كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
Re: دراسة حول الهوية السودلنية الجامعة بقلم الاستاذ محمد على جادين فلنناقشها (Re: altahir_2)
|
الجزء الرابع:- الحركة الوطنية ومفهوم الهوية الجامعة
في ثلاث مقالات سابقة ناقشنا قضية التنوع الثقافي والاثني والديني في السودان ككل وفي الشمال والجنوب ككيانين متمايزين لكل منهما خصوصيته المحددة، وينتج عن ذلك ان السودان يمثل دولة مركبة تتكون من عدة قوميات بعضها اكتمل نموها وتطورها وبعضها الاخر لايزال في طوره القبلي، ومن هنا جاءت انتقادات البعض لمفهوم الهوية الوطنية السودانية لدى الحركة الوطنية الحديثة في مرحلة النضال ضد الاستعمار واتهامها بالتركيز على العروبة والاسلام والهوية العربية الاسلامية الشمالية ومحاولة فرضها على المجموعات الاخرى غير العربية وغير المسلمة. وفي العادة تربط هذه الانتقادات بخصائص استعلاء عرقي وثقافي كامنة في الثقافة العربية الاسلامية والهوية الشمالية.
ولكنها تنطلق من مواقع ايديولوجية وليست علمية، وتعزل تطور مفهوم الوطنية السودانية الحديث عن ظروفه الاقتصادية الاجتماعية وسياقه التاريخي، فقد ظهر هذا المفهوم بمعناه الحديث مع بدايات الحركة الوطنية الحديثة (الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الابيض) في ظروف مواجهة الاستعمار البريطاني والنضال من اجل الاستقلال ووقتها كان السودان يعاني من ضعف عمليات الاندماج الوطني وبداية احتكاكه بالحضارة الغربية وعملية التحديث الكولونيالية. وفي مثل هذه الظروف كان لابد ان يركز مفهومها للهوية الوطنية على اللغة العربية والاسلام والثقافة العربية الاسلامية، بحكم دور هذه العوامل الرئيسي في بناء الكيان السوداني وتعزيز وحدته الوطنية طوال الفترات السابقة للحكم البريطاني المصري(1898-1956م) وذلك في ظروف كانت البلاد تعاني سيطرة القبلية والطائفية، كما يشير الى ذلك موقف القوى المهيمنة من ثورة1924م ومفاهيمها حول الهوية الوطنية وماكان لشباب حركة الاتحاد السوداني واللواء الابيض ان يفكر في هوية وطنية جامعة بعيدا عن العروبة والاسلام وارتباطه بمصر والحركة الوطنية المصرية الناهضة. في تلك الفترة لم يكن مجرد ارتباط عابر فرضته ظروف الحكم الثنائي ومناوراته، بل كان تعبيرا عن ارتباطات السودان بمحيطه الاقليمي، الثقافي والجغرافي والحضاري العربي، الذي يمتد الى فترة الحضارات القديمة وفترة الممالك المسيحية في القرون الوسطي وصولا الى دخول الاسلام وقيام السلطنات العربية الاسلامية في الوسط والشمال والغرب.
وقد ادى هذا التطور الحاسم لان يصبح الاسلام والثقافة العربية العامل الاكثر تأثيرا في تكوين هوية وثقافة البلاد بشكل عام ومناطقها الشمالية بشكل خاص. ومن هنا لايمكن اتهام الحركة الوطنية في تلك الفترة بالتركيز على هذا العامل واهمال المكونات والعوامل الاخرى فقد كان شبابها يركز على الهوية والثقافة الجامعة ويحارب الولاءات القبلية والطائفية. ووقوف القوى المهيمنة القبلية والطائفية ضد ثورة1924م اكبر دليل على ذلك وصدور كتاب عبدالله عبدالرحمن حول(العربية في السودان) في تلك الفترة كان يعبر عن الوعي السائد وقتها حول هذه القضية وعن محاولات جادة لربط العروبة السودانية بعمقها التاريخي وظروف تطورها الاقتصادية والاجتماعية كما تعكسها العربية السودانية. ومع ان تيم تيلوك يشير في كتابه(صراع السلطة والثروة في السودان) الى تيار(قومي عربي) داخل الحركة الوطنية النامية وقتها، فان ذلك لم يمنع هذه الحركة من التركيز على اطارها(السوداني) او من استيعاب عناصر قيادية في اوساطها تنحدر من مجموعات غير عربية(_على عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ مثلا) وهذا التوجه يعني امكانية تطور مفهومها للوطنية الجامعة.
وفي فترة مابعد قمع ثورة1924م تطور مفهوم الهوية الوطنية الجامعة فظهر ذلك في نشاط الجمعيات الادبية والفكرية وفي المدارس الفكرية والسياسية التي برزت في ثلاثينات القرن الماضي.وتبلورت سماته العامة في حركة مؤتمر الخريجين، خاصة مذكرته للحاكم العام(1942م) حول تقرير المصير والحكم الذاتي التي ركزت على التعليم والتجارة والسياسة الجنوبية وتوحيد شطري البلاد الخ... وشهدت هذه الفترة مناقشات واسعة حول الهوية والثقافة السودانية نشرت في مجلات النهضة والفجر، وبرزت في النشاط الثقافي الواسع الذي كان يقوم به مؤتمر الخريجين.
وكل ذلك يشير الي ان مفهوم الهوية الوطنية كان يخضع لعمليات مراجعة وتطوير ولم يكن مفهوما ثابتا لايتبدل ولايتغير وهنا تجدر الاشارة الي مناقشات محمد احمد محجوب وحمزة الملك طمبل حول الادب السوداني والى اين يتجه، حيث جرى التركيز على خصوصية انتماء السودان العربي والافريقي وخصوصية موقعه الجغرافي السياسي. المهم تميزت فترت ثلاثينات واربعينات القرن الماضي بصعود الموجة الثانية للحركة الوطنية وظهور الاحزاب السياسية كامتداد للمدارس الفكرية والادبية وكانت برامجها وشعاراتها السياسية تركز على رفض القبلية والطائفية وتعتبرها مهددا للوحدة الوطنية بركائزها العربية الاسلامية واستندت في ذلك على العوامل الاساسية المؤثرة في بناء الكيان السوداني كما يحددها المجرى العام لعمليات الاندماج الوطني طوال قرون عديدة. واستند ايضا الى ظروفه كرد فعل لسياسات الادارة البريطانية في احياء القبلية والطائفية في الشمال ولسياساته الخاصة بفصل الجنوب عن الشمال وربطه بالمستعمرات البريطانية في شرق افريقيا وساعدت على نمو وتطور هذا المفهوم عوامل تاريخية واقتصادية/ اجتماعية عديدة، شملت نشوء وتطور طبقة وسطي واسعة نسبيا ونشطة في المدن والمراكز الحضرية ومنتشرة في كل مناطق البلاد، وهناك ايضا ارتباط هذه الطبقة الوسطي بالنشاط الحديث في المدارس وجهاز الدولة والسوق وبثقافتها العربية الاسلامية وهويتها الشمالية اساسا. ولذلك سيطر هذا التوجه العام على انتاج الادباء والشعراء والفنانين(اجيال اغنية الحقيبة). ومن خلال ذلك تمكنت هذه القوى جميعها من نشر الوعي الجديد لمفهوم الوطنية السودانية الجامعة وبرز ذلك في كل المدارس الفكرية والسياسية السائدة وقتها وفي برامج وشعارات الاحزاب السياسية، رغم الخلافات والكفاح المشترك. والملفت ان كل الاحزاب الاساسية في تلك الفترة كانت لها ارتباطاتها باحزاب الحركة الوطنية المصرية (الاتحاديون، الاخوان المسلمون، الشيوعيون الخ...) حتي حزب الامة كان صدى لحزب الامة المصري وشعاره (مصر للمصريين) وفي السنوات اللاحقة ظهر حزب البعث السوداني عن طريق التنظيمات البعثية في مصر، المهم ان كل هذه الاحزاب كانت تركز على وحدة الكيان السوداني وعلى دور الاسلام واللغة العربية في مكونات هويته الوطنية ووحدته وتماسكه، وفي الوقت نفسه ظلت تقاوم السياسة البريطانية الخاصة بفصل الجنوب عن الشمال، وظلت تبدي اهتمامها بكافة مناطق البلاد وفي نهاية الاربعينات نجحت مقاومتها للسياسة البريطانية في الجنوب بتراجع الادارة الاستعمارية عن(السياسة الجنوبية) في مؤتمر جوبا1947م واعلانها ربط الجنوب بالشمال في اطار سودان موحد، وهذا المؤتمر كان نتاجا لمقاومة حركة مؤتمر الخريجين لتلك السياسة واسباب اخرى خاصة بالسياسة البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية ودخولها في ترتيبات الحكم الذاتي واستقلال السودان. وفي هذا الاطار تمثل العامل الحاسم في الموقف البريطاني، حيث اشار السكرتير الاداري وقتها الى صعوبات فصل الجنوب عن الشمال وربطه بمستعمرات شرق افريقيا، واكد ان شعب الجنوب شعب افريقي زنجي لكن عوامل الجغرافيا والاقتصاد تفرض عليه ربط مستقبله بالسودان الشمالي العربي المسلم والشرق اوسطي (فرانسيس دينق، ديناميات الهوية) وفي نفس هذا العام ظهر تردد هذا الموقف في مذكرة رسمية كانت تدور حول امكانية فصل الجنوب عن الشمال في النهاية عن طريق تحويل المشكلة برمتها الى (لجنة دولية) في وقت مناسب (نفس المصدر السابق) وهكذا فرضت السياسة الجديدة بمشاركة شمالية محدودة في مؤتمر جوبا، رغم تحفظات الجنوبيين المشاركين في المؤتمر لكنهم وافقوا في النهاية استنادا الى ضمانات بريطانية بحماية خصوصية الجنوب ومصالحه في مواجهة الشمال، وهذا التغيير الكبير كانت له نتائج حاسمة في تطور مفهوم الهوية عند الحركة الوطنية السودانية في السنوات القليلة التي سبقت اعلان الاستقلال في مطلع1956م، وهذا سنناقشه في مقالة قادمة.
محمد على جادين
|
|
|
|
|
|
|
|
|