وينو ماضى الحله....وين.. ومين الشالو

Quote: كان التساؤل عن ماهية الزمن وإمكان السفر عبره - مثلما نسافر عبر المكان - من أهم التساؤلات التي شغلت بال الكثيرين من العلماء والمفكرين، بل والفلاسفة والمتصوفة منذ وقت طويل، في كثير من الثقافات والأديان. لا يزال فريق كبير من علماء الفيزياء ينظرون إلى الزمن على أنه أحد أغرب خصائص الكون الذي نعيش فيه، والذي لايزال يحوطه كثير من الأسرار التي تحتاج إلى وقت طويل وجهود لاتهدأ حتى يمكن سبر أغوارها. والواقع أن قواعد اللغة في معظم ثقافات العالم تعرف التفرقة بين الحاضر والماضي والمستقبل، كما تميز بين أجزاء الفترة الزمنية ومكوناتها، التي اصطلح على تسميتها في الحضارة الإنسانية الحديثة بالثواني والدقائق والساعات، مثلما تميز بين الغد والأمس. وعلى الرغم من ذلك فلا يزال من الصعب وضع تعريف دقيق للزمن وإن كان أينشتاين قال إن الزمن هو ببساطة ماتشير إليه الساعة سواء أكانت (الساعة) هي دوران أحد الكواكب أو حركة الرمال في الساعة الرملية، أو نبضات القلب وما إلى ذلك. فحركة عقارب الساعة (تسافر) أي تقطع مسافات متساوية في فترات زمنية متساوية. بيد أن عددا كبيرا من العلماء يذهبون إلي أنه يمكن (تشكيل) الزمن بطرق وأساليب مختلفة، مثلما يتم تشكيل الصلصال بأيدي الفنان الحاذق الماهروهويصنع التمثال. وقد ازداد اهتمام كتاب الخيال العلمي بفكرة السفر عبر الزمن بعد ظهور رواية الكاتب الإنجليزي إتش جي ولز H.G. Wellsعن (آلة الزمن) عام 1895 التي يعتبرها الكثيرون أهم عمل عن الموضوع، ولذا لاتزال تظهر حتى الآن في طبعات متتالية على الرغم من مرور أكثر من قرن على ظهورها، كما أنه تم إخراجها كفيلم سينمائي أكثر من مرة. ورواية ولز آلة الزمن The Time Machine التي تعتبر الآن في نظر الكثيرين من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي رواية بسيطة ولكنها محملة بالأفكار العميقة المعقدة التي تدعو إلى التفكير في مستقبل المجتمع الإنساني بكل ماسوف يمثله من حسنات ومساوئ، وما يحمله من خير وشر، خاصة أن تصور ولز لهذا المستقبل يختلف كل الاختلاف عن تصور العديدين من كتاب الخيال العلمي في الموضوع نفسه. فالصورة العامة الشائعة في تلك الكتابات عن المستقبل هي أن مجتمع الغد الذي يقوم على التكنولوجيا المتقدمة، سيكون نوعا من اليوتوبيا الراقية التي يسودها الحب والسلام، والتي تمثل مستوى من التقدم والرقي والازدهار تتضاءل أمامه قدرات المجتمع الحالي الذي نعيش الآن فيه، بحيث يبدو مجتمعا متخلفًا - إن لم يكن بدائيًا - وذلك على عكس مايرى ولز الذي يصف في الرواية مجتمع المستقبل بالتدهور والانحطاط والتراجع والافتقار إلى السلام، وأن مجتمع مافوق اليوتوبيا الذي يبشر به الكثيرون لن يكون في حقيقة الأمر سوى صورة نموذجية للتخلف والانهيار. فالرواية تدور حول المسافر في الزمن الذي أفلح في بناء آلة تحمله إلى عام 701 , 802 في المستقبل ليجد نفسه في عالم خـرب من بقايا المباني المعدنية المتهدمة ويصادف فيه نوعين متخلفين من الكائنات البشرية، يتألف أحدهما من مخلوقات هشة ضعيفة وقميئة، إذ لا يزيد طول الواحد منها عن أربعة أقدام، وقد ارتبطت بالأرض ارتباطا شديدا فقدت معه كل رغبة في تغيير أوضاعها أو الارتفاع بمستواها المعيشي، ولذا خضعت لسلطان وسيطرة النوع الثاني الذي يحرص على الحفاظ عليهم ليكونوا هم الزاد الذي يقتات عليه. وواضح أن نوعي البشر يرمزان إلى الشعوب الضعيفة أو المستضعفة التي تخضع لجبروت المجتمعات الصناعية القوية التي تعيش على دماء الآخرين. وبصرف النظر عن مكانة الرواية في الأدب الإنجليزي فالمهم هنا هو أنها أوحت إلى الكثيرين بفكرة السفينة أو الآلة التي يمكن أن تمخر بالإنسان عباب الزمن إلى المستقبل أو إلى الماضي، ليشاهد على الطبيعة ما سوف يكون عليه عالم وشعوب وثقافات المسقبل أو أحداث التاريخ مجسمة أمام ناظريه، وذلك تبعا لما إذا كانت الرحلة عبر الزمن متجهة قدما نحو المستقبل، أو تستهدف الرجوع إلى الوراء لمعايشة أحداث التاريخ. اختراع المستقبل ولقد كان ولز شديد الاهتمام والولع بالتفكير في مستقبل العالم والإنسانية بحيث أصبح معروفًا بأنه (الرجل الذي اخترع المستقبل). وقد أفلح إلى حد كبير في تقديم صورة عن هذا المستقبل، تحقق بالفعل جانب كبير منها نشاهده الآن في ضخامة المدن الحديثة وازدحامها وطرقها السريعة واعتماد سكانها في تصريف شئون حياتهم اليومية على الكمبيوترات وقضاء أوقات فراغهم أو راحتهم أمام أجهزة التلفزيون أو في مشاهدة أفلام الفيديو، في الوقت الذي تتوحش فيه أداة الحرب التي سوف تخرج بالضرورة عن قدرة الإنسان على التحكم فيها، مما يؤدي في آخر الأمر إلى تدمير الإنسانية ذاتها.ولكن ولز كان يؤمن -على الجانب الآخر -بقدرة الجنس البشري على إيجاد صفوة من الناس لهم نظرة ثاقبة تمكنهم من إدراك أخطار الحروب والدعوة إلى إقامة الدولة العالمية World State التي تقوم على السلام وبذلك يبدأبزوغ عالم جديد حوالي منتصف القرن الحادي والعشرين. ولكن إذا كان المسافر عبر الزمن أفلح في السفر إلى عام 701 , 802 ليرى المستقبل المخيف الذي ينتظر العالم، فإن آلة الزمن حملته أيضا إلى عام ثلاثة ملايين ليرى موت كوكب الأرض. والفكرة السائدة لدى الكثيرين هي أن (آلة الزمن) كانت أول عمل روائي يدور حول السفر عبر الزمن، بينما يشيرالواقع إلى أنه كانت هناك قصة قصيرة لكاتب مجهول الاسم نشرت عام 1880 بجريدة New York Sun تحت عنوان (الساعة التي تدور إلى الوراء) كما ظهرت للكاتب الأمريكي الشهير مارك توين رواية عام 1889 بعنوان A Connecticut Yankee in King Arthur's Court إلى جانب بعض أعمال أخرى أقل أهمية، ولكن رواية ولز تتميز عنها جميعا بأنها عمل أدبي اعتمد لأول مرة على الوسائل التكنولوجية (آلة الزمن) للقيام بالرحلة عبر الزمن. وكان ذلك فاتحة لأعمال أخرى عديدة لاتعتمد على الخيال الصرف وحده وإنما تلجأ إلى جانب ذلك إلى التحليل العلمي لإضفاء قدر من المصداقية على أحداث الرحلة كما هو الحال في كتاب ريتشارد جوت الذي ظهر عام 2001 بعنوان (السفر عبر الزمن في عالم أينشتاين : الإمكانات الفيزيقية للسفر عبر الزمن)، وهو مزيج رائع من الخيال الخصب والتحليل العلمي الدقيق. وقد أنتجت صناعة السينماعددا من الأفلام، المستمدة من تلك الروايات والكتابات ذات الطابع العلمي الممزوج بالخيال وكان لرواية ولز حظ وافر في ذلك حيث تم إخراجها ثلاث مرات على الأقل بقراءة وإنتاج مختلفين. كذلك ظهر في عام 1979 فيلم بعنوان Time After Time يتخيل أن ولز نفسه هو المسافر عبر الزمن. وربما كان أشهر الأفلام حول الموضوع -بعد آلة الزمن هو الثلاثية الفيلمية التي تحمل عنوان (الرجوع إلى المستقبل Back to the Future الذي ظهر الجزء الأول منه عام 1985، وتدور أحداث هذه الثلاثية حول مغامرات أحد الطلاب الذي يستعين بآلة للسفر عبر الزمن في فترات زمنية مختلفة نقلته إلى الماضي (1885) والحاضر (1985) والمستقبل (2015). وفي الجزء الأول الذي صادف نجاحا هائلا في الخارج يظهر المسافر وهو يعاصر أول لقاء بين أبويه فيتدخل كي يمنع هذا اللقاء من أن يتطور إلى علاقة غرامية تنتهي بالزواج والإنجاب. وواضح أن هذا التدخل من جانب المسافر يعرض وجوده هو نفسه للخطر، نظرا لاستحالة ولادته بدون إتمام تلك العلاقة التي أدت في الواقع إلى وجوده. وهذه صورة سينمائية لإحدى المفارقات العلمية المهمة التي يلجأ إليها بعض العلماء للتدليل على استحالة السفر عبر الزمن إلى الماضي. وقد تجاوز الاهتمام بمشكلة السفر عبر الزمن مجال الخيال العلمي والأفلام السينمائية بل ونطاق التفكير العلمي النظري البحت، وزال الشك من أذهان عدد كبير من العلماء حول إمكان القيام بمثل هذه الرحلات وذلك استنادا إلى نظرية أينشتاين في النسبية الخاصة عام 1905. وإذا كان أينشتاين هو المسئول عن اعتبار الزمن هو البعد الرابع، فإن ولز كان أسبق منه حين ذكر في الرواية أنه (لا يوجد فرق بين الزمن وأي من الأبعاد الثلاثة للفضاء باستثناء أن إدراكنا أو وعينا يتحرك مع الزمن) وقد ازداد الميل إلى الاعتقاد بأن السفر إلى المستقبل أمر ممكن حدوثه، وإن كان هناك شك حول إمكان القيام برحلات إلى الماضي على الرغم من أنه لايوجد في قوانين الفيزياء ما يمنع من الناحية النظرية على الأقل من تحقيق ذلك إذا استطاع الإنسان السفر بسرعة أكبرمن سرعة الضوء. وقد تكون الرحلة عبر الزمن إلى الماضي أكثر إمتاعا وإثارة في رأي البعض من الرحلة إلى المستقبل، ولكن يحول دون تحقيق مثل هذه الرحلات بعض المعوقات المهمة ذات الطابع المنطقي التي يثيرها الرافضون لفكرة العودة إلى الماضي ومعاينة أحداثه ومعايشتها على أرض الواقع، لأن العودة إلى ذلك الماضي الذي راح واندثر يحوطها كثير من المفارقات والتناقضات المنطقية التي تطفو على السطح بمجرد التساؤل عما عساه أن يكون عليه الوضع فيما لو أفلح شخص ما في العودة عبر الزمن إلى الوراء وقابل جده وهو طفل صغير فقتله؟ لا شك أن ذلك سوف يترتب عليه استحالة وجود ذلك المسافر نفسه لأن وجوده كان نتيجة بلوغ الجد مرحلة الرجولة والزواج وإنجاب أحد والدي المسافر الحفيد القاتل، وهي أمور لايمكن أن تتحقق نظرا لموت الجد وهو طفل صغيرعلى أيدي حفيده الذي أفلح في السفر عبر الزمن إلى الفترة التي شاهدت مقتل الجد / الطفل على أيدي ذلك الحفيد الذي لم يولد. والمفارقة هنا تتمثل في أن شيئا قد حدث ولم يحدث في لحظة معينة من التاريخ. الرحلة إلى الماضي والأكثر من ذلك هو أن الرحلة إلى الماضي تعني ضمنا أن المسافر وصل إلى فترة زمنية سابقة أو ماضية لم يكن قد وجد فيها من الأصل، مما يعني أنه كان موجودا وغير موجود في تلك اللحظة المعينة وهذا التناقض المنطقي ينفي - من وجهة نظر أصحابه - إمكان القيام بالرحلة أساسًا. وتذهب بعض الآراء التي خاضت في هذا الموضوع إلى أن مادة الكون توجد فقط في اللحظة الحالية ولذا فلو أفلح شخص ما في السفر عبر الزمن إلى فترة زمنية سابقة فلن يجد شيئًا، لأنه لم يكن جزءا من الكون الذي عاصر تلك الفترة, كما أن مادة الكون الذي ينتمي إليه ستظل موجودة في الحاضر الذي انسلخ هو منه، وبذلك فلن يتاح لذلك المسافر أن يرى في ذلك الماضي غير نفسه. ثم هناك من يذهب إلى استحالة استخدام آلة الزمن - على افتراض النجاح في اختراعها وبنائها وتشغيلها -في الرجوع إلى الوراء إلى فترة زمنية سابقة على ظهور تلك الآلة ذاتها وإن كان يمكن استخدامها في السفر إلى المستقبل، ثم العودة بها إلى لحظة الانطلاق فحسب دون أن تتعداها إلى أي فترة زمنية سبقت وجود تلك الآلة. وعلى أية حال مناقشات طويلة ومعقدة حول صعوبة السفر إلى الماضي لاداعي إلى الخوض في تفاصيلها هنا. ومع ذلك فإنه إذا كانت قوانين الفيزياء لاتمنع من التحرك عبر الزمن إلى الوراء فإن هذه العودة تحمل معها -إذا تحققت - خطورة إمكان القيام بتصرفات قد يترتب عليها تغيير الحاضر الواقع، وهذا احتمال كفيل بأن يقلب الأوضاع القائمة رأسا على عقب. والأغلب ألا تصل الأمور إلى هذا الحد من السوء وإلى مثل هذه النهاية، حيث يرى الكثيرون أن هناك شيئا ما في الكون يمنع من الحركة عبر الزمن إلى الوراء وإلى الماضي من الحاضر المتغير والمتحرك قدما نحو المستقبل، وذلك على الرغم من كل ما قاله أينشتاين، وعلى الرغم مما يذهب إليه بعض العلماء من إمكان القيام بهذه الرحلات إذا توافرت الضوابط الكفيلة بحماية الحاضر من التغييرات التي قد يدخلها رحالة الزمن على الماضي الذي يصلون إليه ويتعاملون معه. وعلى أية حال فهناك من الباحثين من اقترح وسائل وطرقا لبناء سفن أو (آلات) للسفر إلى الماضي أو المستقبل دون الخروج على قوانين الفيزياء وأن هناك دائما إمكانا للتوصل إلى تكنولوجيا متقدمة تكفل تحقيق حلم الإنسان في حرية التحرك كما يشاء عبر الزمن، وإن كان الوصول إلى هذه التكنولوجيات ليس بالأمر الهين أو السهل الميسور، ولكن علينا أن نتذكر دائما أن فيزياء السفر عبر الزمن لاتزال في المراحل المبكرة من طفولتها. هذا معناه أن علماء الفيزياء - أو بعضهم على الأقل - الذين كانوا ينظرون إلى التفكير في السفر عبر الزمن على أنه نوع من الترف الذهني أو التمرينات الكفيلة بتقوية (عضلات) الذهن لدى المفكرين النظريين، الذين لايكادون يعرفون شيئا عن الواقع العملي، يبدون الآن كثيرا من الاهتمام ببعض فروع الرياضيات المتقدمة، التي قد تكون لها صلة بالسفر عبر الزمن، وأنه إذا كان الخيال العلمي عن السفر إلى الفضاء، قد أوحى باختراع السفن والصواريخ التي حملت الإنسان إلى القمر واكتشاف الفضاء فإن هذا الخيال العلمي نفسه عن السفر عبر الزمن قد يؤدي إلى اختراع أجهزة أو آلات أو سفن تحقق للإنسان هذه الأمنية، لدرجة أن بدأ البعض يتساءلون عن ماذا يمكن أن يتم في هذا المجال خلال القرن الحالي (القرن الحادي والعشرين)، بكل مايحمله من مفاجآت يصعب التكهن بها. ولكن يبقى بعد هذا كله أن أحدا من العلماء الذين يعتقدون فى إمكان السفر عبر الزمن لم يحاول القيام بأي خطوات معملية للبرهنة على صحة أفكاره على الرغم من قبولهم لحسابات أينشتاين التي تؤكد أنه ليس في قوانين الفيزياء مايمنع من قيام هذه الرحلات. ولكن العبرة هنا هي مدى توافرالأدلة والشواهد العملية التي تساند افتراض إمكان تنفيذ هذا النوع المثير من الرحلات. متى يتحقق الحلم؟ وواضح من هذا كله أنه لم يعد ثمة مفر من أن يرجع العلماء المهتمون بمشكلة السفر عبر الزمن وإمكان تحقيق الفكرة / الأمل إلى كتابات الخيال العلمي، مع إرجاء التنفيذ على أرض الواقع إلى فترة زمنية غير التي نعيش فيها، أو ربما إلى حضارة أخرى قادمة تكون أكثر تقدما وتطورا من الحضارة الراهنة. ولقد كتب كارل ساجان - Carl Sagan - وهو من كبار علماء الفلك المتابعين لكتابات الخيال العلمي والمهتمين بتبسيط العلوم - رواية استخدم فيها آلة السفر للانتقال بشخصيات الرواية عن طريق أحد الثقوب السوداء من موقع قريب من الأرض إلى موقع قريب من أحد الكواكب الأخرى، واستعان أثناء كتابته للقصة الخيالية بخبرة أحد علماء الفيزياء كي لا تتعارض الأحداث الواردة في الرواية مع القوانين العلمية، وذلك على الرغم من أنه عمل روائي وليس بحثا علميا. ويذهب ساجان في ذلك إلى أن كل إنسان يرحل في حقيقة الأمر طيلة الوقت عبر الزمن نحو المستقبل، ولو استطعنا أن نقوم بهذه الرحلة بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فسوف يتاح لنا أن نحقق رحلات حقيقية إلى المستقبل بعد وقت غير بعيد. ولكن متى يمكن لهذا الحلم أن يصبح حقيقة؟!.