العباد ينيرون ليل البلاد ..

سلامات يا سيدي ..
هل تأخرت قليلاً عليك ؟؟
سامحني ، فهي الدنيا ، وهي المشاغل .

تعال نواصل الحكايه ..






ليلة الذكرى الأولى لرحيلك يا سيدي ، حاول الخوف أن يحلق بجناحيه
فوق سماوات هذه البلاد وأن يحط على أرضها ، ولا أعرف لو أن هذا الطائر
العجيب يدري أو لا ، إننا عشنا في هذه الحياة أحزن ما فيها وأقسى لياليها
ولم يعد بوسعنا سوى أن نقاوم ونفرح وننتصر ..

وعليه ، حين جاء علينا صباح اليوم الثلاثون من الشهر السابع لهذا العام ،
كنا قد أعددنا عدتنا للقاء والإحتفال والإلتئام وجاءك الناس من كل السحنات والوجوه ..












جاء القوم مبكرين يا سيدي ، ملأوا المدرجات ، والممرات والشوارع والدروب الخلفية ،
يجمعهم ويلفهم حلم ، ذلك الحلم الذي شرحته لنا ذات مساء قبل أن تصطدم بالأماتونج :

السودان الجديد !

ذلك السودان الواحد العادل الرؤوف الرحيم



وطن فيه من الإبتسامات ما يكفي مسيرة ألف عام ..


قبل أن أسرح بك يا سيدي داخل الليلة ، دعني أحكي لك ، قبل أن أنسى ،
أن الشيوعيون جاؤوا ، ساروا على طريق شارع العرضة ، يحملون لونهم الأحمر
وصورتك وينادون باسمك .. جاؤوا لتحيتك باسم حزبهم الذي جارت به الدنيا
وبمشاعرهم القوية وثباتهم الأصيل ..




لقد تركت يا سيدي بنضالك الدؤوب والمستمر وبرؤيتك الواضحة أثراً عميقاً
في الأذهان والأفئدة ..

وكان إسمك ( وسيظل ) كافياً لأن نحلم وننظر للبعيد :


معليش يا سيدي ، أنا كل مره ساحكي لك حكايه جانبيه ؛ أعمل شنو ؟ إنت عارف
الزحمة بتجر الحكايات ..
أنا كنت بصور في اليوم والناس والوجوه والملامح والألوان وبحاول ألتقط المشاعر ،
وإذا بي ، فجأة ، ألمح داخل العدسة وجهاً ليس غريباً علي !

كان أستاذي في المدرسة قبل خمسة عشر عاماً ًً!! كان يدرسني الموسيقى ..
أذكر أنه جاءني في نهاية العام ليمتحنني ، وكان سهمي مارقاً وعياري طائش ،
سألني أن أكتب النوته الموسيقية ، فقلت له أني لا أعرفها ولن أرسمها ،
فقال لي ما هي الآلة التي ستعزفها أمامي ( لم أكن أستطيع عزف أي آله لأني
كنت أستغل حصص الموسيقى والرياضة في التدخين وما إليه ..) ؛
كان الرجل محترماً وشاعراً بالشراسة وقلة الأدب التي تجرح قلبي ومراهقتي ،
ولم يرد أن يتسبب في رسوبي ، فقال لي : طيب يا Tilal ، ما حافظ أي لحن ؟
قلت له : حافظ !
شنو ؟ سألني ..
قلت له : لامبادا !!!
فصرخ في الفصل والفرقة الموسيقية المكونه من الطلاب : لامبادا ، يللا ميوزيكا !!
فغمرت الفصل موسيقى صاخبة ، تحولت إلي هجيج ورقص ..
وكانت هذه آخر مره أراه فيها ، ذلك الأستاذ الطيب الذي يستنفذ كل محاولات نجاحك
قبل أن يتسبب في رسوبك .

السؤال يا سيدي : هل من الغريب أن ألتقي هذه النوعية من الناس بعد كل هذه السنوات
هنا ؟ عندك ، وعلى شرفك !


نرجع لمرجوعنا ..
في ستاد المريخ جاء الناس في يوم إمتد منذ الظهيرة وحتى الليل .













عصام طبعاً قاعد وبيصطاد !


ياسر عرمان أدهشني طوال الأسابيع الماضية بقدراته التنظيمية العالية
وإحتماله البعيد لكل الآراء واللغط . أهدافه واضحه طوال الوقت ولا يخشى
الخيال .
إختيارك له يا سيدي كناطق رسمي لحركتك ومن بعد إبتعاثك له كمفاوض كبير
له دلالات جميلة للذين في عيونهم نظر .


والحاج وراق كان معنا ..
راجل راقي ، وصادق ..

أتذكره يا سيدي ؟ كان نوارة حزبنا الشيوعي ، وفي ليلة من ذات الليالي ركب
رأسه وغادرنا !!


كل الإتجاهات والأحزاب جاءت وعلقت مطالبها على سياج ذكراك !
مالي أتذكر قباب الصالحين وأضرحتهم ؟؟


بنت



ولد



شايب




سيدي العزيز ، كنت لو تجولت في الستاد ستسمع تلك المزازيك الجبلية وإيقاعات
السهول ، أصوات البنات ودمدمة صدور الأولاد ، من الأنقسنا وجبال النوبه وأعالي
النيل والأواسط والمغارب والمشارق ..
قلت لصديقتي : أعتقد إنني في حفل تعارف !
















قد لا يفوتك أن الإعلام كان مشاركاً .. فالفرصه لا تعوض :
بشر وأحلام .







سيدي لا أود أن اطيل عليك ، لكني أحببتك أكثر ، إنتقل إلي من الجمع شعور إضافي
بمحبتك والإرتباط بك ، لقد رأيتك تماماً في عيون الناس والدموع وفي فقرهم المسكين
وطموحهم الذكي ، رأيتك في الأغاني والرقصات ، وفي المطالب المعلقة على بابك :
" دارفور يا دكتور ! " ، " الحرية وإلغاء القوانين الإستثنائية !" و " للشرق قضية !"
كلهم متعلقون بك ، يحلمون بأنك لم ترحل ولم تمت ، كلهم جاءوا ليطردوا عن عيونهم
الكابوس ، عسى أن تطلع عليهم وتقول لهم بصوتك الأخاذ : إزيكم يا جماعة !

لكن حينما غربت الشمس وحل الليل ، تأكد الكل ، إنك غادرت وإنك لم تعد موجوداً ..
فأوقدنا الشموع ، رأينا أحزاننا في عيون بعضنا البعض ، وتوحدت روحنا وكبرت ،
نضجت روحنا يا سيدي في هذه الليلةوأصبحنا أكثر قدرة وثقة في مواجهة أحزاننا ..


ربما لا أحتاج أن أقول لك أن نزوحك عن هذه الدنيا أحزنناوكسر قلوبنا ،
لكن بعد عام على رحيلك ، صرنا أقوى نحس بوجودنا ، الليلة يا سيدي أشعر
بالأمل أكثر من ذي قبل ، وبالأمان ، فأنا وسط شعب يعرف كيف يحمي مشاعره ،
وأنا إبن هذه الجهة ، أنا إبن التنوع والتعدد ، إبن لكل هذا التوق الأبدي
للحرية ..
أنا يا سيدي أستطيع اليوم وبكل طيب خاطر وجسارة أن أغني :
أنا سوداني انا
أنا سوداني .. أنا ..














فنم يا حبيبي ..
عليك السلام ..





...
طلال

(عدل بواسطة طلال عفيفي on 08-02-2006, 09:31 AM)
(عدل بواسطة طلال عفيفي on 10-18-2006, 06:11 PM)