هنا فداسي

الأخ الكريم سامي والأخت الفاضلة أسماء
الشكر لكما على هذا البوست الرائع، وأستأذنكما في إدراج هذه المداخلة التي أرسلها لي الأخ محمد حسن خضر مشاركة منه لإثراء هذا البوست الجميل، علماً بأن الأخ محمد حسن له إهتمام خاص بالتوثيق عن فداسي. والشكر الجزيل للأستاذ أبي عزالدين البشرى صاحب فكرة التوأمة بين الدويم وفداسي.

في التوأمة بين الدويم وفداسي :
حفنة التراب وسحر بيوت طوب الكبريت

الأخوة أبناء فداسي
فلكم مني التحية والود، وأسعد الله أيامك بكل خير. أحببت منبركم : هنا فداسي وأنتم حول كوكب دري تهيمون و بنور المحبة والتصافي تأتلقون وتصطلون وتنشدون من مزامير داؤد أعذب اللحون.
ألا رحم الله السياب، كان كثير المناجاة، عظيم الشوق والحنين لعراق بكاه بقواف موجوعة محزونة، أنظر إليه يناجي من لندن:
" ولقد ذكرتك يا لميعة والضحى ثلج وقار " لكن الأقدار غيبته في عراق بعيد. كان يحس أن القدر يمد للموت باباً وكهفاً ليطويه وهو في سماء بعيدة ملبدة بالغيوم موحلة بالثلج والقار موطأ ومتكأً. وما أشبه حاله وحال مغتربي السودان يومئذ، وقد هاموا وساحوا في البطون والتخوم سوحاً لا سياحة.
كان يذكر قبضة من تراب من أثر أقدامه أخذتها خالته إذ هي تودعه يوم فارق القرية النابتة على صدر الجدول كزهرة يانعة نضرة عند أول الصباح، لم يكن ثمّ شئ يعكر صفو الحياة إلا من ضجيج تحدثه السيارة من سابلة أو دائبة. وكان يذكر خروجه أول الصباح من بيته إلى خلوته وكتابة لوحه، ثم إلى بائع اللبن وصاحبة اللقيمات، ثم مع غنيماته للراعي مروراً بدكة الخضار والجزارة وحولها خلق كثير ، وما أعجب أمر صاحبها كيف يتبين حاجة كل منهم ببراعة واقتدار، وليس ذلك فحسب إذ ما ينفك يداعبهم بالقول الطيب الحسن ونفوسهم مسرورة وأمرهم مقضي وعند آخر الشهر لا يختلفون ولا يجورون أو يحيفون. وما إن يروح لحصته حاملا مخباته بنفس مطمئنة ووجه مشرق منطلق الأسارير وقد تزود منذ صباحه الباكر بمؤونة الخلوة وأحاديث الجزارة وابتهالات أبويه وجدته، متحفزا للدرس مرتدياً جبة نظيفة حسنة، ومقبلاً على درسه غير كاره أو متمرد، وكانت تستهويه حصة الأعمال وقد سلبت لبه منازل طوب الكبريت بشكلها المزخرف بألوان بهية قل ما عهد مثلها في مسكنه أو مساكن القرية الأخرى إلا ما كان في دور الميسورين وهم يومئذ قليل بل قليل جداً، وكان يسأل نفسه متى يصير إلى السنة الرابعة حتى يصنع ما يصنع المتقدمون من بيوت طوب الكبريت ذات الأشكال والأطوال والمساحات المختلفة، ولبعضها مداخل مزدانة بألوان زاهية يغلب عليها الأزرق الداكن، والأخضر الفاتح، والأصفر الفاقع. وسدوا الأبواب والنوافذ بالثقاب والعيدان بهندسة مستوحاة من أخيلة عبقرية. هذا بناه التجاني الحاج وعثمان قسم الله ، والذي يليه من ناحية اليمين أحكم صنعه جلال علي وقنبور، والذي يقوم بينهما أبدع بناءه الحاج أحمد المصطفى وصلاح الخير، أما الذي يقع على مقربة من الفصول ويتصل بالمنازل الأخرى بممر طويل ممهد بالحصى والحصباء الملونة بالطباشير والجير وقد تخللته حلقات من الطاس كأنها عيون القطط مما نشاهد في طرق الأسفلت يومئذ، وتقوم على جانبي الممر بعض الأعمدة الصغيرة كأنها أعمدة تلفون وإنارة وإذْ يمتد أسفل منها صف طويل مرصوف بعلب الصلصة الفارغة وقد نزعت عنها أوراقها الحمراء وبقي لونها الحديدي اللامع، فقد كان مهندساه المعماريان أبو الشامة و فاروق ود أحمد. واتصلت المنازل من هنا وهناك شرقاً وغرباً لتكمل الدائرة بعدد يفوق العشرة وتقوم على مساحة لا تقل عن عشرة أمتار مربعة، وكانت تلك أوسع مساحة شدت عقل الصبي بهندستها وجمال إعدادها وهيئتها، وقد ظلت في خاطره حية و تنبض بالحياة رغم ما يفصلها من بعد زماني ومكاني غير يسير.
وقرأ لابن البشرى قصة باليسيا ووقف عند مطلعها طويلاً: "حينما انكفأت باليسيا العجوز على السراج توقده ، كانت الريح تعوي كذئاب الوادي الجائعة حين تشم رائحة الشواء في القرية. كانت الرعود تتبادل القصف. تبدأ فرقعة هائلة قبل أن تموت سابقتها. وبين هذي وتلك زمجرة تنسحب من طرف السماء إلى آخره. تشتعل البروق تحت الجفن وتنسحب إلى عمق العين؛ بل تحجز موقعها في الفؤاد. يغازل شريط برق بدا رفيعا من الغرب شعاع أطول منه في الجانب الشرقي .يلتهب كبد السماء بشرارة تجر خلفها حريقا هائلا، يخلع الفؤاد..........."
وانتبه صاحبنا لأمر عنصرين بدآ له أنهما يشدان عضد قصة باليسيا شداً حميماً، هما عنصرا الحركة والضوء. وخطر له أمر الصراع ما بين القوى البشرية المتهالكة قبالة القوى الكونية الطاغية، فكأن صوت باليسيا الخافت الضعيف هو صوت الراوي نفسه، وشعلة السراج لا تعدو أن تكون رؤية الراوي بلا شك ولتكن ممثلة للقوة البشرية المتهالكة، وأما زمجرة الرعود وضوء البروق فهي القوى الكونية الطاغية أو القاهرة، وما المكان إلا نقطة مائعة وفقاعة تتولد من الرحم الزماني ساعة المخاض والصراع بين القوى القاهرة والمتهالكة،ولتتفجر البقع المائعة عن صور ومرآي عند كل منغرس ومنعطف زماني كما تنتشر البذور عن البذرة الواحدة هوناً هوناً لما استحال بقاؤها كامنة غير مغالبةٍ لدواعي التفتق والانتشار.. تعددت المشاهد والمرآي والأصل واحد، وفي دورة الصراع يخرج الحاضر من رحم الماضي بنفس لحمته لكنه برداء جديد، وعلى مقربة يدنو المستقبل من ساحة الصراع ليتحد الجميع في مجرى واحد بصور ممتدة بلا انتهاء.
وكانت الدويم كبارجة تستحم في منعطف دورتها الزمني بشموس عوالم آخر ريثما تطل قريباً منها فداسي ليلتقي إرث الشرق بإرث كيريا وصحبه الكريم في كتاب بن البشرى وسجل عمران العاقب العظيم. وما استدعاء التراث وشؤونه بعمل مرهق أو خرافي لرجل مثل بن البشري وقد ألفى نفسه وهو غر يدور حول الأفلاك الكونية والمعرفية بأوسع مما يُتصور، ولتبق المواقع والأزمنة والأسماء في عرفه كالمصادفات اليومية لا يُعمل فيها مادة للتذكر أو التصور، وأنها تدور لأنه أرادها هكذا، واستهوته على تلك الهيئة، إذْ هي تقلب صفحاتها أمام عينيه بإرادتها. ومن يسبق الأشياء وبقية الأحياء بإرادته تنصاع وتخضع له بإرادتها من بعدئذ. وإنا كأمم عاقلة قُهرت إرادتنا فانصعنا لإرادة الآخرين، وما انصياع الحيوان لمدرب السيرك إلا شيء من ذلك.
تلك القدرة الخارقة نبعت في عقل الفتي أبي منذ كان يافعاً في سني المدرسة الابتدائية الهائجة المائجة ببختا الرضا، وقد وجد نفسه يعالج الشعر ويفهم أسراره بكل سهولة ويسر. وإذا نظرت لقصائده في مطلع الثمانينات ( بعض الناس يكتبها الثمانينيات ولا أحسب لها وجهاً والله أعلم) وجدتَ فيها فهماً يستعصى على بن الخمسين ، وربما أحس بالعنت الرازح من كانت له قدم صدق في العربية قبل أن يفلح في فك طلاسمها لتكتمل عنده الصورة الساحرة التي ومضت بالحرف والنغم الجلي في مخيلة الفتي ساعة وهو ماضٍ ليضيف إلى الوميض وميضاً، وللشموخ تواضعاً وذوقاً رفيعاً ، للخطى المفضيات للساحات سحراً وللآفاقٍ الأرجوانية بهاءً وبعداً. إنها للأحبة متعة وزيادة وريادة، وتعرف وتعرض لشموس عوالم أخر ارتآها وارتضاها بن البشرى سنة وطريقة سقاها من وريده (كما يقول الأستاذ أبو بكر العاقب )، ومن سهر البرتقال ( كما يقول الفيتوري الشاعر ). وتلك هواية كلفته الكثير، وسيظل ثمنها فوق قول كل رائز (من دلال أو سمسار بائع)، قد رام خرق المجهول وطاب به نفساً لا بغرض المشاهدة بل المشاركة. ومن يقرأ له "المتاهة" يحس أمر ذلك بجلاء. وما تعددت المواهب عند امرئ إلا كانت خصماً على راحته وعمره الافتراضي. ولقد فطن بن البشرى لآفة الموهبة ولعنتها فاحتال لها حيلة أبقاها تدور في فلكه تابعة له غير متلبسة به إلا يسيرا إلا بقدر ما يؤثر التابع على المتبوع إذا أي منهما يلاحظ الآخر ويتأثر بحركته شيئاً ما، فعل ذلك أبي في كثير من قصصه وقصائده، وتراه يمجد الحياة في مظاهرها العميقة وارتباط أهلها الأخيار بها: يعين ذا ويسند ذاك، ويساعد آخر على استذكار شيء يخصه حتى يجد عنده الكثير المذهل فكأنما الأمر أمره وليس لصاحبنا منه كبير شئ، ويفعل بن البشرى من ذلك الكثير، وفعله بالإعجاب والتقدير جدير. وتحمل عباراته الدقة الوصفية الفائقة التي تدخل الشك في النفوس، وتعجب للحافظة الكربونية عند ذكره لأسماء المواقع والشخوص والتواريخ ( طالع ما كتبه عن الطيب البكري )، وعند وتوصيفه المشاهد بما يشبه الإعجاز، وهو حقيقة إعجاز مثير للإعجاب أيما إثارة.
والذي دعانا لهذا الاستطراد ما لاحظته – على قلة معرفتي – من تعدد الجوانب المعرفية لدى بن البشرى، بحيث أنك تعجب وتتساءل هل بعد هذا التفوق هناك تفوق.. ولله في خلقه شؤون، ذكرت هذا وأنا أعالج ما كان من أمر حفنة التراب التي أخذتها خالتي من أثري وأنا أفارق القرية لرحلة اغتراب طويلة كادت تضيع معالم احتفيت بها ردحاً من الزمن، وخلدها غيري خير تخليد. وأرى الآن دعوة التوأمة بين الدويم وفداسي تنهض بقوة، أم أنها تجديد لما كاد يكون لولا لعنة السامري وحفنة تراب أخذها من كف خالتي إذْ تقلده وهي لا تدري، ولكنه ذرّها في العيون فضاعت بنا السبل والطرق السنين أثر السنين والخلق في التيه سامدون . ما أعجب شجون التراث والاعتقاد حين تبعدك عن مرادك، وحيناً تعشي نظرك من شدة الاقتراب.. تذكرت قبضة التراب تلك فلعله قريباً للدار يعود؟ " وكيف يعود من كانت تعوزه النقود ؟!" ألا رحمك الله يا سياب، وأن شعباً بحاله صار مفارقاً للدرب وقد ضاقت به السبل واحتمى بحمى الاغتراب اللعين، ومن يدريك عنا يا سيدي أن المدن كما الناس صارت ترتحل وتهاجر من منابتها ولم يستطب لنا العود الحميد. وسففنا على المراقي حفنة التراب تلك لكنها لم ترجع لنا أثر. أين ذهبت الأمكنة؟ أم أنها غاصت أو ربما ضاعت؟ يا ويحها من لعنة تصادر منا المكان ونحن مع الأفلاك ندور أو لا ندور. حتما ستعيد التوأمة إرم المفقودة والفراديس عما قريب. أري الآن بن الدويم السباعي بقامته المديدة بين بيوت طوب الكبريت في ساحة المدرسة يكثر التطياف من جديد وليقف التجاني وعثمان قسم الله، والحاج أحمد المصطفى وصلاح الخير ، أبو شامة وفاروق بن أحمد لتحية أستاذهم باعث الحياة في حصة التراث والأعمال بل هي حصة الخلود ولغز العود الحميد. وله من فداسي الحليماب خريدة الشوق المكنون.
محمد حسن خضر
الرياض 1/10/2006م






)