بحري طراوة... ويا ناس بحري .. قالوا بتحبوا يلا حبونا..

Quote: الهادي آدم والأسطورة في شعره الإنسان في نظره الفاحص فيما يجري في العالم من التطور- في مختلف أوجهه – الحياتي والسلوكي والاجتماعي والسياسي ، يلاحظ أشياء تحدث حواليه فيدري أسبابها من خلال معرفته لمسيرة الأشياء عبر الزمن أو هو لايدري لها سببا فيحاول أن يختلق مسببات ويعرضها على ما هو حادث أمامه فإما أن تكون النتائج مطابقة لافتراضاته فيقول بكل جراءة أرخميدس – صاحب نظرية الطفو والأوزان – وجدتها وجدتها ولا يهتم بأن يراه الناس خارجا من الحمام عاريا كما ولدته أمه وإما أن يلتجئ الإنسان إلى ذخيرته من الأساطير والخرافات .. يحاول أن يجد فيها ملجأ من صداع العقول ..كأن يتحدث عن الكلب والتمساح وما بينهما من عداوة متلازمة بينهماإذ يقولونإن الكلب خدع التمساح بطريقة ما وجعله يخرج لسانه الذي كان له – ككل الحيوانات – وأسرع بالتهامه فصار التمساح يترصد بالكلب طلبا لثأره منه في أكل الكلب لسانه ، أو كالحديث عن تلك العصفورة الدقيقة الرجلين التي تنام وهي رافعة ساقيها الدقيقتين إلى أعلى ولما سئلت عن ذلك قالت إنها تخشى أن تسقط السماء على الأرض وهي نائمة فتحاول برفع ساقيها إلى أعلى منع السماء من أن ترمي بثقلها على الأرض.. والقصص الخرافية هذه كثيرة والإنسان الإفريقي هو أكثر من يُعرف تأليفا للأساطير التي سرعان ما يصدقها هو، بحكم انغلاقه عن العالم المعروف بأنهاره الجائحة وجباله الشاهقة المشرئبة إلى السماء ، فكأنما بينها وبينه من العلائق أكثر مما بينه وبين أخيه الإنسان ..وفي هذه العجالة نتناول الشاعر السوداني المعلم الهادي آدم في قصيدة ثانية فيها كثير من التفكه والطرافة .. نجدها في ديوانه الثاني ( نوافذ العدم) ، والذي جاء بعد ديوانه الأول ( كوخ الأشواق) في طبعتين اثنتين أولاهما في القاهرة بمصر والأخرى ببيروت بلبنان .. وتتحدث القصيدة عن أسطورة تغير الإنسان في مسيرة حياته من الشباب حتى الشيخوخة ..مستلهما ما قد تكون حكته له جدّته من أسطورة ربما تكون حكتها لها جدتها وهي طفلة ..فالجدة في السودان وإلى عهد قريب كانت هي المصدر الأول في القصص والحكايات للأطفال ..هذا طبعا قبل ظهور المسلسلات بأنواعها المختلفة وغياب دور الجدة عن دائرة الأسرة النووية .. وعندما نتحدث عن الهادي آدم بصفة المعلم فعلينا أن نتعرف على صفة أصيلة في أهل التعليم ، ونعني بها الإبانة والاستفاضة والشرح ، فما كل متلق للعلم في ساحة الدرس هو الإمام الشافعي الذي يقال إنه كان يقفل أذنيه بالقطن عندما يأتي إلى السوق حتى لا يحفظ أقوال الباعة .. وما كل متلق للعلم هو في (نباهة ) باقل الذي كان أبكم وأراد أن يري صديقه سعر الغزال الذي اشتراه هو أحد عشر درهما، فأطلق الغزال وأخرج لسانه وفرّ الغزال هاربا .. يقول الشاعر مبتدرا قصته : هل تسمحون يا صحاب ؟ عندي لكم حكاية مسلية قد كان هذا من زمان إذ صوّر الله البشرْ في شكل إنسان له كيان ..له لسان ساحرالبيان ومقلتان في الظلام تومضان .. ومسمعان وفوق هذا كله ِ حباه عقلا مطلق العنان ولكن الإنسان هذا كان يشكو من شيء واحد .. قصر سنه .. فقد كان لا يتجاوز العشرين عاما .. وأما الطاووس والحمار والكلاب والقرود ..فأعمارها كلها أربعون عاما.. وعجب الإنسان للإله ْ .. وهو الذي بناهْ.. وتم بالعقل له بناه فكيف يحبوه بنصف ما حبا الكلاب والقرود من حياةْ ؟ لكنه أصرّ في عنادْ أن يستبيح المستحيل كي يزادْ وبينا راح يقلب الأمور َ يدرس الخططْ إذ دخل الطاووس في اختيال منتفخ الأوداج للجدال وصاح مذعورا على الإله كمن رآى في طول عمر شقاه ربّاه هبني العفو إنه محال حسبي من الدنيا التي عرفتها عشرين عام ما أصعب الحياة يا إله والمقام .. ويفرح الإنسان من هذا المتبرع بنصف عمره وطلب أن يعطى هذا العمر الزائد عن حاجة صاحبه ..فكان ما أراد .. وقبل الإله وحقق الإنسان ما اشتهاه وحقق الطاووس ما اشتهاه وجاء المتبرم الثاني من طول عمره ..الحمار ..نهق نهقة كأنها الصهيل .. كيف لمن كان مثله أن يعيش أربعين عاما من النهيق والشهيق وأن يحمل أثقال بني آدم مزاحما الحمير في الطريق ؟ وهنا ظهر الإنسان في مظهره المنافق وخاطب الحمار (المنافق الجحود بأنعم الإله ) ..وفي كثير من الرياء وادعاء الحياء يخاطب الإله : سامحه يا إله ..هبني سنيّ عمره العشرين لكي أكون في الستين وحقق الإنسان ما اشتهاه وحقق الحمار ما اشتهاه وجاء الكلب يسبقه صوت نباحه البعيد وما زال يدنو فيعلو الصوت حتى وصل إلى المكان المطلوب حيث ترافع قائلا في خشوع وخضوع : رباه يامبلِّّج الصباحِ .. مُزجِيَ الرياح أأربعون عاما دونما هجوع؟ أأربعون عاما كلها نباح..كلها صياح؟ كفاي نصف هذا العمر في العذاب ! ولاحت الفرصة للإنسان من جديد لكي يضمّ فرصة لعمره المديد ولم يزل يستعطف الإلهْ .. هبني بقايا عمره .. فإنني فداه وقبل الإله وهناك في الأفق ظهرت مجموعة من القرود جاءت ببث ربها القدير ما نالها من عمرها الطويل! أأربعون عاما كلها تأرجح على الغصون؟ وضحكة لكل ذي هوىً .. رباه إنه جنون هبني من الحياة نصفها .. وليك بعدها ماقد يكون ويغتنم الإنسان الفرصة .. يحتاج إلى قليل من التوسل للإله كي تزاد عشرون عاما جديدة إلى عمره فيصِلَ المائة عام !وهكذا جمع الإنسان عمر الطاووس والحمار والكلب والقرد .. ولكن ماذا كلن من أمره؟ قد أصبح الإنسان باختصار في الفترة الأولى يعيش كالبشر تهفو له القلوب إن خطر يعيش ملء السمع والبصر حتى إذا تجاوز العشرين ْ .. تراه كالطاووس في البهاء قد ضمّخ اللمة بالعطور ولمّع الحذاء يغازل النساء َ .. يرمق الحياة في ازدراء ويقطع اشباب في تدلل وكبرياء وبعدها يظلّ كالحمار يحمل فوق رأسه الخضارْ.. واللحم والرغيف والبطيخ وتارة ملابس الصغار يظل هكذا بالليل والنهار حتى إذا أخذت عيونه تضيق ونام تحت حاجبيه الإغبرين جفنه العريق ولم يعد يطيق ُ من وظيفة الحمار أقعى ككلب مسعر النباح يصيح بالأحفاد في المساء والصباح لا تشربوا من هذه القلل لا تضربوا الحمل ألم يعد لكم عمل؟ وأنت ياهشام لا تترك (الخرطوش ) هكذا لقد سئمت هذاالبيت .. ياااااا سلام ! حتى ذا ما أدرك الثمانين سكت وبعدما ثرثر في الدنيا صمت ولم يعد له كلام سوى تحركات القرد في الآكام طورا يكحّ دونما انقطاع وتارة يواصل الضحك ويشتكي من الصداع ولم يعد يسأل عن شيء ٍ سوى الطعام كذلك اليوم الذي أطلّ فيه صارخا على الأنام إذ وضعته أمّه غلام لا يبتغي شيئا سوى الطعام وبعدها ينام !! وهكذا يتنقل الإنسان في مراحل عمره حتى يصل إلى أرذلها ثم ( ومن نعمّره ننكثه في الخلق أفلا يبصرون )يس الآية (68) .. وبعد .. ألم تر كيف فعلت الأسطورة بقصة المخلوق الآدمي وحبه لأن يطول عمره؟ ألا تجد الشاعر وفّق في تصوير انفعالات الشباب الذي يتمايل تيها ويعربد إذ يرى حلّة الجمال الزاهية فكأن لاشيء غيره ثم هو يتحول إلى رب أسرة ملتزم بأعباء إعاشتهم ثم هو يدع دنيا العمل بعد تجاوز الستين ثم هو وقد تفرغ للبيت يتدخل في كل صغيرة وكبيرة ، فينهر ويأمر وينهى والحفدة لا يطيعون أوامر جدهم ،فهم في شأن جديد وا عليهم من هذا الضيف الثقيل الذي لا يرحل؟ ثم تأتي الخاتمة الحزينة .. فقد تفرق عنه أصحابه بفعل الشيخوخة أو الموت فلا يجد من يؤانسه ويملأ عليه وحدته الطويلة .. لعل امراته نفسها قد فارقته إلى بناتها أو أبنائها فلم تعد بها إليه حاجة .. وماصاربينهما ما يكون بين المرء وزوجه ..أما الأسقام فلا تكاد تفارق له مهدا .. الكحة اللعينة تجعله مصدرا لأرق النائمين بعد رهق النهار والتحولات النفسية التي تعتريه ما بين ضحك وبكاء والشراهة للأكل كل ذلك يصوره لنا الشاعر الهادي آدم في صورة عبقرية متفردة ولغة بسيطة تنفذ إلى القلوب قبل الآذان .. رحمة الله عليك أخي الهادي آدم في الخالدين عبد السلام كامل عبد السلام تلفزيون السودان الرمز البريدي 1441 ص ب 1094 أم درمان السودان هاتف :00249129092503