يوم ما دخلت الد خلة سمعت الحريم ينـَسْـنِسَنْ : دسوها... دسوها طوالي حسيت بالمؤامرة ... قفلت الباب بالمفتاح ، وقلت للحريم :
    هوووى أسمعن أنا راجل عميان وكايس نسوان ....
    يا تدوني عروستي ؟
    .يا أي واحدة أمسكها من طرف تبقى عروستي ؟؟؟......
    بعد داك سمعت الشبابيك تـطــقـْـطِـق ؟

    كان ينخر أيامهم المغلوبة ، دون أن يلقي بالا لحدود الحرج ومرايا النفاق .

    * * * *
    جار الفلك على زمن العافية ، وسنوات العمر الجميل . كانت الأيام تطرد سكانها من صباحات الوطن في مواسم الهجرة ، والحج والعمرة . هرب الناس أشتاتا في " السنابيك العابرة للموت ، والعامرة بالأحلام ، وتكومت ليــالي الســـفر على أبــواب الخروج من زمن " الترابي " .
    حتى صاحبنا هرب من البلد على تأشيرة خروج للسعودية بمهنة( حارس) كما أفلت من قبل بتقرير طبي عن لياقته الصحية(دبره مرافقه محمد جميل) ذكرت فيه لائحة الوصاية من كلية الطب بجامعة الخرطوم :
    أن المذكور بالإضافة إلى عافيته المتدفقة والممتازة يتمتع بنظر ( 6X6 )؟
    حيرت النظارة السوداء في صورة الجواز مسؤول السفارة فسـأله
    ــ ايش هدي النظارة ؟
    ــ ظلمات بعضها فوق بعض
    فقال له ضاحكا :
    ــ طيب تحرس مين يا شيخ ؟
    ــ أحرس مين ؟ .....أحرس نوره
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * الرواية الحائزة على المركز الثاني في مسابقة جائزة الطيب صالح 2005
    صدرت عن دار الحصاد بدمشق ، في مطلع عام 2007 وستعرض في معرض الرياض الدولي للكتاب ، ومعرض جدة القادم
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de