كان سور جامع الخرطوم العتيق أو الكبير، وتحديدا من ناحيته الشمالية، يمثل لنا ونحن أطفال وصبية متوثبون وتواقون للقراءة، بمتعتها وفائدتها من بعد ذلك، موئلا وملاذا مفرحا خاصة فى أيام العطلات المدرسية، كان اليوم يبدأ بسياحة أنيقة فى أفياء شارع البرلمان بعبقه اللندنى الأخاذ وواجهات محاله المبهرة، ثم ينتصف ونحن نتربع على أحد طاولات "حلوانى حمدتو" نستمتع بآيسكريم "عم سعيد" الأبيض، ولا يكدر بهجة اليوم سوى عبوس وجه العم سعيد وتجهم نظراته، ونهاية التطواف تبدأ حين ندلف الى السور الشمالى للجامع الكبير
هناك رأينا لأول مرة وجه العقاد بشاربه الفخم، وهو يزين أغلفة مؤلفاته، يجاورها فى غير نظام أو ترتيب، مجلد ضخم عليه لغة لم نكن ننتبه كثيرا اليها، وغير بعيد من ذلك، أنت واجد بضع أعداد متفرقة من "آخر ساعة" و "الموعد" و "الصياد" وهى عادة لا تستحوذ كثيرا على محور التركيز والإهتمام، فقد كانت العيون الصغيرة تبحث فى شفق عما تخلف عنها من أعداد "الرجل الوطواط" و "سوبرمان" ثم "ميكى" و "سمير"، تلك التى أتت ونحن فى غمرة أيام المدرسة المتعبة
وفيما بعد، ومع توسع عرض العمر وطوله، توسعت الإهتمامات وكبرت، ومن هناك إنضمت "إشراقة" التيجانى، و"ملامح" حسن نجيلة، جاء إدريس جماع وتبعه الهادى آدم وكوخ أشواقه، جاء محمد محمد على والناصر قريب الله، ثم جاد المجذوب علينا ب "الشارة والقربان والخروج" وتوالى الوله، وغير ذلك المئات من الكتب والدوريات العربية والأجنبية، و قطعا فإن هناك الملايين من أمثالنا ممن أدمنوا إرتياد وعناق ذلك المكان
كتاب محمر الوجه قد تجد عليه إسم أو تاريخ أو تذكار بخط اليد، وكأنه يكرس لحميمية كامنة فى جسد الكتاب وصاحبه الأول
جاء غير ذلك كثير وعديد، وأصبحنا "زبائن" منتظمين ومعروفين لأولئك الناس البسطاء طيبى الدواخل، كانوا لا يتوقفون أمام سعر زاد أو قل، وكأنهم يحاولون الإسهام فى نشر رسالة هى أجل ما تكون، منذ الأزل وحتى راهن اللحظة، رسالة الكلمة والكتاب، بثمن قليل ولكنه حتما غير بخس، وأصبحت تلكم المقتنيات زهيدة السعر ، عالية القيمة، أصبحت جواهرا تزين صدور الآلاف من خزائن الكتب لدى آلاف القراء فى بلادنا
فوجئت مؤخرا بصدور الأمر، بمنع أولئك القوم من إفتراش تلكم الساحة البهية، ومنعوا من أن يمارسوا عشقهم النبيل ذاك، وحرموا ملايين العشاق من أن يطلوا ويرمسوا معشوقاتهم مغبرة الوجنات، حتى بمجرد النظر
وكأننا دائما على وعد بوأد كل رموزنا الجميلة الجليلة، فقد بدأنا ب "الخرطوم شرق الأولية" التى قتلت عمدا مع سبق الإصرار والغباء، وهى جارة تلك الساحة المنيرة، وكأن المنارتين قد إتفقتا على الحياة والموت سويا
وبالتأكيد أيضا، هناك العديد من الرموز الشامخة فى جميع مدن الوطن، التى طالتها يد الإغتيال والتغييب
حتام إصرارنا على ممارسة القتل البشع لكل الأشياء الجميلة فى حياتنا، قالوا لى أنه إتفاق بين السلطات المعنية وأصحاب المكتبات ودور الكتب، وأنهم قد إدعوا أن هؤلاء البسطاء قد "بوروا" سوق الكتاب عليهم، ولا تعليق، فاللبيب الآن يفهم حتى بدون إشارة
ليكن ذلك، ألم يكن من الأجدى تقنين ذلك العمل ووضعه فى قالب منظم، ولو بالقليل، ليفرضوا ضرائبهم وليضعوا رسومهم، فقط، لتستمر مسيرة تلكم الساحة المضاءة المضيئة بوهج المعرفة
وكعادتنا أيضا، سوف نلوذ بالمقارنة المحزنة بجارتنا الشمالية، مصر، والتى إكتشفت وأدركت أهمية المحافظة على كنوزها النفيسة، منذ أمد بعيد، وفات ذلك علينا نحن، مدعى "العرفة"، فسور الأزبكية أصبح ذا شهرة عالمية وهو يمارس نفس الدور التنويرى الذى قام به سور الجامع الكبير، والأهرام أصبحت فعلا هرما رابعا، ونحن نغتال عمدا "الأيام"
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة