|
زمان الغاب !!
|
أكثر ما أخشاه عليك , يا بني , هو رهافة حسك , وشفافيتك المفرطة في هذا الزمن الغابة. كانت تلك , آخر عبارة تلقاها من والده بينما كان يشق جموع المودعين , حاثاً خطاه , نحو السيارة التي سوف تقله الى مطار الخرطوم ؛ يوم أن قرر ارتكاب حماقة الاغتراب عن ارض الوطن . ابتلعته دروب الغربة الملتوية , تلاعبت به امواجها المتلاطمة , لاقى وجوها من شتى المشارب والاجناس . اختلط بأناس جلهم ﺫئاب , لا يتردد القوي فيهم من التهام الضعيف , متى ما وجد الفرصة سانحة . نسى وصايا مودعيه , بل حتى وجوههم , غير أنه لم ينس آخر عبارة تلقاها من والده , اﺫ كانت ماثلة امامه , في كل حين , مشعة حروفها , كأنجم في ليلة ظلماء . الحت عليه الظروف أن يواصل مسيره في هذا الزمن الغابة , فقرر يوما أن يقلع عن رهافة الحس , والمثالية , فألبس وجهه , قناع التجهم , و القسوة , فوخزته إبرُ ضميره مؤنبةً , ومعاتبةً , فعاد الى سيرته الاولى , مبتسماً , في وجوه اعدائه , وأصدقائه على حد سواء . مضى به قطار الغربة , والترحال الى محطات شتى , تراكمت الاشياء بتزاحم , في دواخله , , ﺫكريات الامس اضحت سراباً, وجوه أصدقائه , وأنداده صارت اقنعة بلا ملامح , شقاوة الطفولة , رعونة الصبا , , حكاوى الجدة , تحت ضوء القمر , همهمات الأم عند انبثاق الفجر , قهقهات الأب تهتك استار الصمت , وتشق ظلمات الحزن , كلها امست مجرد ماض , وضرب من النسيان . طيور سعادته هاجرت الى اصقاع جزر نائية , على حافة التاريخ , ولم ترغب في العودة من جديد . من جوف العدم يتطلع , بآماله , ليثبت ﺫاته , ويوقع على ايقاع الزمن فرحة ,علها توقظ ليل البائسين . يحث الخطى هاربا من ماضيه المظلم , , ممنيا نفسه بمستقبل زاهر , فيركض , لكن الى الوراء , ويصل غالبا , لكن , الى محطات العدم . ينشد مع القلوب الفرحة , أغنية الحياة , فترتطم مقاطعها بجدار الصمت وتتبعثر حروفها في سماء اوهامه , وتغوص عميقا في لجة الامه . حبه الذي اغتيل في زمان التيه واللامبالاة , عاد هذه المرة في ثوب قشيب , قهقهت له دواخله حتى مزقت أكفان الحقيقة , فأنكفأ ينبش في أحشاء الذاكرة , فأحتشدت أمامه المسرحية المأساة بكل فصولها الوقحة , فعقد العزم على الا يعيد الكرّة ثانية , حتى لو امسى ﺫلك الحب الوهم , بلسم الحياة ورمقها . طائر احلامه حاول مرارا , أن يخرج من قوقعة كبته , الى سماء الواقع , بأجنحة كسيرة , تكابد المستحيل – ﺫلك الطوطم – الرابض في حنايا اماله الهامدة , لكنه يهوى , الى بئر عمرها , ملايين السنين . تداعت كل الاشياء امام ناظريه , اماله , طموحاته , حتى نظرته الى الحياة بدلتها الايام , وأزالت , عطرها الانكسارات والاحباطات , التي رسمت تجاعيدها , القاسية على مشوار حياته , القسري وفي بلاد العم سام اغتالته فجيعة المقارنة بين عالمه الذي يحبو , وﺫا العالم الذي يسابق الصوت , و الضوء , والخيال , فعض أصابع الندم , عندما تأكد , بأن انسان بلاد العم سام , هو نفس انسان , عالمه الثالث , حيث لا يختلف عنه , بيولوجيا قيد انملة , فما المشكل اﺫاً ؟ وتتواصل فصول مسرحية زمان الغابة , في سودانه الحبيب , تتخللها مشاهد ضحايا دارفور وغيرهم من الجوعى , والمشردين ,يفترشون الخوف , والالم , ويلتحفون أمل مبادرات الصلح , وأوهام الوعود , النابعة من جوف الخديعة , والتلون , في زمن اضحى فيه الانسان , لا يساوي جناح بعوضة .
|
|
|
|
|
|