|
مأساة دار فور وصمت المثقفين العرب /د خالد الحروب
|
مأساة دارفور وصمت المثقفين العرب
منذ اندلاع أزمة ومأساة دارفور سنة 2003 وحتى الآن سقط ما لا يقل عن مائتي ألف ضحية من المدنيين والأبرياء, وهُجِّر ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين من ناس وفقراء تلك المنطقة الشاسعة والصحراوية. إضافة إلى ذلك هناك تقارير صادرة عن منظمات حقوق إنسان لها صدقية عالية تشير إلى حالات اغتصاب جماعي تبنتها عصابات الجنجويد التي اعتمدت عليها الحكومة للقضاء على الحركات الدارفورية المتمردة. ومعنى ذلك، وحسب الأرقام، أنه بالإمكان القول إن مأساة دارفور وفظاعة الأكلاف البشرية التي عاناها سكان تلك المنطقة، قد فاقت بما لا يُقاس الأكلاف البشرية والمآسي التي تعرض لها الفلسطينيون واللبنانيون معاً خلال العقدين الماضيين. وفي هذا السياق يورد الكاتب والإعلامي السوداني خالد عويس في بحث معمق حول تغطية الإعلام العربي لأزمة دارفور خلال العام الماضي أرقاماً وإحصائيات مذهلة ومُخجلة حول التجاهل العربي المريب لأوجاع ملايين الناس. ففي بحث بعنوان: "تغطية وسائل الإعلام العربية لأزمة دارفور" قدمه إلى ندوة متخصصة في القاهرة في أبريل الماضي. وقد رصد عويس أهم وسائل الإعلام العربية المكتوبة والمرئية خلال عام كامل, وحلل ما نقلته من أخبار عن دارفور. وقارن تلك الأخبار بما ورد عن لبنان وفلسطين والعراق, ثم قارن ذلك أيضاً بتغطية بعض وسائل الإعلام الغربية للأزمة ذاتها. يقول عويس "قتل في دارفور حوالى 200 ألف حسب تقديرات منظمات دولية، وقتل في لبنان خلال الحرب الأخيرة في 2006 أقل من 2000 حسب رصد وسائل إعلامية، وقتل في العراق منذ مارس 2003 إلى مارس 2007 حوالى 150 ألفاً حسب وزارة الصحة العراقية، وقتل في فلسطين منذ عام 2000 إلى عام 2006 حوالى 4391 فلسطينياً حسب المركز الفلسطيني للإعلام". وبرغم ذلك يصل في إحصائياته ونتائج بحثه إلى تغطية دارفور في وسائل الإعلام الأهم, المكتوبة والفضائية, مؤكداً أنها لا تتعدى نسبة 1 إلى 10 على أكثر تقدير في أهم فضائيتين عربيتين. بينما تقل عن ذلك بكثير في صحف عربية كبرى وذات تأثير مهم. ويمكن أن نضيف هنا وجود مئات من حالات الاغتصاب التي سُجلت, وربما أضعافها التي لم تسجل بسبب تقاليد المحافظة والشعور بالعار إزاء هذه القضايا، والتي تلقي ستائر من الصمت الحزين والمرير على حالات نساء لا يعلم بمعاناتهن أحد. في تفسيره للإهمال الإعلامي العربي الفظيع لمأساة كبرى كدارفور تحدُث في بلد عربي كبير، يورد عويس عدداً من الأسباب منها صعوبة الوصول إلى منطقة الأحداث, وسياسة الحكومة السودانية في التعتيم وعدم السماح لوسائل الإعلام بالتغطية الميدانية. لكن الأهم هو إشارته إلى أن التحليل السياسي شبه العام الذي تبنته وسائل الإعلام العربية بشكل واعٍ أو دون وعي, والقاضي بوجود مؤامرة غربية أميركية على السودان, قد غطى على أي اهتمام بالبعد الإنساني للمأساة. وهنا يكمن قلب المسألة الذي يحتاج إلى نقاش. فالمثقفون العرب في مجملهم تبنوا موقفاً مهمشاً لمأساة دارفور الإنسانية بالتذرع المباشر، أو غير المباشر، بالأبعاد السياسية لها. وهذا يعني فيما يعنيه فقدان الحساسية الإنسانية, حتى لا نقول الأخوية والعربية والإسلامية, واسترخاص الأرواح حتى لو وصل تعداد الضحايا فيها مئات الألوف. ووجه الغرابة, والإدانة, لمواقف المثقفين العرب ينبع من إنسانية القضية قبل أي شيء آخر, أي من دون الحاجة إلى اتخاذ أي موقف سياسي مؤيد أو معارض لهذا الرأي أو ذاك. ومنطلق الإدانة هو عدم الاهتمام واللامبالاة، وكأن الذين يموتون في السودان لا قيمة لأرواحهم, ولا "يتمتعون" بقضية "مركزية" تمنحهم موقعاً متقدماً في صفوف الضحايا في المنطقة. طبعاً لا يخلو الأمر من سريالية سوداوية هنا حيث يبدو التزاحم في ازدياد دائم على شغل المقاعد الأولى للضحايا في الكوارث والحروب التي تُفرض على المنطقة. لكن مع ذلك, ومن دون التقليل من آلام ومآسي العراقيين, والفلسطينيين, واللبنانيين, يبقى القول إن من حق الدم السوداني الأفريقي الذي يُهرق بشكل إجرامي في دارفور أن يُظهر المثقفون العرب, ومعهم الرأي العام العربي, الحزن عليه على أقل تقدير. أما الإهمال البشع فهو بمثابة قتل إضافي للقتلى. سيقول كثير من القراء, والأصدقاء أيضاً, إن هذه السطور تتغافل عن "الصورة الأكبر" وعن "الصراع الأشمل" الذي يشمل دارفور وغيره, وإن المتسبب في ذلك هو الغرب, وخاصة واشنطن ولندن, وطمعهما في نفط السودان, وأهدافهما في تقسيمه، وسوى ذلك. وسيكرر كثيرون الموقف الاصطفافي القبلي مع حكومة السودان لأنها صارت بقدرة قادر تحمل راية الدفاع عن "الأمة" ضد "الأعداء", وهي نفس الراية التي حملها صدام حسين وتعاقب عليها كل ديكتاتوريي العرب في دول ما بعد الاستعمار وما زلنا ندفع ضريبتها حتى الآن. لكن حتى لو صح ذلك التحليل, فإنه لا يبرر الصمت الواسع والمريب عند المثقفين العرب, والإهمال, والكسل, وعدم متابعة القضية, حتى معالجة تلك "الصورة الأكبر والصراع الأشمل". ولا يبرر غياب كاميرات الفضائيات العربية, وأقلام كتاب الأعمدة العرب, والتحقيقات الصحفية, والنقاشات الثقافية والفكرية. ولأن كل ذلك، وغيره كثير، غائب تماماً فقد ساهم بالطبع في تسهيل مهمة استدامة الإجرام اليومي في دارفور حيث انعدمت حتى الضغوط الأخلاقية الدنيا على المستوى العربي لوقف المأساة. في الانتفاضة الفلسطينية الثانية وخلال الحصار الإسرائيلي الوحشي على مدن وقرى الضفة الغربية ومنها رام الله تحدى الكاتب والروائي الأفريقي النيجيري "وول سوينكا", الحاصل على نوبل الأدب, الحصار وزار رام الله مع مجموعة أخرى من أهم الكُتَّاب العالميين. يومها التقوا نظراءهم الفلسطينيين وأنشدوا مع محمود درويش في رام الله "جدارية الحصار". ويومها أيضاً كتب مثقفون عرب كثر عن إنسانية "وول سوينكا" وموقفه المشرِّف، الذي يقف بجلاء وجرأة وبلا مواربة مع الضحية ضد جلادها. اليوم لا أحد من أولئك المثقفين يريد أن يسمع, فضلاً عن أن يشيد, بإنسانية "وول سوينكا" وهو يحمل راية الدفاع عن ضحايا دارفور، ويصف المأساة بأنها الأكثر بشاعة في عالم اليوم. فسوينكا الآن يتهم الحكومة السودانية وميليشيات الجنجويد بأنهما تتحملان المسؤولية الأكبر في القتل الأعمى هناك, وهو ليس معروفاً عنه "عمالته لأميركا"، بل هو غارق في هموم القارة السمراء إلى أذنيه, ومُعادٍ لإمبريالية واشنطن. لكن كما أن سوينكا, وغيره ضمن أعداد كبيرة من مثقفي العالم المتمردين والإنسانيين، لا يمارسون انتقائية مخجلة عند مناصرة الضحايا, مطلوب أيضاً من مثقفي العرب أن يسمعوا أنين الجسد الأسمر المطروح تحت وهج شمس الصحراء في دارفور ينز دماً. مطلوب منهم الانتصار لإنسانية المثقف في دواخلهم على حساب التمترس خلف مسوغات السياسة, وألا تسد آذانهم خطابات مقاومات "دونكيشوت" المتذرِّعة بالمؤامرات الخارجية. إن آلام "نور وحواء وتابو", وهن صبايا دارفوريات في عمر الورود بين 12 و15 عاماً, اغتصبتهن مليشيات الجنجويد أمام آبائهن وأشقائهن بعد أن أحرقت قراهن الفقيرة العزلاء, لا تقل عن آلام مسلمات البوسنة اللاتي تعرضن لنفس فعل الاغتصاب الوحشي على أيدي مجرمي الصرب. من لا تتحرك إنسانيته لنساء دارفور, تكون إنسانيته التي تحركت لنساء البوسنة غير مكتملة وفارغة ولا تستحق أن تنعت بذلك أصلاً.
|
|
|
|
|
|