هنا فداسي

الأعزاء :
محمد حسن، إسحق، أسماء،سامي، مكسب، هيثم
وكل مرتادي (هنا فداسي).
نعم .. قد أُعرِض، أحياناً، عن رَدٍ أو أنصرِفُ عنه؛ فينصرفُ ظن صاحب المقال إلى ما لم يخطر لي على بال. وقطعا، إن السبب لم يكُ تقليلاً ولا هو إقلال – وإن عَدَّهُ الآخر من قبيل الإهمال. إذن فالرد واجب على تقبلٍ أو ردِّ.
لو تساءلتم عن (نعم)، مفردة الإستهلال؛ فهي تشبه سابقة الإمام البوصيري، لما قال:
أمن تذكر جيران بذي سلمِ
مزجت دمعا جرى من مقلةٍ بدمِ
أم هبت الريح من تلقاء كاظمةٍ
أو أومض البرقُ في الظلماءِ من إضمِ
نعم، سرى طيف من أهوى فأرقني
والحب يعترض اللذاتِ بالألمِ
***
كنت دائما ما أظنُّ، في صغري وعلى صغري، أن كلمة (نعم)، قد وردت محشوة على الكلام؛ حتى ظهرت لي الحالةُ النفسيةُ للعاشق، جلية.
كان الشعراء قبله يجردون مخاطباً من أنفسهم؛ كقول الشاعر الشاب طَرَفَةُ بن العبد:
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم
يقولون لا تهلك أسىً وتجلَّدِ
محاكيا، قول شيخ شعراء الزمان(امرء القيس):
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتحمَّلِ
( وعلى رواية تجمل، وإن كانت المفردة الأولى تحمل، فقد غلب الصبي الشيخ. وإن كانت تجمل ، فقد بذَّ الشيخ كل قول)
كان طرفة مسافرا، وحده، فلا يستغرب إحساسه بالوحشة. غير أن سيد عشاق ومداح النبي صلى الله عليه وسلم، قد فاق كل معنى وخيال.
جاءت (نعم) مقطوعة عن ما قبلها؛ لتفضح حديثا كثيرا دار في نفس الشاعر؛ إذ تخيل العُذّالَ يحاجونه ويسألونه عددا من الأسئلة؛ فرد عليهم، مهملا أقوالهم، وقال (نعم) – ونعم لا ترد إلا ردا على سؤال- . والشاهد على ذلك بحثه عن الدليل؛ حتى أثبته في نص القضية:
فكيف تنكر حبا بعد ما شهدت
به عليك عدول الدمع والسقمِ ؟
وشاهد آخر (و أثبت الوجدُ خَطَّي عَبْرَةٍ وضنى)
ثم عرج على العذال يخاطبهم ، صراحة:
فيا لائمي في الهوى العذري معذرة
مني إليك فلو أنصفت لم تلمِ
إني اتهمت نصيح الشيب في عَذَلٍ
والشيب أبعد في نصح عن التُّهَمِ
وظل الإعراض له مبدأ؛ فأعلنه:
(إن المُحِبَّ عن العُذَّال في صممِ)
وما كانت نعم في حديثي، ولا أشبهها بمتفردة البوصيري، إلا دليلا على حديث دار في نفسي؛ حتى قطعت التردد، هذه المرة؛ لأقول شيئا ، لعلي لا أجده.
هل رأيتم سمكة الزينة، في حوض ماء زجاجي مغلق؟
هل رأيتم قطة ، تحسب نفسها ، قريبة من المنال، يغريها أنها لصيقة بالفريسة، وهي لا تعي أنها (بعيــــــــدة) أو أن الفريسة القريبة، في الحق هي بعيدة، ممنعة؟
هذا حالي ، إذا أعملت فكري في قضية، كهذي. الزجاج شفاف ، صادق حيال الرؤية، ولكنه مخادع ، حصين.
سأعد كل عدتي؛ لأنفذ عبر الزجاج ، وأتلمس السمكة بيدي؛ لأعرف الحقيقة، التي لن أبصرها خلف الزجاج. الزجاج الذي وهبني الرؤية وحرمني اللمس.
و .... تبدو لي الحقيقة ، ماثلة؛ فأسوقها، كمُحَصِّلةٍ.
إن ثناء هؤلاء، منبعه شيء أساسي وآخر ثانوي.
أما الأساس ، فهو حب هؤلاء للعبد الفقير، وما بلغ معشار قولهم، وما هم بمتهمين. ولكن الثانوي يفسر الأول، وهو أنهم ذووا أنفس شفيفة – لا كالزجاج ولا كالمرآة- ولكنها شيء آخر ، من معدنٍ لا تعرفه الفيزياء. من خواصه أنه يستقبل الصور كلها، ولكنه ينكر الصورة القبيحة، إذا استنكرها؛ فيقتمها. ولكنه في الوقت ذاته يعكس ما يراه – هو – حسناً- ، ولكنه يضخم الصورة، يعكس عليها شيئا من بهائه، يضعها في إطار جميل. والصورة إذا وضعت في إطار الفضة ، جَمُلَت وتمت نضرتها، وإن كان ما داخل إطار الفضة ، لا يعدل شيئا، بقيت القيمة في حلاوة صنع الإطار. وإن لم يكن الإطار يعني شيئا ، عند الفنانين ، بقيت القيمة في أصل الفضة، فيرتفع سعر اللوحة كلها.
أحبتي ، أمسكوا، أحبكم . استرسلوا ، فمن حقكم عليَّ أن لا أكفكم، ولكن شيئا من ذاك يؤذيني، فالمدح قاسٍ، ولا أحتمله. ولننصرف جميعا إلى المشروع الأساس. (هنا فداسي).
أما فداسي، فإن لم أشرف بأن رحمها قد حملني يوما، فيكفيني شرفا أنها ظئري. أرضعتني ولا زالت ترضعني ، كل يوم ، كثيرا من القيم، منها حب الديار،
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
أحببت فداسي، من الصورة التي رأيتها في عيون (هؤلاء)؛ فحسنت صورتها، بعد ذلك، بمعاشرة نفر كريم، من هذه البلدة الطيب أهلها، وأتمني أن أسمع عنها كل يوم خبرا سارا وأرجو لها علوا ومرتبة.
ومن عجيب الأمر أنني كل يوم ، أسعد بصديق جديد؛ حتى بلغت صداقتي بهم المئات، رغم أن علاقتي ببعضهم لا تعدو المراسلات البريدية، عبر الأثير أو الهاتف، ولم أراهم ولم أر فداسي نفسها على الطبيعة.
سبحان الله، حدثت لي غرائب كثيرة ، لا أذكرها كلها؛ ففي مرة رأيت (مكسب) في المنام وأنا في موضع طيب ، جوار قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام، أثناء إقامتي بالمدينة المنورة ، ولا يفصلني عن القبر سوى مائة متر أو اثنين. وحدثت الباشمهندس بما رأيت.
رأيت مرة فاطمة بنت الدكتور عبد المنعم الجاك ، ولم أرها في الواقع. كانت بجانبي و أنا أحدثها عن القصة القصيرة والرواية. كانت يدي على رأس الصغيرة، و أصابعي تسرح في شعر رأسها ، بحنان بالغ. صحوت من نومي؛ لأجد أصابعي تسرح في شعر صغيري (عمر) وهو يحاول إبعاد يدي من رأسه الصغير.
ضربة جزاء:
قالوا إن أحدهم كان مسافرا. دخل على أهل قرية ولكنه أكتشف أن من في القرية ، شكله الأعلى آدمي ولكن أرجلهم جميعا مثل أرجل الحمير.
خاف الرجل وظل يجري ويجري طوال الليل؛ حتى وصل إلى شجرة ، وجد فيها شيخا وقورا ، يصلي. سقاه الرجل ماء وسأله عن حاله وعن سبب ذعره.
حكى له الرجل ما جرى له وختم حديثه بقوله:
- هل تصدق يا شيخ أن أرجلهم .....
ولم يتم حديثه ؛ لأن الرجل ، خلف رجلا على رجلا ، وبدت للرجل رجلا حمار.
اتصلت بالأخ الحبيب إسحق بله الأمين اقدم شفاعة بين يديه؛ عله يثني صاحبه وقريبه محمد حسن عن مقالته التي أثبتها بالبوست. ولكن إسحق قال لي ، بعد السلام:
- إن شاء الله، قريت ردي على كلام محمد حسن؟
علمت أن لا فائدة في مسعاي؛ فأضربت عن قصدي و حدثته عن أمر آخر، مختلف جدا.
وجزاكم الله عني خيرا،على حبكم ، وعلى حسن ظنكم.