كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
فكر القطيع
|
رغم عدم قناعتي بأن البنية الإجتماعية أو الوضع الطبقي هما المحددان الوحيدان للفكر ، وقناعتي بأن الناس يتخذون مواقف مختلفة في أوضاع متشابهة ، إلا أنني أعتقد أن إحتمالية إتخاذ مواقف متشابهة تزيد كلما قل تأثير الجانب الذاتي ، الفردي : أي ضعف القدرة على التفكير و شح الخيارات التي تختزنها ذاكرة المحمول الثقافي ، وهنا يصبح لدينا القطيع .
ما أريد أن أتناوله هنا ليس دراسة أكاديمية متخصصة ، رغم أهمية دراسة الموضوع ، فما أود طرحه هنا بعض الملاحظات الشخصية على مجموعة من الأفكار و السلوكيات المنتشرة حديثاً في المجتمع السوداني و التي أظن أن لها أثراً كبيراً في تثبيت دعائم السلطة الفاشية الحالية ، و أنها ربما تكون عاملاً مفسراً لعدم فعالية العديد من وسائل التغيير السياسي التي عولت عليها قوى التغيير سابقاً، و أرجو من الأعضاء الذين تتوفر لهم تفاصيل أدق بحكم مواقعهم أو خبرتهم أن يثروا هذا البوست بآرائهم .
أساطير السياسة الشعبية :
حجم الإنفعال الشعبي بالقضايا السياسية ليس كالذي تصوره خطبنا الحماسية ، و أنا هنا أتحدث تحديداً عن مناطق الوسط / المدن الكبرى ، فتلاشى لدى الغالبية الإرتباط المباشر بين قضاياهم المعيشية و بين السياسة ، وهم ينظرون لها كمجال مستقل مثله مثل الرياضة مثلاً ، و الأجيال الشابة ورثت مفاهيم غريبة ، فما أن يفتح نقاش سياسي حتى تسمع أول جملة ( كلو كلام فارغ ، كلهم كضابين ) نظرياً قد يكون ذلك صحيحاً ، ولكن المستحيل أن يحدث هو أن تختفي الأحزاب السياسية أو أن تبتدع المجتمعات مؤسسة بديلة للدولة في مئوياتنا القادمة ، و الغريب أن تسمع هذا الكلام من طلاب جامعات يفترض أنهم مثقفين، أو من أفراد هم متضررين بصورة مباشرة من الأوضاع الحالية .
ما يحدث هو ظاهرة غريبة أحب أن أسميها (تطبيع) الحكومة ، بمعنى أن السلطة السياسية صار ينظر لها مثل الظواهر الطبيعية كالأعاصير و الزلازل ، قد تكون سيئة ولكنها من حقائق الواقع ، لذلك صارت إنتهاكات النظام لا تثير مشاعر الغضب لدى قطاع واسع ، و لا توجد أي أفكار أو حتى خيال أو رغبة في التغيير، وتم إستبدال مفهوم التغيير بالتعايش.
المسببات: إحباط مورث من أجيال سابقة ؟ القمع؟ ضعف القوى السياسية ؟ القوى السياسية لا تعبر عن الإحتياجات الحقيقية؟ لا أدري ، مخاض تشكيلات إجتماعية جديدة و هذا الهدوء مصاحب لإعادة التشكيل ؟ أتمنى !
الدين :
الإصلاح الديني في كل العالم لم تحدث نتيجة لدعوات التجديد الودودة فقط ، لا بد من تعرض الخطاب الديني المطروح لتحديات حقيقية ، تحديات تظهر فشله في تقديم حلول لعدد من القضايا الإجتماعية ، هذا لا يحدث عندنا ، و مثقفينا لا يربطون في خطابهم بين بعض الأزمات و أصولها في الخطاب الديني المسيطر بصورة كافية لحث حراك إجتماعي ضده ، وينحنون في خنوع للموجة الإسلامية العالمية الحالية ، إنهم لا يستصحبون أنها موجة تأريخية ستنتهي حتماً كما إنتهت القومية العربية ، ليس علينا إنتظار خمود هذه الموجة في كل المنطقة ، فنحن في السودان قد عايشنا مشروعها بكل بشاعته وتجاوزنا مرحلة الترقب و الإختبار .
وصف جماعات الإسلام السياسي بأنهم متشددين لا يخاطب جوهر الأزمة ، فالقضية إختلاف نوعي و ليس كمي ، وحتماً أي صراع في ملعب هولاء و إعتماداً على النصوص و على قواعدهم العقدية و الدينية ،و أصول فقههم سيكونون هم الرابحون ، فهم الخصم و المرجعية هنا.
الإرتباط السوداني بالدين هو مختلف نوعاً ما ، فهو ليس مؤثراً في سلوكياتهم الشخصية و مؤسساتهم الإجتماعية بقدر تأثيره في الإتجاه السياسي و الشعارات و الفكر الأكثر تجريداً . هذه نقطة أساسية فدور الدين أصبح يوظف كحمولة عاطفية في مواجهة الفشل السياسي و الإجتماعي ، و مخدراً مفارق للواقع لتخفيف صدمة الحداثة التي نتجت عن الإتصال بالحضارة الغربية ، و الحلول التي يقدمها الخطاب الديني المسيطر لا تقيّم بمدى نجاحها في الإجابة على أسئلة الواقع بصورة تحقق الحوجات الإجتماعية . في القضايا السياسية و الإجتماعية يجب أن يتم التشديد على أن المشاريع المطروحة يجب أن تقدم لنا حلولاً يمكن إختبار نتائجها في هذه الحياة.
خطاب الإسلام السياسي يختزل و يزور طبيعة الصراع ، داخلياً و عالمياً ، فبينما يجب أن تسود ثقافتنا مبادئ تدين الإنتهاكات من حيث هي إنتهاك لحقوق إنسان ،يتم تصويرها على أنها الصراع الإسلامي ضد الكفار بقيادة اليهود ، ذلك الصراع المتعالي على الواقع و التأريخ و الميتافيزيقي . هذا التناقض الميتافيزيقي بين الإسلام و غيره أصبح آلية التفسير الأساسية لكل الصراعات السياسية العالمية في الوجدان الشعبي ، و هذا الوهم لا يستصحب النقد الذاتي أو يفحص الوسائل التي تتبعها الجماعات الإرهابية . و الغريب أنه لا يمتلك مشروعاً دنيوياً واضحاً ، فقط صورة هلامية يختلط فيها الشيطان و إسرائيل و أمريكا و الإنترنت و العلم و التكنولوجيا و الثقافة في معسكر واحد ، ولو سألتهم ما المطلوب يأتيك الرد : إعلاء كلمة الله ، طيب وين ؟ لا إجابة محددة ، كيف ؟ لا إجابة محددة ، فقط فجر السوق . هناك خلل أساسي في مناهجنا التي نوظفها للتحليل ، خاصة في القضايا السودانية وهي أنها لا تعير إهتماماً كافية لعوامل مثل الإضطرابات النفسية و الغباء .
قد يتساءل البعض ما أهمية هذه النماذج هنا و هذه الممارسات ليست حاضرة بصورة مؤثرة في المشهد السوداني . إنها حاضرة ، و إن كان حضورها على مستوى الممارسة ضعيفاً فهو حاضر بقوة ذهنياً يعمل في خلفية الذهن لدى أعداد كبيرة من السودانيين ، كل ما عليك هو إبتدار نقاش سياسي حول أي قضية دولية ، فتأتيك الإكليشهات الساذجة : أمريكا هي السبب ، إسرائيل ، اليهود ، العراق ، فلسطين ، الحرب على الإسلام ، إنها الهضربة السياسية . و أيضاً و ضمن تبعات تحلل المشروع الإسلامي : صار المؤتمر الوطني يعتمد على هذه النزعات النفسية في إضفاء بعد أيدولوجي على منسوبيه و مؤسساته . حيث أنني شخصياً في أكثر من مرة صادفتني حوارات عفوية أطرافها من منسوبي المؤتمر الوطني ، و المشترك فيها تلك الإرتباطات الذهنية الغريبة بين ذواتهم و بين أطراف لا تبدأ من الميليشيات المسلحة في العراق ولا تنتهي بالزلازل التي تضرب اليابان ، في ذهن هؤلاء هم و إعصار كاترينا في معسكر واحد !!!!
و ينبغي ألا نخدع أنفسنا فلهذه الأيدولوجيا الساذجة نصيب من الوجدان الشعبي بدرجات متفاوتة ، إنه خطاب الفشل السياسي و الإجتماعي الذي يجعل البعض يعاقرون أوهامهم و خيالاتهم . وهناك مؤسسات تسهم في نشر هذا الخطاب الديماقوقي مثل أئمة المساجد الجهلة و قناة الجزيرة و غيرهم. على مستوى الأفراد فهناك حالة من المشاعر المتناقضة تجاه التغيير – ففي حين لا يرفضون في الممارسة المنتجات الثقافية ، و حتى السلوك الشخصي (الجنسي ،.... إلخ ) لم يعد يتقيد كثيراً في السودان الآن بالقيود الدينية ، إلا أنهم على مستوى الفكر المجرد يتناقضون مع حمولات الحداثة و بالتالي مع أنفسهم ، و ربما الطبيعية شبه الميتافيزيقية لترويج القضية هي التي لا تجعل هذه الشرائح تدرك الإرتباط بين القضايا الإجتماعية من ناحية و القضايا الدينية – السياسية من الناحية الأخرى ، و لضحالة الثقافة و التفكير الرغبوي نصيب كبير في الأمر.
الشخصنة و التجريد المخل:
في التفكير الشعبي خاصة لدى سكان الوسط ، عندما يقوم جهاز الأمن بممارسة سلبية فالأمن سيئ و ليست الحكومة ، أو فلان حرامي ، ..... إلخ . لا يتم إدراك الأبعاد الكلية للقضية و بالتالي يتم إختزال رد الفعل في مجرد تعليقات جانبية ، بدلاً من أن تساهم هذه الأحداث في مراكمة رغبة جماعية في التغيير، الخطاب الحكومي لا ينصت له بأذن متشككة بل لا مبالية إن لم تكن مصدقة ، حدث مثل قسم البشير المثير للسخرية بعدم دخول القوات الدولية يجد كل إهتمام ، بينما تصريحه الغبي بأن مشكلة دارفور سببها جمل لا يثير إندهاش ، موضوع القوات الدولية نفسه يثير الإهتمام بحد ذاته بينما مسبباته في دارفور لا تجد من يعير الإنتباه.
نجح المؤتمر الوطني في خلق بعض الإصطفاف خلفه ، بحيث أن هناك عدد من المغيبين عن الحقيقة ينتقدون المؤتمر الوطني على تدني الأجور مثلاً ، ولكن عندما يتعلق الأمر بدارفور أو الشرق فالمهم هو ( لازم البلد تتمسك) بمعنى إستتباب الأمن لصالح الحكومة المركزية ، هذه العلاقة الغريبة ليست تواطؤاً بالمعنى المباشر ، فنفس الشخص الذي يرى ضرورة فرض سلطة الحكومة المركزية ولو على حساب حقوق الإنسان قد تجده هو شخصياً متضرراً أشد الضرر من هذه السلطة!
تغيير بنية المؤتمر الوطني :
المؤتمر الوطني لم يعد هو الحركة الإسلامية بشكلها القديم ، إنه تحالف عريض بين الإسلاميين ، معظم الرأسماليين ، زعامات الكيانات الإجتماعية و الدينية : طرق صوفية ، مناطق ... ، ذوي النزعات الإنتهازية و القابلية للفساد في داخل المؤسسات الإقتصادية و الإدارية + القوات النظامية .
لطالما أن المصلحة الشخصية الإقتصادية المباشرة هي العقد الذي يحدد الإنتماء و الولاء ، فلم يعد المؤتمر الوطني يحتاج لكل الحمولة الإيدولوجية للحركة الإسلامية ، و طبيعة تخلله للمؤسسات الإجتماعية جعلته يتبنى خطاباً متطلباته الإجتماعية و السلوكية (لحى ، تسبيح ،....) أقل (مشاترة) للوسط الإجتماعي الذي يتغذى منه. ووظف كذلك أيدولوجيات لدى بعض الشرائح لخدمة مصالحه :
الأيدولوجيات الصغيرة :
أيدولوجيا العساكر : العسكري هو أهم شخص ، ينبغي الدفاع عنه ضد الجميع مهما كانت المبررات ، ينبغي أن يعاملهم المواطنون بتوقير ورهبة واضحة ، و السياسة عندهم رديف للسوء ، بينما الحكومة الحالية لا تمثل سياسة و إنما وضع أزلي طبيعي ، ورغم أن المنتمين لهذه الفئة معظمهم من الفئات المسحوقة إجتماعياً و إقتصادياً ، إلا أن التعويض المعنوى الذي يجدونه في إحساسهم الزائف بأنهم يمتلكون سلطة جعلهم يتوهمون أنهم مستفيدين من الوضع الحالي و يتماهون مع الجلاد.
أيدولوجيا مواطن الوسط:: كل الحروب الناشبة في أطراف السودان تستهدفهم هم كشماليين و بالتالي ينبغي ألا يتعاطفوا معها و لا يجب أن تثيرهم إنتهاكات حقوق الإنسان هناك فهي ثمن عادل ينبغي دفعه للحفاظ على أمنهم هم ، و أنه لا أبرياء .
أيدولوجيا النخبة السياسية :: أنه يمكن من أجل الغيير السياسي المراهنة على الخطاب العاطفي وحده و الإعتماد على نزعات (الرجالة) لدى المواطنين ، و يعتبرون ما يفعلونه من تبادل هذه النخب للخطاب المجتر هو إسهام في تغيير سياسي ، أو أنه يؤثر أدنى تأثير في خلق إلتفاف جماهيري.
نحتاج لخطاب جديد ، يلامس المصلحة بدلاً عن الخطاب الحماسي الأجوف ، عندما نتحدث عن الحرية لا يجب فقط ذكر حرية التعبير ، الرأي ... إلخ ، كم هي نسبة الذين يريدون التعبير أصلاً ، علينا إدراك ذلك قبل أن نحبط من أنهم لا يستجيبون . لا أقلل من أهمية حرية التعبير ، ولكن على الموجه لهم الخطاب أن يعلموا أن هذه الحرية تشمل كذلك حرية تناول الكحول أو ممارسة الجنس أو لبس ما يرغبون من الأزياء إذا شاؤا دون أن يكون للدولة شأن بهذا ، بل إن عليها حماية أمنهم و خصوصيتهم لمن رغب في ذلك . على النخب المعزولة أن تجرب هذا الخطاب بصراحة و ترى كم ستكسب ، عليها عندما تتحدث عن الإقتصاد أن تقنع الناس بأن ما تريده هو تنمية إقتصادية + عدالة إجتماعية ، وليس مشروعاً قائماً على تقاسم الفتات الحالي ، هذا لا يحفز أحداً .
أواصل....
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
فكر القطيع | amin siddig | 08-26-07, 12:59 PM |
Re: فكر القطيع | سلمى الشيخ سلامة | 08-26-07, 03:36 PM |
Re: فكر القطيع | Abdel Aati | 08-26-07, 05:32 PM |
Re: فكر القطيع | amin siddig | 08-26-07, 09:46 PM |
Re: فكر القطيع | طلعت الطيب | 08-29-07, 01:15 AM |
Re: فكر القطيع | طلعت الطيب | 08-29-07, 03:22 PM |
Re: فكر القطيع | amin siddig | 08-30-07, 10:57 AM |
Re: فكر القطيع | amin siddig | 08-30-07, 11:32 AM |
Re: فكر القطيع | amin siddig | 08-30-07, 12:54 PM |
Re: فكر القطيع | طلعت الطيب | 08-30-07, 04:43 PM |
Re: فكر القطيع | خالد خليل محمد بحر | 08-30-07, 05:36 PM |
Re: فكر القطيع | خالد خليل محمد بحر | 08-30-07, 06:18 PM |
Re: فكر القطيع | amin siddig | 08-30-07, 07:32 PM |
Re: فكر القطيع | Abdel Aati | 08-31-07, 10:22 AM |
Re: فكر القطيع | غادة عبدالعزيز خالد | 08-31-07, 04:43 PM |
Re: فكر القطيع | amin siddig | 08-31-07, 11:10 PM |
Re: فكر القطيع | nadus2000 | 08-31-07, 11:27 PM |
Re: فكر القطيع | amin siddig | 09-02-07, 00:23 AM |
Re: فكر القطيع | سلمى الشيخ سلامة | 09-02-07, 00:59 AM |
Re: فكر القطيع | amin siddig | 09-02-07, 11:30 AM |
|
|
|