|
د.عبد الوهاب الافندي في التجارة بالدين «حقيقة لا مجازاً»
|
د. عبدالوهاب الأفندي «1» كثيراً ما يتهم الإسلاميون من قبل خصومهم بأنهم من المتاجرين بالدين، وهي في نظري تهمة مجحفة، أقله لأن هذه تجارة خاسرة في الأغلب الأعم إذا قبلنا هذا المنطق. فبحسب ما نرى فإن معظم منسوبي الحركات الإسلامية يكونون في الغالب من مرتادي السجون، ويعيشون حياتهم مطاردين. وحتى حين يحالفهم الحظ فيصلون إلى السلطة، كما حدث لحماس، فإنهم يجدون أنفسهم في وضع المعارضة خير منه. وعليه فإن الدوافع التي تحرك هؤلاء بعيدة كل البعد عن المتاجرة بالدنيا، خاصة أن أبواب الغنى غير ذلك كثيرة كما ذكرنا أبو نواس. «2» هذه التهمة أطلقت بصدقية أكثر في حق مؤسسي البنوك الإسلامية وغيرها من المؤسسات المالية التي تدعي الطابع الإسلامي. ولا شك أن مجال الخدمات المالية الإسلامية هو مجال يدر ربحاً لا بأس به، حتى أن مؤسسات غربية مثل سيتي بانك وأتش. إس. بي. سي. دخلت هذا السوق. ولكن حتى هنا فإن إطلاق صفة التربح بالدين على مثل هذا النوع من الأنشطة لا يكون عادلاً. فمن جهة فإن رواد هذا التوجه الذين بادروا إليه تحركوا في أول أمرهم من دافع عقائدي، ولم يكونوا واثقين من النجاح أو الربح. ومن جهة أخرى فإن ما يقدمه هؤلاء هو في نهاية الأمر خدمة مثلهم في ذلك مثل بائع الخضار وصاحب البنك الربوي. فالأمر هنا تجارة وتربح بعمل مشروع، أي أنه تربح لا غير «وليس تربحاً بالدين». «3» هناك بين أصحاب المؤسسات المالية الإسلامية وغيرهم من يتوسل ما يزعم أنه صفة دينية لمؤسسته لجذب الزبائن، وهنا قد يقترب المرء من باب المحظور، أي المتاجرة بالدين وبيع الآجلة بالعاجلة. «4» هناك مثال صارخ أكثر في المتاجرة المفضوحة بالدين، من نماذجه ما قامت به مؤخراً شركة اتصالات سودانية تدعم محطة إذاعية تخصصت في المدائح النبوية والأحاديث الدينية. وقد كلفت هذه الشركة من نظم «مدحة» غير نبوية في تعداد مناقب الشركة، على روي ولحن المدائح النبوية. فإذا أنعم الله على المستمع بالاستماع لتلك المحطة فإنه يصادف عدة مرات في اليوم ما يعتقد لأول مرة بأنها قصيدة في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنه بعد تمعنٍ يكتشف أن الممدوح هو تلك الشركة. «5» المدائح النبوية السودانية كما يعرف متذوقوها تتبع نسقاً معيناً ومميزاً في اللحن والأداء، وغالباً ما تقوم على مقطع أو عبارة يكثر تردادها طوال الإنشاد. وفي الغالب تشير هذه العبارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو محبته، مثل «العدناني» أو «سيد منى». أما في المدحة المعنية في مناقب الشركة، فإن العبارة التي تردد باستمرار هي اسم الشركة. ولا ينسى الشاعر المنشد أن يربط مناقب الشركة بالدين، فهي «شركة عريقة، للإسلام شجرة وريقة»، إلخ المدح الذي يخجل جريراً والفرزدق. «6» من ناحية تجارية فإن هذه بلا شك حملة علاقات عامة ناجحة. فوضع شركة في مصاف الأنبياء وإطراء مؤهلاتها الدينية في إذاعة مثل هذه، لا بد أن تلفت الأنظار وترفع أسهمها حقيقة ومجازاً. ولكن من منطلق أخلاقي وديني فإن هذا الإسفاف والاستهتار بالقيم الدينية وتقويض الدين من أساسه لصالح التجارة والربح. «7» يبدو أن المؤسسات الاقتصادية المتاجرة بالدين ستحقق لأعداء الإسلام ما عجزوا عنه بمحاربته لقرون، أي أنها ستنجز علمنة الدين وتحويله إلى سلعة تباع وتشترى في السوق. وعليه ننصح الحكام الذين اجتهدوا في محاربة الإسلام عبر بناء السجون ونصب المشانق، أن يقوموا بإنشاء شركات «إسلامية» تقوم عنهم بالواجب. وهذا هو تحديداً الطريق الذي اتبعته العلمنة في الغرب. فقد كان الاقتصاد هو أول ما خرج عن طوع الكنيسة حين قرر المرابون تحدي تحريم الربا ودعمهم في ذلك الملوك. ولم يكن هناك بلد دخلته البنوك والصرافات من الباب إلا وخرجت الكنيسة من النافذة. «8» هناك أدلة لا تحصى بأن الرأسمالية المعاصرة هي ديانة مستقلة عن كل الأديان الأخرى، وهي ديانة عبادة الربح، تماماً كما عبد بنو إسرائيل عجلهم الذهبي، وعبدت سلالتهم الإله «مامون» رمز الجشع وحب المال الذي حذَّرهم السيد المسيح عليه السلام من أن عبادته لا تتفق مع عبادة الله تعالى. وهذا تحديداً ما تسعى بعض الشركات الإسلامية «ولا أقول كلها» الى أن تعمله. فهي تريد أن تجمع عبادة الله وعبادة آلهة الجشع، ولأن الله تعالى أغنى الشركاء، فإنها تنتهي بعبادة إله واحد. فالرأسمالية هي في نهاية المطاف أيضاً ديانة توحيدية لا تقبل الشركاء في عبادة مامون. فليختر من شاء معبوده.
|
|
|
|
|
|
|
|
|