هنا فداسي

الأخ هيثم
سلام واحترام
في سياحة بسرد مشوق "وديتنا" أخي هيثم لى جزارة أحمد ود عثمان ود حمد الذي اسأل الله أن يشفيه ويعافيه، والذي حباه الله من طلاقة الوجه والمرؤة والشهامة وحسن الترحيب والاستقبال ما لا تجد له مثيلاً في هذا الزمان الذي تبلدت فيه الأحاسيس وخمدت فيه المشاعر فلا حرارة استقبال تطيب الخاطر تجد ولا كلمة تسر البال تسمع. "داير أسوقك" أخي هيثم "وأوديك" لطرف الحلة الشمالي بالقرب من "خور دفار" حيث موعدنا مع "الخدرجية" وبائعي "الكمونية" في جزارة حاج عبدالله ود الفضل رحمه الله.

لم يكن بيتنا بعيداً عن (جزارة) حاج عبد الله ود الفضل رحمه الله، ولم نكن نستيقظ على صوت السيارات كأصحاب المنازل المجاورة لشارع الظلط، بل كنا نصحو على صوت خوار الثيران التي كان يسوقها "رحمتو وجابدين" للذبح كل صباح. وكنت أجد متعة في " ضجة" الزبائن الذين يأتون للجزارة بعد صلاة الفجر مباشرة ، وكان أول من يأتي للجزارة المرحومة خديجة بت نابري التي لم أر قط من هو في نشاطها وكان حاج عبد الله يكن لها احتراما وعناية خاصة مقدراً تبكيرها بالحضور من ذاك المكان البعيد بالرغم من مجاورة بيتها لجزارة العم الشهم أحمد ود عثمان. جلبة الزبائن التي اعتدت عليها كانت تمتعني وأصبحت جزءاً من البرنامج اليومي.

كان ذبح الثيران يتم بعيداً في الخلاء ويؤتى باللحم بعد تجهيزه إلى الجزارة. يطربك سيمفونية صباحية وكورال مؤلف من أصوات الرجال والنساء والأطفال " عبد الله أديني نص كيلو، عبد الله ربع كبده، أديني من السنكيت، ما تديني عظم الضهر، عبد الله ما تديني أنا جيت من الفجر، عبدالله ما طولنا، عبدالله فوتني أنا عندي مدرسة ألخ ...".

إمتاز حاج عبد الله بالنظافة المتناهية وعطره (المايقوما) المميز ، وملابسه البيضاء النظيفة ويذكرني هنا بالقصابين اللبنانيين في معاطفهم الناصعة البياض كأنهم أطباء، إذ لا ترى أثراً لدم أو بقع عليها. وكان العم عبدالله سريعاً في تقطيع وتكسير اللحم ويؤدي عمله بمهارة فائقة ويوفي الميزان حقه بل يزيد ، وكان كريماً شهماً ، إذ يفطر عدد كبير من بائعي الخضار وبعض الزبائن معه. وكان عطوفاً يراعي ظروف الناس فيعطي بعض زبائنه اللحم مجاناً ويزيد زنة الميزان للفقراء ، كما كان يبيع معظم زبائنه بالدين وهنا تحضرني نكتة عم عبد الله (كريشاوي) عندما سأله والدي عن صحة ذهابه للجزارة كل صباح لسؤال الناس ( وشحدتهم)، فرد عم عبدالله بسرعة بديهته المعروفة( ها بله أخوي إشحدو منو في الجزر كل واحد شايل نوتو ودفترو ويصيحوا عبدالله قيد لي، عبدالله سجل لي)( أي كل منهم يشتري بالدين) فضحك الوالد ولم يسأله بعد ذلك. كان حاج عبدالله صبوراً طويل البال، يتحمل الزبائن على اختلاف طبائعهم وأمزجتهم، فيسمع عتاب من هذا وملامة من ذاك فلا يغضب ولا ينفعل ويقابل كل ذلك بابتسامة وضيئة.

لا زلت أذكر رائحة البخور الذي يعطر غرفة الجزارة الممتزجة بعطر حاج عبدالله الشهير، فيمنحك شعوراً بالإرتياح وسط هذا العدد الكبير من الزبائن الذين يتدافعون للوصول إلى الشباك ليحظوا بحصتهم من اللحم البقري السمين.

ساحة الجزارة كانت عامرة "بالفريشة" الذين يتنافسون في بيع خضرواتهم، على الجانب الشرقي تلمح حاجة ريا رحمها الله وقد فرشت طماطمها الحمراء التي تسر الناظرين، وعلى مقربة منها تبصر "كيمان" البصل الكبيرة الذي تخصص في بيعه كمال ود الدبزاوي من العامراب. وفي الجهة الشمالية المقابلة لخور "دفار" إعتاد بائعو الخضار الذين يأتون من القرى المجاورة بيع الملوخية والبامية والرجلة والبصل الأخضر والفجل. أما الأخ الساخر أحمد "زقد" فقد تخصص في بيع الجوافة والمنقه (المانجو)، كما تخصص في بيع الفواكه عندكم الأخ صديق سعيد ودائماً ما تسمع صوت "زقد" عالياً متشاجراً "ومكاجراً" لمنافسه بشير ود القاضي وعلي ود الملك، في حين تجده متصالحاً ومتبادلاً النكات مع صديقه الأستاذ مبارك عبد الله (الفراش) الذي تجده في كامل أناقته و"ثيرمس" الشاي بجانبه ويقصده كثير من الزبائن لخفة دمه وطول لسانه.

الكمونية وما أكثر زبائن الكمونية، فقد تخصص في بيعها ميرغني ود الدبزاوي وأحمد ود الخضر. كان أستاذ (...) يقف بعيداً عن الناس ويتفاهم مع حاج عبدالله بالإشارة، وبينه وبين حاج عبدالله إتفاق مسبق على كمية اللحم الذي يريد ولا يرغب في أن يعرفها أحد، فيسارع عبدالله بتلبية طلبه ويرجح له كفة الميزان، فيذهب الأستاذ "مبسوطا " وقد شمله عبدالله بكرمه وحسن معاملته.

رحم الله حاج عبدالله فقد كان شهماً كريما، ولا أنسى دعوته للخواجة الفرنسي الذي رافقته من الخرطوم إلى مدبغة الجزيرة بود المجدوب ، وجئت به لقريتنا وذهبت به إلى العم عبدالله إذ كان يرغب في معرفة أسعار الجلود والطريقة المتبعة في عملية دبغها، فأصر حاج عبدالله على دعوة الخواجه لتناول الفطور عنده. أقام حاج عبدالله وليمة كبيرة عامرة بأطايب المأكولات والمشروبات ، فاندهش الخواجة وتعجب من كرمه الحاتمي، وهمس في أذني قائلاً Il est tres riche ) أي أنه غني جدا، فقد شهد على كرم حاج عبدالله الخواجات وكان صديقي الفرنسي كلما أرسل إلىّ رسالة يسال عن حاج عبدالله واصفا إياه بالكريم.