هنا فداسي

الإخوة والأخوات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وهذه مشاركة أخرى من الأخ بشير بله الأمين

فداسى الحليماب

فداسى جنة وقدامه نيـل والجناين يعلوها النخيل
جمالها زائد جيل بعد جيل يالله قومـاك يا خليـل
لى فداسى

هكذا يترنم خالنا مصطفى ود أبشره حينما يغالبه الشوق وتجرفه شلالات الحنين للأولاد والبلد. وتخرج الكلمات من جوفه رخيمة تشنف الآذان، قوية يصارع بها سياط الغربة ويجالدها.

بالله ايه رأيكم هسى نقوم نزور حبوباتنا بت كمبو وبت ود نور والسرة بت الضو ونتكى نشرب القهوة مع خالتنا الزهرة بت مصطفى وبالمرة ترمى لينا الودع نشوف الخيرة دي موديانا على وين.
أمنية بسيطة تحول دونها الآف الكيلومترات وعدة شهور قبل موعد إستحقاق الإجازة القادمة. هذا إذا ما عرفت أن ود أبشره يلقى بمزحته هذه من طرابلس الغرب.

وجمال فداسي ليس في نيلها ونخيلها وعنكوليبها الذي تضرب به الأمثال، وإنما في سماحة أهلها وبشاشتهم وكرمهم وأريحيتهم وتكافلهم، وفي علمائها الأفاضل الذين عطروا المجالس بعلمهم، وفي ظرفائها الذين رسموا البسمة على محيا أهلها وزوارها.

"وفداسى الحليماب" إحدى قرى الجزيرة المروية يحتضنها النيل الأزرق فى وداعة قبل ولوجه دوار القريقريب العيكورة فى رحلته شمالا حيث يلتقى بشقيقه النيل الأبيض عند مقرن النيلين وكما يمتزج النيلان فى عناق ليشكلا نهر النيل الخالد، كذلك تمتزج دماؤنا بحب هذه الكعبة التى أرضعتنا حبا يندر أن تجد له مثيلا .

سألنى أحدهم مرة ساخرا ما ذا تعنى كلمة فداسى الحليماب؟ وأردف متهكما ألم تجدوا غير هذا الاسم العجيب إسما لقريتكم؟ فعلا لم أجد ما أقول، اذ أننى لا أدرى حقا ما تعنيه كلمة "فداسى" هذه الكلمة الغريبة على الأذن العربية.
وعبثا تأملت فى الإسم عسى أن أجد أى دلالة جعلت جدودي إطلاق هذا الاسم على قريتنا غير أننى لم أهتد، وآثرت مبدأ السلامة مع محدثى وأخذت برأى من ينادون بأن الأسماء لا تعلل.

أما المقطع الثانى للإسم "الحليماب" فهو من الكلمات المألوفة للأذن بعكس شقها الأول، ورغم أننى شخصيا لا أعرف معناها بالتحديد، غير أنه لسهولة الإسم، يمكننى تأويله على شتى الوجوه لاقناع محدثى.

دفعنى تهكم هذا الصديق وسخريته للبحث والتقصى في تاريخ القرية والسبب فى تسميتها بهذا الإسم، وجاءت هذه المحاولة المتواضعة على أمل أن تكون مدخلا وحافزا لمزيد من البحوث والدراسات من قبل أبناء القرية، حتى نترك لاحفادنا مرجعا يعينهم على قراءة تاريخ قريتهم.
فمن المخجل حقا أن تسأل عن دلالة اسمك ولا تجد ما تقول. وحيث أنه لا توجد أية مصادر يمكن الرجوع إليها فى هذا الشأن فقد آثرت إتباع منهج الإستفسار والتقصى علنى أعثر على ضالتي وأجد ما يشفى غليلي.

بدأت رحلة البحث والتقصى بشقيقى إسحق بله الذى توجهت له بالسؤال التالى: لماذا سميت فداسى بهذا الإسم؟ فأتحفنى بالرواية التالية :

يروى أن شيخا أسمه ( أُسى )، ساقته الأقدار لمنطقتنا هذه وهى مازالت وليده وطاب له فيها المقام وكان شيخنا يحب الخضرة والماء والوجه الحسن لذا تجده دائم التردد على ضفاف النيل يتأمل فى ملكوت الله وبدائع قدرته. وفى إحدى زياراته تلك، زلت قدماه وغاص فى لجة اليم. ولولا لطف الله لكان في خبر كان. ويكفى أن تعلم أن شيخنا لم يجرب السباحة في حياته، وكان الفصل خريفاً والبحر "دميرة"وبالرغم من ذلك، فقد نجا الشيخ، ليسطع نجمه فى سماء المنطقة، وتناقلت الأخبار بركات سيدى الشيخ " أسى " ومن ثم توالت الوفود ونحرت الذبائح كرامة وفدى ( لأسى)، ورويدا رويدا تحورت الرواية لتصبح "فداسى" إسما لقريتنا الحبيبة ".

توجهت بنفس السؤال لأخى وصديقى أبو سامي "عبد الكريم مصطفى" فأفادنى بالمعلومة التالية :
كلمة "فداسى" فى الأصل كلمة نوبية وحسب ما تشير قواميس اللغة النوبية فالكلمة تعنى " الأرض الخضراء " .

أخونا الاستاذ/ محمد حسن خضر الزين، قارىء نهم وباحث ثقة يشده التراث وحكاوى الحبوبات وعندما إستفسرته عما تعنيه "فداسي الحليماب؟"، وليقينه بأنني على عجلة من أمري آثر أن يمازحني فابتدرني قائلا :- فأما الحليماب - فمصدرها "أبو حليمة" وحليمه هذه هى والدة الشيخ/ غلام الله ود عايد أحد أبطال الثورة المهدية ورميت بحجر في مجري النهر وأفهمته بأننى أروم الشق الأول من الإسم.

وبينما أنا محتار من أين أمسك برأس الخيط، وقعت فى يدى رسالة في تابين والدنا / العمدة يوسف محمد الأمين عمدة فداسي طيب الله ثراه، ووجدت فيها الكثير المثير. ولم تأخذ تلك الرسالة طابع الرثاء التقليدي المتعارف عليه وإنما كانت رسالة "كشكول" ضمنها الكاتب رحمة الله عليه كثيراً من المعلومات القيمة التي اشتملت على نبذة تاريخية عن نشأة القرية.

وبالرغم من أن الدراسات التاريخية غالبا ما تتسم بالجفاف والسرد التاريخى الممل، غير أن أديبنا الشاعر " أحمد حاج إبراهيم " يرحمه الله أضفى عليها بقلمه الرشيق رقة وعذوبة، وصب فيها من فيض مشاعره وأحاسيسه الدفينة بحب الفقيد والقرية وأهلها، مما جعلها ترقى لمصاف الروائع. وقد جاء فى هذه الرائعة الشىء الكثير عن تاريخ القرية إذ جاء فيها :
( فى البدء كانت أرضا بورا شعثا، غابة من السدر والطلح والهجليج والطندب والسلم والدهاسير والعشر).
( جاء الفكى ود حليمة من قرية أبو حليمة من أعمال الخرطوم بحرى. وكانت عادة الناس حين يرغبون فى الإقامة فى موقع ما، أن يحفروا حفرة عميقة ثم يردون التراب، فإذا زاد التراب قليلا أو إستوفته الحفرة، فإنها لا تستحق أن تكون دار قرار. وقد كان أن زاد التراب بما يملأ بدل الحفرة حفرتين. فاستبشروا خيرا، وقر قرارهم على الاقامة بها). وكلمة "الحليماب" تمثل الشق الثانى لإسم قريتنا نسبة للفكى ود حليمة .
( الشيخ عبد الله ود البدوى الركابى، هو المؤسس الفعلى للبلدة، ثم أتت جحافل الأسر تباعا وأفواجا ، وبلغ تعداد الناس المئات. وتتواصل أفواج الهجرة بقدوم جماعات الركابيه والجعليين والشداداب والبديرية والمحس وأولاد الريف والحلاويين وغيرهم).
(كان هذا كله فى التركية السابقة للمهدية - وفى المهدية - كانت فداسى الحليماب قرية قائمة حاملة لإسمها وكينونتها. ووقعت بها معركة التيقر المسماة " واقعة فداسى" بين المهدويين بقيادة الأمير/ ابو قرجه وفلول الأتراك).

ويواصل كاتبنا : ( أما إسم "فداسى" فلم نعثر عليه فى القواميس ولا فى اللهجات المحلية، ولا فى لغة الحبشة والأمهرا والتكراى والتغري والفلاشا والسواحلى.
وإذا قلنا أن الأسماء لا تعلل، إلا أننا نشتق منها معنى جميلا ثرا عذبا، يملأ الفم والحلق والخياشيم، ونتذوقها كأننا نأكل قطعة كمثرى أو رمان).

بشير بله