هنا فداسي

كثيرا ما تطربُ النفسُ لسماعِ الثَّناءِ عليها، ويفرح القلب لحظة المدح. قال لي أحدهم ، وأنا أسأله عن رأيه عما كتبت عنه:
- بكل صدق كان الكلام مرضيا لغروري. (انتهى كلامه).
ولكن الذي قرأته من حديث أخي محمد حسن. فَعَلَ فيَّ فعلاً آخر. صادر من نفسي ذلك الغرور كليةً. وذلك لأربع أوجه:
الأول:
إن من يسمع عن نفسه ذلك كله، فعليه بمراجعة قدر نفسه. وحري به أن يَقْدُرَهَا قدرها وهو أعلم الناس بمواطن الخلل فيها.
والثاني:
أن الممدوح لا يبلغ شأو المادح، فلا يستقيم الكلام إلا بقلبه إلى وجه آخر.
الثالث:
أن المقالة تكلف سامعها ، الموجهة إليه، مسؤولية تضخم في عينيه مع مر الحدثان.
والرابع:
أن الممدوح يفكر كيف يجزي كاتب المقال خيرا على ما قال، لا أن يقف عند حد الشكر بالكلمات. خاصة إذا علم أن صاحب المقال، رجل يتأذى ، بطبعه، بسماع المدح . وقد عهدته يتشاغل عن محدثه إذا أطنب في مدحه، فيشغله ويجره إلى محور آخر، غير مؤنب له. وله ملكة ، يحسد عليها في توجيه الحوار أنى شاء.
هذا حديث يشل فِيَّ القدرة على التفكير، قبل أن يخاطب فيَّ لؤلؤة الحياء.
ولما بان لكم أي شيء حاك في نفسي، كان لا بد أن أبين لكم أن حديث الرجل عني، ما هو إلا انعكاس مرآة نفسه على الورق، فهي مليئة بحب يكنه لي، أجبرني أن أضيف رصيد حبه لي، لكل ما تجيش به نفسي من محبة صادقة.
كنت قد شرعت في كتابة أسطر عن محمد الحسن خضر، في ذلك (البوست) الذي أشار أخي مكسب إلى رابطه، وقمت بإنزال صورته على نية أن أعود فأثبت المقال، ولكني لما قرأت كلامه عن شخصي الضعيف، أمسكت . حتى لا يكون الفعل جزاء بجزاء ولا يكون الحرف احتذاء باحتذاء.
أعدلُ الآن عن ذلك كله وأدعو له صادقا، أن يمن عليه ربي بمنيته في الدنيا ويجزيه خيرا في الآخرة.
كنت أختلف إلا داره ممنيا النفس بمجالسة، استمع فيها إلى رجل يسوق الحديث بمقدار. يؤسس لفكرته ، فيعممها، ثم يرجع إلى كل جزئية فيها فيحللها. ويعينه في ذلك دُرْبَةٌ مَكِيْنَةٌ في النفس، ومُكْنَةُ عززها صاحبها بالاطلاع الفاحص، والصبر على سواد الكتب.
حدثت زوجتي بعزمي على زيارته؛ فأكرمني بمجيئه، رغم أن سنة الكون أن تحج النجوم الصغيرة إلى المجرات.
كنت أود أن أحدثه عن قصيدة طلبت نصها منه ، للمثقب العبديِّ مطلعها:
أفاطمُ قبل بينِكِ متعيني ** ومنعك ما سألت كأن تبيني
وغاية نفسي من تلك القصيدة بيت، أَعُدُّهُ أجمل أبيات الغزل في الشعر العربي وهو قوله:
ظهرن بِكِلَّةٍ وسَدَلْنَ أُخْرَى ** * وثَقَّبْنَ الوصاوصَ للعيونِ
وكان في نفسي أيضا أن أناقشه في كلمة وردت في البيت التالي:
علون رباوة وهبطن غيبا ** * فلم يرجعن قائلة لحينِ
فقد شكلها صاحب الكتاب هكذا ( يَرْجِعْنَ) وكان ظني أنها (يُرْجِعْنَ) وهذا حديث آخر.
فاجأني الرجل بأن أخرج كتاب المفضليات للضبي وأشار إلي بذات الصفحة التي أبحث عنها. ثم تحدث حديثا مشوقا، جلسنا أنا والأخ سامي محمد قسم الله، نستمع إليه، وضاعت مني فرصة كنت أعد لها عدتها وأهيئ لها مراقدها. ولكني في كلا الحالين غانم، قانع بما لقيته منه، فكله علم.
ذهل الأخ سامي بإحصاء الرجل لمعالم بلدة يعرفها، فداسي. ولكنه كان كأنه يسمع عنها لأول مرة. والرجل ذو حافظة – ما شاء الله – لا تقدر السنون على محوها ، بل تزيدها ألقا وجمالا، يذهل السامع.
كان الرجل ينتقي عباراته ، ويحذر الزلل. فلغته رفيعة وحرصه على النحو شديد.
ولا حظوا معي قوله:
وإذا نظرت لقصائده في مطلع الثمانينات ( بعض الناس يكتبها الثمانينيات ولا أحسب لها وجهاً والله أعلم)
وأذكر في هذا المقام شيئا حدث قبل سبعة سنوات أو أكثر.
أقامت المملكة العربية السعودية احتفالا لتكريم الدكتور عبد الله الطيب، فاتصل بي واتفقنا على حضور الاحتفال والتكريم والمحاضرة. وجلسنا ننتظر قدوم الدكتور، نتجاذب أطراف الحديث، فذكر لي كلمة كانت (بَكَرْتُ)، فقلت في نفسي :
إنما هي كبوة فارس، فسبحان الله.
جعلت أديرها في رأسي كل هذه السنين إلا أن عرفت أنها صحيحة، بمعنى ركبت بَكْرَةً ، أي ناقة فتية، ولم أفاتحه في هذا الأمر حتى الآن ولكني تعلمت أن لا أنتقد أستاذي إلا بعد تمحيص.
قدم الدكتور عبد الله الطيب ، دلف إلى الحضور من باب جانبي، ولكنه كان كل الحضور، كان موكبا لوحده. عظمة ووقارا ، صفق الحاضرون. ووقف صاحبي محمد الحسن وسمعته يردد :
- ما شاء الله، ما شاء الله، ما شاء الله، الله يخليك....
وعلمت بعد نهاية المحاضرة أن الأخ محمد حسن كان قد زاره في الفندق وجلس إليه ساعة من الزمان، ففسر لي ذلك سر العناق الحميم بينه وبين عبد الله الطيب وعينا أبي أحمد تطفران بالدمع، وهو يقبل يدي شيخ العربية، رحمه الله.
وبعد شهر فقط، توفي العلامة عبد الله الطيب، فاتصلت بالرجل، فكانت أول كلمة يقولها: لا حول ولا قوة إلا بالله.
دهشت إذ عرفني قبل أن يسمعني، فكان رده:
- عارفك ياكا إنت الوحيد البوجعك في البلد دي. طلبتك بالله تسأل الله المغفرة للشيخ بي قدر ما قدم. الدنيا ما دوامة يا أخوي.
فبكيت.
ولما التقيت بالأخ محمد حسن في أول لقاء، بعد وفاة الدكتور، أخرج لي آخر ورقة كتبها عبد الله الطيب ، بخط يده، وموجهة للأخ محمد حسن، فعرفت حرص صديقي على التوثيق.
أذكر قولي هذا، بكل حذر فقد حذرني أن أمدحه. أو أن أرد على مقاله، وأنا أطيع أستاذي وأتحدث معكم إخوتي.
وأذكر في هذا المقام، مجبرا، قول الكَلْحَبَةِ العُرَنِيِّ:
وقلت لكـأسٍ ألـجـمـيهـا فـإنمـا ** نزلنا الكثيــب من زَرُدَ لنفـزعــا
كـأن بليـتها و بـلدةِ نحرها ** من النَّبلِ كُرَّاثَ الصريم المُنَزَّعا
فأدرك إبقــــــاء العَــرادة ظَلعُـها ** و قد جعلتنـي من خـزيمةَ إصبَعا
أمَرْتُكُمُ أمري بمنعـــرج اللِّــــــوَى ** ولا أمـْـرَ للمَعصـِيِّ إلا مـُضـَيَّعَا
إذا المرءُ لم يغشَ الكريهة أوشكت ** حبـالُ الهـُوينا بالفتى أن تقَطَّـعـَا
تعليق طريف:
كنت في زيارة للأخ محمد حسن ، فأراد الأخ المهندس أحمد عبد المجيد أن يعرف سر الكتب الكثيرة التي بمكتبة الأستاذ محمد حسن خضر. ولسوء حظه سأل الرجل الرائع الطيب بشير. والطيب لا يتردد عن إطلاق الطرفة ، حتى في أحرج المواقف. فرد عليه الأخ الطيب:
- كدي سألتك بالله عاين لي كتب الزول دي، في كتاب فوقه صورة؟ دي كتب زول نصيح؟
فبهت الرجل ولم يحر جوابا.