|
|
 ينصر دينك يا (مهمّد)! فتحي الضو
|
يِنِصّرْ دِيَنك يا (مُهمّد)!
فتحي الضـو
[email protected]
أستميح صديقنا السفير السابق عبد المجيد علي حسن عذراً فى استعارة العنوان أعلاه، فقد سبق وأن تصدر مقالا باكٍ كتبه في العام 1997 بصحيفة (الخرطوم) التي كانت تصدر مؤقتاً في القاهرة، وذلك فى مئوية رحيل قريبه بل صفيه وخليله الاستاذ محمد توفيق أحمد، ذلك الرجل الشامخ حياً وميتا، و”مجيد“ كما يحلو لأصدقائه أن ينعتوه صاحب قلم حرون، لا يكتب إلا إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها من محنٍ وإحنٍ وأفراحٍ وأتراحٍ ودهشة تدعو للتأمل، لهذا كان ذاك من جنس المقالات التي لا يبلها الزمن ولا تسقط بالتقادم من الذاكرة، عندما تقرأها تتيقن أن الفقيد يمت إليك بصلة قربي، وكلما قرأتها مرات ومرات تشعر بأن دمعك ينهمل للمرة الأولي علي رحيل آخر الفراعنة النوبيين، ذلك لكثرت ما بثها من لواعج ذكري تقاطرت قصصاً وحكايات ومواقف إنسانية.
لست جهوياً ولا متطرفاً، وقد وطنّت نفسي منذ أن إستنشقت هواء هذا البلد المسمي السودان، أن أنظر لقومياته المختلفة كأسنان المشط بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين، والقاعدة عندي لا فضل علي عربي أو افريقي علي عجمي إلا بقدر الانفعال بالسودانوية التي مزجتهما معاً. وبالرغم من كل ذلك لا أجد حرجاً في أفضي بمكنون صدري عن شعور خاص أكنه لقومية الواصف والموصوف أعلاه وثالثهم موضع هذا المقال، ولعل القاسم المشترك الأعظم بينهم هو ما أسماه المفكر المصري الراحل جمال حمدان بعبقرية المكان!
فالنوبيون وفق معرفتي بهم قوم متسامحون منذ أن أدهشوا عبد الله إبن أبي السرح بأكثر مما تطلع وتمني في ”إتفاقية البقط“ وأعتقد أن فى ذلك يكمن سِر نظرتهم لقضايا الكون وفلسفة الوجود وجدلية الحرب والسلام، إلى جانب صراحتهم التي تلهب الظهور أحيانا بألسنة حداد، ولعل المجبول علي مثل هذه الخصال يعزّ علي الناس التعامل معه بهمجية، إلا جلاوزة هذا النظام، فحينما إعتدوا علي أبرياءهم في كجبار قلنا يومها أن النظام رغم كثرة موبقاته، قد أكل من الشجرة المحرّمة!
فى ذات السياق أيضاً كان عنوان المقال أعلاه حكراً فى ثقافتهم، فهم حينما يستبد بهم الفرح أو يستحسنوا شيئاً، تحلّق بهم النشوة عالياً بين طيات السحاب، فتخرج هذه العبارة رقراقة من أفواههم «ينصُّر دينك يا ... » ولا فرق عندهم أن كان المخاطب هو محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر أو بنديكتوس السادس عشر بابا الفاتيكان!
منذ أن دخل التجمع الوطني الديمقراطي مرحلة الموت السريري علي إثر مشاركته النظام المستبد السلطة بموجب ما سمي بإتفاقية القاهرة، لم يجرؤ لسان من أعضاء هيئة القيادة علي نقد التجربة، بيد أن هذا ما فعله الآن صديقنا الآخر الاستاذ محمد سيد احمد عتيق القيادي في حزب البعث وممثله في عضوية هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي، وذلك في الحوار الذي أجرته معه الصحفية المثابرة مزدلفة محمد عثمان علي صفحات (الأحداث 10/10/2007) وفيه قدم عتيق كشف حساب بلغة التجار أو تقييم موقف بلغة الاجتماعات، واضعاً تجربة التجمع الوطني الديمقراطي في الميزان، بعد المشاركة في السلطة.
عن ضربة البداية في الأخطاء التي تراكمت حتي أصبحت جبلاً يصعب زحزحته بعدئذٍ قال عتيق «الوزارات التي عرضت علي التجمع برغم عدم حرصنا عليها، إلا أننا فوجئنا بأشخاص لا نعرف عنهم أي شىء، وأنا شخصيا لم أسمع من قبل بأي من الوزراء الذين تمّ تعيينهم بإسم التجمع، بإستثناء الفريق عبد الرحمن سعيد، وحتي الآن لا ندري شىء عن هذه الوزارات التي تدار بإسم التجمع وما هي سياساتها، وما يجري فيها، هذا أيضاً علامة لضعف التجمع وإهترائه» ونقول له أيضاً نحن كذلك يا سيدي، رغم أن هذا التجمع حملناه وهناً علي وهن منذ أن كان نطفة، وحتي بلوغه سن الشيخوخة المبكرة. ومع هذا فإن السيد رئيس التجمع بمفاجآته التي لم تنقطع يوماً منذ تسنمه القيادة كان قادراً علي أحياء العظام وهي رميم، فجاء بوجوه تقول عنها العرب العاربة ”لا في العير ولا في النفير“ ولعل عتيق يذكر كيف أن سيادته ومنذ وقت مبكر دأب علي إصطحاب أبنه السيد علي في جولاته باسم التجمع، وغالبية أعضاء هيئة القيادة لم تكتحل عيونهم برؤية المذكور حتي ولو فى المنام كما قالوا لنا، ناهيك عن عموم أهل السودان الذين يفترض أن السيد علي يتحدث نيابة عنهم، ويعلم عتيق ألا احداً من الجالسين في القاعة قال للرئيس يومذاك: صهٍ يا كنار! بل علي العكس الذين إحتلوا كراسي الاستشارية من قبل ومن بعد كانوا يقولون له يا مولانا جاءتك الخلافة تجرجر أذيالها، وهي لا تصلح إلا لك، ولا تصلح إلا لها!
ثم دلف عتيق لقضية سيطرت علي أحاديث مجالس المدينة بعد المشاركة، سيما وقد جهر البعض بأسئلة أعتبروها مشروعة بمعايير الديمقراطية وحرية الرأي، لكن عتيق كافاهم مغبة إرهاق أذهانهم بالتفكير فقال إن «قضية رفع المظالم ودفع الضرر، هو بند في الحقيقة قيمته الأساسية تنهض علي كيفية إتاحة المجال للقوي السياسية والآفراد، حتي من غير الأحزاب السياسية المتضررين من النظام، أن يجدوا إنصاف بما يخلق قدر من الإنفراج النفسي والوجداني وحتي المادي، لكن أخوانا .... رئيس التجمع ونائبه ومساعده... قضاياهم حُلت بعيد عن روح الاتفاق وبعيد عن أي لجنة مشتركة بين التجمع والمؤتمر الوطني، بمعني أنهم استردوا ممتلكاتهم وخضعت للصيانة والترميم، وأعيدت أموالهم وحتي الذي صودر منه (ذهب) استرده. الآخرين بينهم أفراد داخل التجمع لم يسأل عن أوضاعهم وحتي قيادة التجمع لم تكلف نفسها بالسؤال، ولا رئيسه لم يفعل»
وتحضرني طرفة سياسية أو بالأحري واقعة سياسية من لبنان الشقيق القطر الموغل في الطائفية أكثر مما توغلنا، ولو كان عتيق يعلم بها لما تساءل بما ليس من وراءه طائلا. كان أحد البكوات وقد نسيت أسمه يخاطب حشداً من أهل قريته فى الجنوب اللبناني في موسم إنتخابي، وفجأة طالبوه ببناء مدرسة فقال لهم قولته المشهورة «مشان شو ما أنا عم بدرِّس أبني مِشانكم»!
كشف لنا عتيق عن أنه مثال للمهمشين أو الذين نسي التجمع قضيتهم بعد أن قضي الثلاثي المذكور وطره من الشراكة، فقال أن «كل ما أملكه في الدنيا مصادر» وشرح ذلك بالتفصيل «سيارات وحتي المنزل الذي كنت أقطنه حسبوه ملكاً لي وصودر وتمّ تدميره بشكل كامل وسلب كل ما فيه رغم أن المنزل تملكه شقيقتي» وليته أضاف صنوف التعذيب التي تلقاها في بيوت الأشباح، ذلك ما يفصله عن رئيسه في الكيان، لكنه أفصح عن عجز تضاءل إزاءه عجزالمتعثرين في بيداء المليون ميل مربع «ليس بمقدوري أن أسترد كما فعل غيري ممتلكاتي وحقوقي لدي الحكومة لسنين أو أكثر أرفع عرائض واوكل محامين دون جدوي»!.
كذلك سأل سؤالا جرت تسميته حديثاً في الثقافة الشعبية السائدةً بسؤال المليون، ورغم أننا نعرف إجابته لكننا لن نستطع لذلك المليون وصولاً، قال: «ما الذي يجعل المؤتمر الوطني يحل مشاكل أفراد محدودين في التجمع، وتحديدا رئيسه ونائبه ومساعده»، ليت عتيق يفعل ما فعله الفريق سعيد ثاني الثلاثة الذين ذكرهم بقضاء حوائجهم بالكتمان، فقد إشتعلت في نفس الفريق الحمية العسكرية، وأظهر لخصوم الأمس العين الحمراء، كان ذلك حينما سألته الصحفية النابهة نادية مختار عن الإشاعات التي تقول بأن أهل الانقاذ خصصوا مبلغ 50 مليون جنية لترميم منزله بعد إرجاعه له (اخبار اليوم 14/7/2005) أي كان ذلك في وقت مبكر قبل وصول الفريق للكرسي الوزاري قال «حقي ما بخليهو للرجال»، وعتبي علي الفريق سعيد الذي أخفي عنا ”شفرة دافنشي“ هذه، فلو كنا نعلم أنها ستخيف أهل الانقاذ، وتجعلهم يردون الأمانات إلي أهلها، لما تقاعسنا عن نطقها، غمداً للسيوف وحِقناً للدماء كما قال خلفهم الفريق عبد الرحمن سوار الدهب فى أدبياتنا المعاصرة!
بصورة شاملة وصل عتيق في حواره الصريح إلي عقدة الموضوع ووضع حتمياته التي تحتمل الخطأ وتحتمل الصواب وإن كانت للأخيرة أقرب «الوضع الراهن لا يشير إلي أي أمل في إصلاح.. إذا التجمع ككتلة مسماة.. لا يملك جدول أعمال ولا يعقد إجتماعات لتنظيم النشاط داخل البرلمان، يبقي أي حديث عن عمل أو تأثير ملموس (كلام ساي)»، وعندما قيل له لماذا: ختم حديثه بصورة أقرب إلي ندم الكسعي «للأسف كل واحد مشغول بنفسو.. سواء لقصور ذاتي.. أو للظروف التي خلفتها حكومة الانقاذ طوال الـ 17 عاماً وسط الناس،لتشغلهم بأحوالهم»، وهذه قمة الحبكة الدراميه كما يقول أهل الفن السابع!
كان ذلك قول عتيق أما قولنا الذي أدي إلي تلك النتيجة البئيسة التي حاقت بالتجمع فقد سجلناها في كتاب محفوظ سميناه ”سقوط الأقنعة“ رغم أن الحيثيات التي أرهقتنا علي مدي سنوات لم تعجب ”شعراء السلاطين“ الذين دأبوا علي المدح وعيونهم مصوبة علي الجراب، لكن ما علينا، الكتاب توقف في صفحته السبعمائة حيث أنتحر التجمع في رحلة العودة، ولم يتطرق للمشاركة التي جاءت بعدئذٍ، وهي ما نقول عنه الآن الرواية داخل الرواية وهذا موجزها!
إختصار ليلٍ أطول من ليل أمرئ القيس الكندي، أنجلي ليل الكيان المعارض بصبح وإن لم يكن الأمثل، قرر التجمع المشاركة في السلطة التشريعية الانتقالية وصدر قرار يوم 6/10/2005 فى ختام إجتماع بالقاهرة «الموافقة علي المشاركة في مؤسسات السلطة التشريعية الاتحادية والولائية من أجل العمل علي تحقيق التحول الديمقراطي الكامل والرقابة وتصويب الأداء الحكومي، والدفاع عن الحريات العامة والحقوق الأساسية، والمساهمة في تنفيذ اتفاقية السلام» وأسال الله يا عزيزي القاري ألا تكون من ذوات الثدي التي (تبحلق) في الأهداف المذكورة والتي من أجلها شارك أهل التجمع في السلطة، لأنه كان حرياً بنا أن نضع أمامها تلك اللافتة الكلاسيكية التي تقول ”ممنوع الاقتراب والتصوير“!
بعد أن كثر الصياح والنباح بالمشاركة، ولأن خير البر عاجله كما يقولون، فقد صدر قرار ثانٍ بعد أقل من شهر في إجتماع تكميلي بتاريخ 1/11/2005 وكان خاصاً بإستثناء أحزاب (الاتحادي، البعث، القومي) للمشاركة في السلطتين التنفيذية والتشريعية، ونظراً لزهدنا في المتابعة بعدئذٍ، نعترف بأننا لا نعلم لماذا أصبح القرار فرض كفاية فيما بعد، أي قام به الحزب الاتحادي وحده وسقط عن الأثنين الأخيريين.
الحزب الاتحادي دفع بمنسوبية إلي السلطة التنفيذية، وكذلك في السلطة التشريعية دفع بآخريين بعد أن أستحوذ علي نصيب الأسد من المقاعد المخصصة (12 من 20) علماً بأنه حاليا يرتع منهم 9 أفراد فقط، حيث غيّب الموت واحداً واستقال ثانٍ (فك الله أسره) وحمل ثالث نفسه وعاد من حيث أتي، ليس هذا هو الموضوع، لكن المختارين الذين إختارتهم لجنة برئاسة أبو عيسي (وعضوية ثلاثة من الاتحادي علي السيد، هجو، حاتم السر،ورابعهم الشفيع خضر) يفترض نظرياً أنهم أخضعوا المختارين لمعايير إتفقوا عليها. هذه المعايير سنحجم عن إعادة نشرها حفاظاً علي مشاعر القراء! لهذا لم يكن غريباً الا يكون قد رآهم من قبل عتيق ولا رقيب ولا عتيد!
بغض النظر عن الدوافع والأسباب الملاحظ أن مشاركة التجمع الوطني في السلطة سواء كانت محدودة (التنفيذية) أو شاملة (التشريعية) قد فتحت الباب علي مصراعيه في أحياء الجدل القديم الذي شغلت به الانسانية نفسها ردحاً من الزمن، وذلك حول التداخل بين السياسي والأخلاقي، فلم يكن عتيق وحده هو الذي تساءل عن العطايا التي انهمرت علي الثلاثي القيادي رئيس التجمع ونائبه ومساعده، فالكثيرون ركزوا سهامهم حول شخصيات بعينها دون سواهم، يعتقدون أن لها تاريخاً ناصعاً لا ينبغي أن يدنس بالمشاركة، ولهذا إستلوا أبوعيسي من الثلاثي المذكور ووجهوا نحوه جم غضبهم، وبالقدر نفسه إستغربوا مشاركة ثلاثي الحزب الشيوعي (فاطمة، سليمان حامد، صالح محمود) ووضع البعض عينه علي الرواتب والمخصصات التي يتلقونها نظير المشاركة، وآخرين أبدوا دهشتهم لمشاركة العميد عصام ميرغني، بزعم أن النظام لم يدله حتي الآن علي قبر شقيقه ورفاقه المغدورين، وقبل هذا وذاك كان الباب قد إنفتح أيضاً يوم أن تقبل التجمع الوطني المنحة الأمريكية، ومن ضمنها بند خُصص للرواتب بدءً من رئيس التجمع مروراً ببقية أعضاء هيئة القيادة وانتهاءً بصغار الموظفين.
يقول ماوتسي تونغ «السياسة حرب دون سفك دماء، والحرب دماء سفكتها السياسة»، ويقول الجنرال الألماني الشهير كارل فون كلاوزوفينتر «الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخري»، غير أننا نقول أيضاً أن السياسة نفسها تعبير عن تطلعات إنسانية بدوافع أخلاقية، ودون شك أن المذكورين الذين سمعوا هذه الأسئلة بصورة أو أخري، يمتلكون من الأجوبة الكثير، بل يمتلكون قبلها الإجابة التي تُفند دعاوي المشاركة نفسها في الأصل، وهذا ما سنعالجه في مقال آخر منفصل في مقبل الأيام، وريثما يحدث هذا ليتنا بعد حديث عتيق نواري طيب الذكر التجمع الوطني الثرى، ويا مولاي أرجو أن تكون قد أدركت الآن أنك”كعب أخيل“ هذه الأزمة وكفي!!
المقال نقلاً عن صحيفة (الأحداث) 17 و18/10/2007
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
Elmontasir Abasalih
Imad Khalifa
altahir_2
فيصل محمد خليل
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست