التاريخ السياسى لمعهد الموسيقى والمسرح - مذكرات بقارى من التور الى الكمبيوتور 1982-2006

Quote: عزيزي سيف ، تحياتي لك ولضيوفك الأعزاء. حين كتبتُ في بوست الأخ عيسى مداخلتي "الاحتفالية" هذه ، والتي نقلها عيسى مشكوراً إلى بوستك هذا ، لم أكن قد إطلعت بعد على هذا البوست وما يحاول مقاربته من أسئلة تحقيقية تتعلق بهذا النص الشعبي ذائع الصيت. كان دافعي للكتابة هناك لا يتعدى في منطلقه إلقاء التحية. وبما أنني ممن يعتقدون إن هذا المنبر مأزوم ، في عمومه ، بكتابةٍ مجانية لا يدفع بغالبها هاجس معرفي ، فقد عنَّ لي أن أقوم بإثبات هذا "الخبر" الذي نقلته عن سهرة إذاعية قديمة عسى أن تكون فيه "منفعة" ما ولكنني لم أكن في واقع الأمر أروّج لـ "معلومة" أوصلني إليها سابق بحث أو تحقيق. هل تذكر حكاية ذلك الذي "ينعي إبنه ويصلح ساعات؟" أما وقد قرأت ما تفضلت أنت بكتابته هنا فأسمح لي بطرح هذه القضايا النظرية لعلّ أن يكون بينها ما يساهم معك في توسعة أفق أو ترصين منهج أو تأهيل سؤال: (1) محاولتك توطين هذا النص الشعبي (الليموني ، كما نبهتني) داخل مجال ثقافي بعينه (دار حامد) وذلك إنطلاقاً من بنية لغته الخاصة وعبر الركون إلى إحالاته الواقعية إلى طبوغرافيا محددة هي محاولة تبدو لي في عمومها مقنعة منهجياً ولربما أجدت فيما يتعلق بأعمال النفي (كقولك إن كباشي راشد لا يمكن أن يكون هو كباشي الليموني مثلاً) ولكن القيمة "الموضوعية" لمثل هذه المحاولة ستظل محدودة فيما يتصل بإثبات "حقائق" خارج التلميحات التي يتوفر عليها النصّ والتي هي بالطبع تلميحات منفلتة من حيث أن قيمتها لاتكمن في مطابقتها لأية دعاوى تاريخية قد تتعلق بها لاحقاً بل تقتصر مثل هذه القيمة "الحدسية" إن وجدت على المدلول الجمالي وحده. أن ما يعرف في الخطاب النقدي الحداثي بالقراءة النصية هي قراءة تجاوزت سؤال مشروعيتها منذ زمن بعيد وذلك من خلال المقاربات البنيوية وما بعدها. وقد أثبتت جدارة مستحقة وفاعلية مؤكدة في "إنتاج معرفة" بالنصوص الإبداعية سواء إن تمَّ إنتاج هذه النصوص داخل فضاء ما يعرف بـ "الثقافة العالمة" أو ما يعرف أيضاً بـ "الثقافة الشعبية." إن إستخدام هذا المنهج في قراءة النصّ "الشعبي" يجب أن تتم بحذر شديد خاصة حين يتعلق عمل الناقد بمهام تأريخية مثل إسناد النصّ إلى مؤلفٍ ما بإعتباره ذاتاً متعيّناً أو حين يتصل العمل بمجرد التعاطي النقديّ مع النصّ "الشعبيّ" إنطلاقاً من مفهوم المؤلف وما يرتبه هذا المفهوم من إشكاليات عدة. (2) تباينت المواقف النظرية إزاء مفهوم "موت المؤلف" فيما يتعلق بالمنتوج الإبداعي داخل سياقات "الثقافة العالمة" والتي هي بالطبع سياقات كتابة. مع ذلك يمكننا القول بأن مفهوم الذات الفرد كمنتج كتابة صار على أقل تقدير مشكوكاً فيه إن لم يتم دحضه تماماً. أما فيما يتعلق بالنصّ "الشعبيّ" وطبيعة علاقته بالمؤلف فإن الإتفاق يبدو شاملاً: إن أهم ما يميز النص "الشعبيّ" هو تحلله من سلطة الإسناد إلى مؤلف فرد. إنه نصّ قد يبتدر رحلته بالضرورة من ذات فرد ولكنه يظل نصاً منفتحاً على وللـ "الغاشي والماشي" وقابلاً لإمتلاكات لا حصر لها. فهو سرعان ما يتخلص من مرجعية الخالق الفرد ليؤسس هويته الجمالية بالضبط على واقعة تنكره وإغفاله بل تواطئه ضدّ منبعه الأول. في غمار هذا التشكل التاريخي ليس هناك ، داخل بنية النصّ "الشعبيّ" وطبيعة مجالات تلقيه ، ما يحميه من تحويرات وإضافات واجتزاءات وتغولات لا يملك النصّ ضدها من شئ. هذه "التدخلات المشروعة" ، بحكم آاليات الثقافة الشعبية ومنطق بنيتها ، تعمد في واقع الأمر إلى إجراءات كثيرة ومتفاوتة. فقد يقتصر عملها على إمالة حرف مثلاً حتى يتسق "الكلام" مع "لهجةٍ" ما وقد تنتهي إلى إضافة مقاطع كاملة إلى متن أساس. كما تعلم ، بينما إنطلق "العلم" مرتبطاً بواقعة إسناده الصارمة لمنتج فرد ، كان "الأدب" ، في المقابل ، يتخلق في فوضى مدهشة دون أن تعوزه الحاجة أبداً إلى الإرتباط التاريخيّ بمؤلف فرد. في العصور الحديثة تبادل الخطابان مواقعهما تماماً أو كادا. صار "العلم" يندرج بهدوء داخل النظرية والمجال والحقل والنسق ... إلخ ولم يعد يرتبط بذات منتجه الفرد كما كان هو شأنه في السابق. أما "الأدب" فعلى خلاف "العلم" أصبح ينظم خطاباته داخل أنساق كتابية حصرية ، مانعة جامعة كما يقول الفقهاء المسلمون. وبذلك أصبحت "المؤلفات" تحمل أسماء "المبدعين" وأحياناً "تتزين" بألقابهم وتاريخ ميلادهم ومكانه وأحياناً أخرى تحمل عبء الإعلان عن نصوص أخرى تعالق فيما بينها قرابات المرجعية. في الوقت نفسه تمكن النصّ المعاصر من تأمين هويته الخاصة ، أو سيادته بلغة القانون ، ضد التغول والانتهاك المحتمل. فقد أصبحت للنصوص أسماء تميزها وتواريخ تشير إلى زمان ومكان إنتاجها. حدث كل ذلك في الوقت الذي وهبت فيه تكنولوجيا الكتابة النصَّ جسداً فيزيائياً بأبعاد محسوسة وذلك بدلاً عن تواجده الأثيري الهشّ داخل فضاء المشافهة القديم. هذه جملة ملاحظات كان الناس يتفقون حولها قبل أن تقوم "ما بعد الحداثة" بتفجير أسئلتها الكونية المروعة والمقلقة والتي أتاحت لميشال فوكو مثلاً مدخلاً غنياً لمدارساته حول أركيولوجيا المعرفة بإعتبارها "تحليلية داخلية" لأنظمة المعرفة كما سمحت لجاك دريدا أيضاً بذلك الإعلان (سيئ التأويل في الغالب) والذي زعم فيه موت المؤلف. إن الأدب والفن "الشعبيين" ما زالا يحتفظان ، كخطابين ، بموقعهما التاريخي القديم. دارَ "العلم" دورةً قبل أن يقاسمهما الآن ذلك الفضاء الذي تنمحي داخله "فضيلة" المؤلف وقيمته. الفرق الجوهري بين الخطابين ، وهو فرق دالّ جداً ، يكمن في حقيقة أن "العلم" يندرج - كما قلت قبل قليل - داخل نظرية أو مجال أو حقل أو نسق ما ، بما هي أنظمة معرفة موضوعية لها ضوابطها وآلياتها وطرائقها أما المبدَع "الشعبيّ" فهو ما زال ينتظم داخل فضاء ثقافي لـ "جماعة" تاريخية فيستمد هويته من هويتها. (3) إذا كان لي أن أستلف ، بتصرف ، من مناهج النقد الحديث إحدى نتائجها الثرة والتي ذهبت إلى أن النص "الممتاز" هو نصّ يتيح بالضرورة مستويات تأويل متعددة ، فإنني أستطيع أن أقول إن "سلبطة" سائقي لواري وكتبة دوانكي وأصحاب ديانات بالإضافة إلى مؤلفي "جراري" مغمورين كحبيبة بت حمدان في هذا النص المتوله إنما هي بالضبط دليل إمتياز. إنها الشاهد البليغ على نجاح هذا النصّ الذي ينبغي النظر إليه بإعتباره في آخر المطاف قولاً جمالياً يبحث عن ذائقة وعن حدس دون أن يكون له حق الزعم بأنه إنما يوثّق لوقائع تاريخية أو ينهض دليلاً لها أو على غيرها. أنا بالطبع لا أعلم عن مؤلف هذا النصّ شيئاً ، وهو علي أية حال أمرٌ لا طائل من ورائه فيما أرى. كما إنني لا أستطيع – خارج ما قمت بنقله عن تلك السهرة الإذاعية – الزعم بأن كباشي "الليموني" هو بالفعل كباشي عيسى أو كباشي راشد أو كباشي آخر. أذهب إلى هذا القول دون أن أخفي تقديري لمدخل الأخ سيف وطرائقه في تأصيل هذا النصّ داخل ثقافة "دار حامد" حصراً ففي منهجه ما يبرر هذا التقدير ولكنني أشكّ جذرياً في قيمة أية محاولة للتحقق الجازم من هوية "كباشي" أو هوية من قام بتأليف هذا النصّ الكردفانيّ البديع. أعلم أن إخضاع النصّ الإبداعي لمثل هذا "الجرد" التاريخيّ لا زال يتمتع بغواية من الصعب تجاوزها أو حتى الشفاء منها. فهذا الإجراء في جوهره يعبر بجدارة عن رغبتنا الملحّة في "عقلنة" العالم من حولنا ، بما في ذلك الشعر ، هذا المهر الجامح ، ومن ثمّ ترتيبه وتنضيده داخل سياقات "معقولة" وفي فضاء تاريخيّ متعيّن ووفقاً لمعالم مشهودة وقابلة للتعرّف عليها ضمن ما هو يوميّ وعاديّ ومباشر. كمنتج نصوص ، أدافع عن رؤية يكون من شأنها أن تترك النصّ الأبداعيّ وحريته إذا إستطاع - عبر البنية العميقة للغته الخاصة وليس عبر تمويهات المؤلفين المكشوفة - من أن يتملك تلك الحرية النفيسة. إن النصّ الحرّ المعني هنا هو كتابة ، رغم تاريخيتها ، تستطيع أن تصبح "حمّالة أوجه" وأن تصير بالتالي قابلةً أيضاً للتبني غير المشروط من قبل قراء عابرين. أن النص الممتاز هو جسد يطمح ، استراتيجياً ، لأن يتمثل الأجساد جميعها ولكن دون أن يفقد هويته الفذة. كما إنه ذلك القول الجميل الذي يفصح عن شهوات تعتمل على نحو متباين وربما متناقض داخل الوعي التاريخي خارج النصّ وذلك دون أن يسمح لأيٍّ منها بإمتلاكه حصراً. هذا ولولا عزلة الصديق الفاضل كباشي وربما "ترهبنه" على سفوح اريتريا لكنت قد إقترحت عليه أن يزعم هو أيضاً أمام غرباء الهضبة بأنه "ساق اللواري" في بوادي كردفان وقد تدلهت بأمره سيدة من دار حامد أو دار حمر ، وذلك قبل 50 سنة من إلتحاقه بمعهد الموسيقى والمسرح. هذا هو منطق الأغنية وجمالها الخاص حين يكون بمقدورها أن تصير محض مرآة. ولكم جميعاً تقديري ومودتي، نعمان