هنا فداسي

الأخوة والأخوات
سلام واحترام
تعاني المرأة في بلاد الإغتراب كثيراً ، وتتضاعف معاناتها عندما يحين موعد ميلاد طفل، إذ تجد نفسها وحيدة في سيارة الإسعاف في طريقها للمستشفى. في تلك اللحظات الحرجة تذكر أمها وخالاتها وعماتاها وجيرانها، ويخطر على بالها الولادة "الليها" طعم في البلد وسط الأهل "والحبان".

مخاض

عقارب الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحاً ... الهدوء خيم على المكان .. شق صمت الليل صرخة أم تنبيء عن ألم لا يقاوم ... نباح الكلاب صار مزعجاً .. والرضية فاجأها ألم المخاض ... وقع أقدام بالخارج تهرول مسرعةً .. صرير الأبواب المغلقة يتخلل جدار الصمت .. صراخ طفل هده البكاء بدأ ينحسر رويدا رويداً... والرضية ما زالت تشكو آلام المخاض.

" قوم ياولد أمشي كلم خالتك حاجة النعمة قول ليها أمي قالت ليك الرضية بتي دايرة تلد .. ومن دربك ده يا أبو الصديق أركب حمارك وأمشي كلم السارة أختي قول ليها بنيتنا الرضية جاها وجع الولادة .. وعرج في طريقك على الداية وخليها تجيء بسراع ... العازة بفوق الحيطة تنادي حاجة الحرم وحاجة الحرم بدورها تنادي على بنات أم المجد قالوا الرضية بت فاطمة وجعها حار... وفي لحظة إنتشر الخبر وعم جميع أهل القرية."

نهيق حمار لديغ يأتي من بعيد .. وعوي ذئب جائع أفزع شياه الحاج عثمان في المزرعة المجاورة ... شفق الصباح لاح على الأفق .. وصوت الأذان تردده المآذن أشاع الطمأنينة في النفوس المؤمنة .. صياح الديوك أيقظ الصغار فدبت الحياة في البيوت.. تسمع بائع اللبن يطرق على باب الجيران منادياً هاتوا الماعون .. والصغار تجمعوا حول أمهم بالقرب من الموقد في إنتظار شاي الصباح.

اشتدت آلام المخاض والرضية تصرخ وتستغيث يالله لي يالله لي... وحاجة فاطمة أم الرضية رافعة يديها إلى السماء وعينها على بنتها سائلة الله سرعة الخلاص.

الماء في الإناء الصقيل يغلي ويغلي ... وآلام المخاض تشتد وتخف .. والأنفاس في الحجرة الصغيرة المكتظة بالنساء محبوسة .. جلست حاجة النعمة عند رأس الرضية... وفي طرف العنقريب عند الوسط قعدت أم حداقة و اتخذت حاجة السرة مقعدها في نهاية العنقريب ممسكة بقدمي الرضية وتمسح عليهما برفق .. وآلام المخاض تشتد وتخف..

الحمد لله حاجة بطرانة وصلت .. تنفست أم الرضية وجميع العيون التي كانت ترقبها الصعداء. اكتظت شنطة حاجة بطرانة بالأمواس المعقمة والبنج والمشارط .. تململت الرضية وأطلقت صرخة مدوية .. شرعت الداية في إعادة تعقيم أدواتها بينما لم تزل حاجة السرة تمسح على قدمي الرضية .

في الحوش المتكظ بالنساء تجمعت الفتيات حول سعاد التي لاهم لها غير الضحك والتنكيت حتى في اللحظات الحرجة .. ضحك الفتيات ضايق أم الرضية و صرخت فيهن حاجة النعمة بغضب شديد يا بنات" إنتو في شنو ونحن في شنو" .. لم تأبه الفتيات لصراخها وواصلن الضحك والتنكيت .. وسعاد ما زالت تحكي وتحكي والفتيات يضحكن ويضحكن.. تطاير الشرر من عيون حاجة النعمة وتلونت وجوه النساء الكبار بالغضب والاستياء.

في الديوان المجاور إجتمع الرجال .. تسمع همهمات حاج عوض الكريم بالذكر .. وشيخ الصافي أخذ يسبح بمسبحته الطويلة .. وسعيد "كييف" الصعود "كردم" سفته وشمها قبل أن يضعها تحت لسانه .. وقفشات العوض المحبوب ملأت النفوس بهجة وسرورا وقصرت من لحظات الترقب والانتظار ..

بح صوت الرضية من شدة الصراخ وآلام الطلق أخذت في الإزدياد .. انحبست الأنفاس حتى في مجلس الرجال ... بدد صمت الجميع صرخة الحياة أطلقها المولود معلنا لحظة الميلاد السعيد التي أشاعت الفرح في النفوس .

انطلقت حناجر النساء بالزغاريد معبرةً عن فرحها للبطن "البكرية"، وأجهش الزين أبو المولود بالبكاء من شدة الفرح .. وأسرع أبو الصديق جد المولود وجاء بالخروف .. لم يمض وقت طويل ورائحة الشواء تعطر أجواء المكان وتزكم الأنوف.. و تلقى الزين التهاني بقدوم إبنه البكر الذي أطلق عليه إسم "منجي" تيمناً بقدومه الذي بدد مخاوفه وتشاؤمه من آلام المخاض التي تسببت في وفاة أمه قبل عشرة سنين.


إسحاق بله الأمين
الرياض 28/9/2004م