نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
|
الســــــبيل : ســــــرد ...
|
الحـــارة :
انتصـــبتْ الحارة في غفـــلة من الزمــن ، حينما كان حارسا نــؤم ، لا تعنيه كثيرا الرقابة المتشـــددة على تفاصـــيل البـؤس و التعاســة .. صــارت الحارة تتمدد شــرايينها ، دروبها الصغيرة ، التي تشبه عروق تبلدية كردفانية صــابها العنـــاء من ســـقية العطاشـــى .. تمـــددت الحارة براحــة عميقة غرب مقابر حمـــد النيـــل – تلك التي أغرتها ممارسة اٍستضــافة الذين ملّوا و صــابهم الرهق من التفرج على تفاصــيل المســاغب المجانية و الفـــاقه العاتية و الكــذب المجـــنّح – تشــجّرت نحـــو الســـهل و أمتــــدّتْ .. أمتــــدّتْ ... وقفــتْ على صـــدرها بيـــوت الطـــين الصغـــيرة ، التي أحتـــوتْ كثيرا من قصص الحون الصغيرة أيضــا .. على وجهها ، ينتصــب بيت خليفة شـــيخ الربع ، الذي فقـــد أثنين من أبنائه في أحــدي الاٍنقـــلابات الفاشـــلة ، ثم صـــار يســـب الســــياسة و الســاسه و الســـوس .. و من أبتدع حرب البســـوس ، الممتدة عبر الزمن بعناد غير ميئــــوس ..! و من خلفه ، أيّ خلف بيت خليفة شيخ الربع ، يقف بيت الرضـــيّة بت جبـــورة ، التي فقــدت عينها اليـمنــى ..حينما تشــابكت أرجل الناس هـــربا من صــوت الرصــاص الذي كان ينطلق برعونة ، ة يطرقع بصــخب ، و يطارد الناس في اٍحدى المظاهــرات ، يوم كانت الناس تحب هذا النــوع من المغامـــرات ، بحثا عن شــطة البمبان الحارقة ، و الأمل في تخفيـــّض اســعار الخبز و المواصـــلات ، و معدلات ضغط الدم ، أو ربما توليف قصص البطـــولات و روايتها على أكـــوام تراب البنـــاء المـــؤجل ، كما حلم التنمية ، لســـنين عـــددا .. كانت الرضـــيّة تلك ، تبيع الفــول المدمس و الحمّص و الترمس و البطاطس و اليام المسلوق ، أمام مدرســـة البنات المتوسطة ، فداهمها الناس في غفلة من أمرها .. و يقال أن صـــلاح ســـلك الشماسي ، كان مغيوظا منها ، فطبزها في عينها اليمنـــى دون اليـــسرى ، لحنقه الدفين تجاه اليمين أينما كان ، و حثيما كان ، و كيفما كان ( حتى لو كان هلم جــرّة ) ..! و لكن الأهم من كل ذلك ، أن الرضــية تلك لم يظهر اسمها في أيّ من قــوائم البطــولات السياسية و ادعاتها المنثورة ، بلا خجل ، على كتف الزمن الأشــتر.. و بالطبع لم يظهر اســمها ، حتى في كشــوفات التعويضــات .. ربما لأنها لم تكن من أهالي ( هــلم جــرّة ) و هي الفئة الوحيدة التي يحق لها التعويض ، في كل ما بطن و ظهر .. و كل ما مضى و كل ما هو اَت ..من كافة التعويضــات ..!
خلف بيت الرضـــيّة مباشــرة ، يقف بيت الخال جبريل النجــار ، الذي ذهب ابنه موســى الضكير الى القتال في الجنوب ..ضمن مجنـــدي الخدمة الإلزامية منذ خمسة أعوام و لم يعد حتى الآن ..! و الجدير بالذكر ، أن هذا البيت ، بيت الخال جبريل النجار ، يقف على صــدره دكان كــوكو الغسّال ، الذي كان يغســـل أدران الملابس ، و ادران الحــزن ، و يقــدم خدماته للكســالى ، الذين يعجزهم كسلهم الأبدي عن مــلامسة ممتلكاتهم الحميمة ، التي كثيرا ما اطلّعتْ على تفاصيل ضعفهم الشــخصي .. مثـــلا ، أن تلك الممتلكات الحميمة كثيرا ما شـــهدت تبول الســكارى عليها ، أو جبن الجبناء ، الذين داهمتهم موجـــة خـــوف عارمة ، فتغـــوطوا عليها .. أو حتـــى ما يسكبه هـــواة الصــاجات/الوجد الحرام ، حينما يســكبون عســــل اللّذة في زحــام البصــات العتيقة ، التي تتقـــــيأ جمهـــورا كادحا في اخــر محـــطة ..! يــواجه هـــــذا البيت ، بيت الخال جبريل النجــار ، ميـدان الرابطــة اليتيم .. و هــذا الميدان نفسه نصبه اهل شـــاهدا على غيظهم الكظـــيم ، الذي كثيرا ما يفرغــون مرارته زعيقا و هتافا و ســـبابا مبطّــن يتوجـــه نحـــو .....
الشـــارع :
تخرج البصـــات كما النمــل ، و تدب دبيبا خفيفا – كالمدام ، حينما تدب في اطراف عشاقها – نــحو امدرمان .. لتدب دبيبا خفيفا اَخــر نحــو الحارة .. تحمل الناس و اللبن و الخضار و الجرائد اليومية المملوءة كذبا نتــنا يشـــبه زنخــة بيوت الأدب ..! البصــات العتيقة ، تنهـــز قلوبها من التعب ، و لكنها لم تفكر يوما بأن تقف تمردا أو احتجاجا.. تثير الغبار ، و تثير أعصــاب من أنهكتهم هذه الحياة ( نعم هذي و ليست تلك) .. فيشتعل السباب لهيبا من الخناقات التافهة الصغيرة ، التي تشبها في صغرها أحزان اهل الحارة .. لا يســـكّن غبار ذاك الشــارع ، ســوى الســـيل المنحدر من جبيلات المرخيات التي تقف غرب الحارة ، وقد أرتخــتْ ذاكراتها ممـا رأته من عجـــب ..! يســــكّن مثل ذاك الســـيل غبار الشارع الوحيد ، و يمحـــو بعض من البيوت ، كما يمحــو عديمي الذمــــة تأريخ من قبلهم دون أدنى وجل من التأرخ نفســـه ..! انتصب الشارع ، كما أمه الحارة ، ليفصلها الى شمال و جنوب .. ليمارس ذينك النصفين لعبة الكراهية المتبادلة عبطا .. أهل المصف الشمالي ، لا يحبون أهل النصف الجنوبي لتخلّــفهم .. و أهل النصف الجنوبي لا يحبون أهل النصف الشمالي ، لإرتدائهم ثوب الغرور الممـــزق ، الذي لم يتمكن قط من ستر عورات الفقــر فيهم ..!
انتصــبتْ الحارة ، وعلى صــدرها امـــتدّ الشـــارع ، شــارع الموصــلات ، و عليه يقف السبيل..
الســــبيل :
كـــأيّ معجـــزة ، لا يملك الزمن قــدرة على تفسيرها ، يمتــد تأريخ هذا السبيل .. تأريخــه الشخصي ، لا تستطيع مواثيق الزمن و سرده السخيف على تحمّله أو احتــوائه .. ليس ممن أهل الحارة من يتذكر لحظة ميلاده ، أو قل لحزة وجوده الأولى .. اٍبتدأ بزير واحـــد ، يتناوب الناس على ملئه بالماء ، في زمن بعيد ، حيث كانت مثل تلك العادة يمارسها الناس بلا مقابل مادي.. ثم نادى هـــذا الزير على أخوين اخرين من فصــيلته ، أتيّا ، لموازرته.. أحزنهما أن يشـــيل اخاهما الأكبر ، الزير الأول ، شـــيلته لوحـــده .. و الأهم من ذلك احســاسهما بالخجل و قلة المروءة.. و لكن بعض الخبثـــاء يقولون بغير ذلك .. فمنهم من يتبرع برأي أو مشـــورّة مجانية حول ذاك الزير الأكبر ، بالقول بأنه تعب من الوقفة لوحده ، و من مشـــاهدة مواقف اٍنســانية لا يرغب أيّ كائن أو جماد بالإدلاء بشـــهادة حولها ، فنادى بعض من أهل ملـــته و فصيلته ، ليقوم بذلك الدور مثله .. كانت أزيار السبيل الثـــلاثة ، تقف بشـــموخ و عزة ، و تمارس دورها باٍنضـــباط ، و هي تحكي تواريخ الغبار و الطحلب و الصمت .. و كثيرا ما أحتــــذتْ بهذا الوقـــوف الشامخ كتائب الجند في تلك النواحي ، حتى صــار التعلمجيّة يقولون لمجّنـــديهم قفــوا كما السبيل ..!
الســــبيل يروي ظــــمأ العـــذارى ، دون أن يمارس الحــزن :
يقـــف السبيل ، في موقفه النبيل ذاك ، و يروي ظمأ العــذارى ، دون أن يمارس الحزن أو التمرد .. فلقد كانت بنات الحارة ، مثل غيرهن من بنات الدنيا كافة ، تنبض قلوبهن بالحــب ، حب الرجال طــبعا ، و يمارســن الشـــهيق المكتــــــوم ، كلما ترجرتْ تفــاحة اَدم أحـــدهم بالكـــذب المنمـــق .. تنهل البنات فــرحا في بداية الحب ، ثــمّ تأكـــل قــرضــا في نهايته و عندها يقــدم الســـبيل مافي جـــوفه ، ليبلّــل مرارة الفــراق الشـــين ..! تقـــفْ البصـــات العتيقة بالقرب منه ، لينزل النازل و يركب الراكب .. غالبا ما تكون النازلة فتاة عـــذراء ، تشــرب من ماء ذاك الســـبيل و تقرأ في جرعات الشـــربْ تلك مـوعـد حبيبها في ذاك المســــاء أو المســـاء التالي .. و في نفس الوقت ، غالبا ما تكون الراكبة فتاة عذراء قابلتْ حبيبها عند ذاك الســــبيل ، فتبـــادلا قليلا من مقالات الحب المقتضـــبة ، التي كثيرا من العتاب ، الذي يهتم كثيرا بتـــأزيم البنات أزمة ما بعدها أزمــــة ..!
ما قالته وداد / حينما واعدتْ حبيبها بالقرب من ذاك السبيل ، و حينما صــار محطــة ، عــلامة في درب المواصـــلات ....الخ :
حينمـــا قرر الفـــرح أن يســـهو طــويلا عن نبض الحارة ، جاءت وداد .. نســـجتْ تفاصـــيل تلك الســـهوة الطويلة بأحــاديث ذات نكهــــة نفّــــاذة تشبه نكهة الشمار الأخضـر المريض ، فصــارت أهل الحارة تنادي النميــــمة الطــازجــة بالشــمار ..! تعبتْ وداد ، و تعبتْ منها عنـــوستها الفجّـــة .. حدثتها العذروات الأقل منها ســنا – هذا طبعا بيني و بينك – بأن الوقـــوف بالقرب من ذاك الســـبيل يعـجّــــل بحضــور النصيب .. فاستشارتْ وداد الفكي اســـحق الغرباوي ، الذي أشـــار عليها بلبن الطير و جنح ذكر الناموس و جلد الضب الأعــور .. و الوقـــوف بالقرب من السبيل ..! في تلك اللحظة ، لعنتْ وداد ، في ســرها ، من أخترع حيلة الفكي تلك في تأريخ الحارة .. تبّين لوداد ، أظن ذلك فيما بعد ، أن الفكي هو عبارة عن شخص له من الذكاء البسيط ، ليؤلف حيلة يسهل تصـــديقها من قبل و الحيارى و الذين أو اللائي فاتهن قطــار النصيب العاير .. و لمنه أصبح مؤسسة خطيرة الشـــأن ..! ذبحت وداد ديكا أحمــر و تبّـــلته بالتوابل الشهيّة ، وقدمته للفكي اســحق الغرباوي ، لكي يأتي النصــيب .. ! في الواقع ، في المرة الأولى ، تأخـــر ذاك النصيب ، ولكن حينما وقفتْ سبع مرات جـــوار السبيل ، جاءها من خلف الحارة يترنح ســكرا و هذيانا ..سمته وداد حبيبها .. و تخليدا لتلك الذكرى ، أصــّرتْ على حبيبها على أن يواعدها قبل أن يلتقيها ، شــرطا أن يكون المعياد على السبيل .. و على ذاك السبيل أدّتْ وداد قســم الولاء ..لقلبها اولا..و لحبيبها ثانيا .. و لسبيلها ثالثا..و صــارتْ تقســم باٍسم المحبوب ســرا ، و باٍسم السبيل جهرا ..! و لقد كانت وداد تلك ، تدخرْ بعضا من المال ، اْنتظــارا لقدوم النصيب ذاك .. و حينما أتي ،وهبته ما عندها من مال مدخر ، فأشـــترى به بصـــا عتيقا ، صار يدب في تفاصيل الحارة ، التي قررتْ أن تمارس الفرح و البهجة مع وداد ، بالتمدد و التمدد غربا ..! صــار البص يمارس الدبيب بمتعة غنية التفاصيل .. على خديه كتبت عبارة " امدرمان – السبيل –امدرمان " ، و على قفاه كتبت بعض من عبارات الأغاني ، ثم عبارة " محبة في السبيل" بخط متعرج المسالك ، تبدو حروفه متراقصة كفراشات اكتشفت فجاءة وجــود اللهب .. و على وجهه ، أمام مـــراَة السواق مباشرة ، كتبت عبارة " يا ناس يا عسل ..النصيب وصل"..وكل ذلك قبل التأصيل طبعا .. أما بعده ، ظهرت بجانب عبارة العسل تلك، عبارات جديدة ..مثل .. الفردة دي للــــه ..المحطة دي للـــه .. و المصطفى مني ليك ســلام ..!
كان لذاك البص مزاج عجيب .. فهو ينهز بنشاط ، و عندما يأتي الى السبيل يحرن بصـورة مزعجة و يقف تماما عن الحركة ..! قال النصيب ، متشــكيا ، لوداد : لا أدري لماذا يصــر هــذا البص على التوقف في هـذا المكان؟ تســـاءلتْ وداد ، في ردها الممزوج بالدلال الفتان و اقصـى حالات الغواية الممكنة ، قائلة: ربما أعجبه المــوقع ..! ثــمّ ضــحكتْ و مطتْ ضحكتها ، حتى أجبرتْ نصيبها على الضحك ، فضحك ، وتحت التحت ضحكت الحارة أيضــا .. و صــار الســــبيل محــطة ، علامة في شارع المواصلات ، اٍشـــارة في درب المحبّــــــــــــة ...!!!
محمد النور كبر أيلـــول 2003
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الســــــبيل : ســــــرد ... | Kabar | 10-09-04, 01:17 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | سجيمان | 10-09-04, 03:19 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | Kabar | 10-09-04, 03:52 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | توما | 10-10-04, 12:06 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | Kabar | 10-10-04, 03:33 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | Kabar | 10-11-04, 07:34 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | yasiko | 10-11-04, 09:08 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | newbie | 10-11-04, 09:46 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | Kabar | 10-15-04, 09:18 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | Kabar | 10-15-04, 09:21 PM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | yasiko | 10-23-04, 09:15 AM |
Re: الســــــبيل : ســــــرد ... | Kabar | 10-25-04, 09:14 AM |
|
|
|