|
أبكي ، كبكي ، شّلالو يبكي ، نقوش علي جدار الذاكرة
|
أستاذنا/ عمر أحمد طه أتى بفرشاته ونقش على جدار الذاكرة ورسم لوحة في منتدى kidin2 أي بطن الحجر ويشتهر بأرض الحجر وهي قطعة حبيبة من أرضنا النوبية .
وأستاذنك يا عمر في أن أهدي هذه القطعة للعزيزين شرنوبي ومنان
أبْكي ، كبْكي ، شلاَّلو يبكي طيلة الأعوام الماضية كنت أرفض فكرة نشر هذا العمل أو بعضاً منه من خلال الإنترنت قبل ان يتم نشره بين دفتي كتاب (كما آمل ذلك في القريب إن شاء الله )، حيث رفضت عرض أخي أبوبكر سيدأحمد وإبن أختي عثمان محمّد صالح وآخرين ، أكثر من مرّة . لكنني أفعل الآن ما رفضته سابقاً بعد قناعتي بوجهة نظرهم هم وآخرين أيضاً أذكر منهم الإخوة مكي علي إدريس وخليل عيسي ومحمّد زمراوي والإخوة في هذا الموقع النوبي (كدن تو) وعلي رأسهم الأخ عوض سالي فلهم الشكر والإمتنان ، وآمل أن يجد الجميع شيئاً في هذا العمل الذي أسميته ( أبكي ، كبكي ، شلاَّلو يبكي ) نقوش علي جدار الذّاكرة . والجزء الأول من العنوان مقولة أطلقتها طفلة إسمها فاطمة عثمان حامد وهي إبنة مؤسس الطريقة البرهانيّة بالسودان وشيخها الأول ، وقد أطلقت الطفلة مقولتها علي المكان حينما قدمت إليه لأول مرّة من السودان حيث كانت تقيم مع أسرتها الصغيرة بالخرطوم عند مطالع القرن الماضي . وابكي بلدتي وبلدتها التي جاءتها لأول مرّة في موسم الدميرة تقع جنوب مدينة وادي حلفا بعشرين كيلومتراً بالتمام والكمال في أرخبيل هائل من الجزر الصخرية في معظمها شكّل مجموعة ضخمة من الشلاَّلات أعظمها علي الإطلاق شلاّل ( أرِّي دُنقي ) أي الشلاَّل الثاني في منطقة تعدُّ من أجمل المناطق علي إمتداد النيل من منبعه إلي مصبِّه ( علي الأقل في تقديري الشخصي ) . أما كبكي فهو شاطئ من شواطئ أبكي المتعدّدة ويقع في تنون أمن في أقصي غرب أبكي ، أما عبارة شلاّلو يبكي فهي كناية عن أصوات شلاّلاتها التي تشبه البكاء . صارت العبارة مقولة يرددها أهل أبكي والزائرين لها علي مر الأيام والسنين حتي قيَّض الله لأبكي وإخواتها من البلدات مع حاضرتها ودرَّة مدائن السودان بالغرق والإختفاء تحت مياه السد العالي . ولقد أسميت هذا العمل بهذا الإسم كون كل أحداثه تدور في ابكي وبين ربوعها وأهلها الذين سميتهم بأسمائهم الحقيقيّة ، ويمكن للجميع أن يتخيَّل هذا العمل وما فيه من شُخوص وأحداث تدور في بلدته الصغيرة ، فكل البلدات في النوبة بل في السودان كلّه تتشابه . آمل أن يكون في هذا العمل بعضاً مما يفيد الناس وشكراً لكل من يُمضي وقتاً في قراءته ، وشكراً للإخوة في (كِدِنْ تُو ) لهذه الفرصة ، وبالمناسبة هي بطن الحجر وليس أرض الحجر فارض الحجر في النوبيّة هي ( كدن قُر) .
نحن الآن فوق جسر خور (موسي باشا (يا صديقي .غير بعيدٍ أسفل المكان ترقد جزيرة (جِنِسَّاب) ، (1) الوارفة الظلال من غابات النخل والبساتين وأشجار السنط والطلح والحراز ، خُضرةٌٌِِ حفّها البحر من كل جانب , علي شاطيء ال(ساب) (2) من الجزيرة ، حيث تتلاشي دوّامات المياه المنفلتة من صخب التيّار الراكض شمالاً في عمق مجري النهر، كي تبدأ دورتها اللانهائيّة من عمق النهر من جديد، تسترخي المياه الضحلة، فتجد أسماك البَرَد والقرموط الكسلي مرتعاً خصباً لها بين شجيرات الطرفة (مُور) ومستعمرات نباتات ال (تَنُّوم)(3) والتي كانت الأرانب البريّة في فصل مضي تقيم بيوتها بينها وتحت دروبها ، قبل أن ترتفع المياه وتغمرها . وقد أصبحت هذه الشجيرات وتلك المستعمرات ملجأً وملاذاً آمناً لأسماك السالمون الصغيرة، الهاربة من وحشيّة وإفتراس الأسماك الكبيرة من البياض والعجل والقرقور، التي تتسيّد المياه العميقة في عمق مجري النهر ، تغزو تجمعات الصير (4) الضعيفة وتبتلعها محدثة فرقعات (دقشو) هنا وهناك، فتقفز الناجية منها عالياً فوق سطح الماء ، تلمع جسومها الصغيرة تحت أشعة الشمس مثل قوس قزح فضي ، تطير لمسافات في الهواء قبل أن تسقط في المياه الضحلة هرباً بحياتها ، فتقع في شباك الصبية والبنات ، المؤلّفة من الطرح الملوّنة وال(فجك) (5) وشباك سعف النخيل . مسكينة هذه المخلوقات الصغيرة الضعيفة ، تهرب إلي الشاطيء الضحل غير مدركة أنها إذ تفعل ذلك فإنّها تهرُب من فك كي تقع في فك آخر . علي الشاطيء تصطف أشجار السنط والطلح والحراز الضخمة ،محيطة بالجزيرة مثل قلاع نوبيّة قديمة ، تبين غرقي في المياه التي تكون في أعلي إرتفاع لها في مثل هذه الأيام من أشهر الدميرة . وتعبق مياه الساب الباردة الظّليلة ، بعبق أزهار البرم ورائحة حلقان الخرُّوب الذهبيّة اللون (6) المتساقطة فيها، بينما يتواتر إلي الآذان بين الفينة والأخري، أنين ساقية تشتكي طول دورانها و معاناتها . أما إلي الأعلى قليلا، فتحيط ببيوت الجزيرة وحقول الذرة، غابات النخل وبساتين أشجار المانجو والليمون والبرتقال ، حيث يتنفّس الزائر للجزيرة شذي و عبير أزهار البرتقال والليمون واللارنج ، ثم لا يلبث أن يشتمّ رائحة أزهار دنق الباشا(7) من أشجار اللبخ والجميز الضخمة التي تنتشر في الساحات و أمام البيوت . بيوت الجزيرة، يغلب علي معمارها الطابع النوبي ، المتميّز بحيطانه العالية من جهات البيت الأربعة ، وواجهاته المرصّعة بأطباق الصيني المُشكّلة بشكل صلبان مسيحيّة ظلّت في اللاوعي النوبي علي الرغم من إنتقالهم إلي الإسلام منذ عدة قرون درءاً للعين والحسد ، والمزدانة بالنقوش والرسوم التي تمثّل إمتداداً لفن الجداريّات الذي أُشتهر به النوبيون علي مر التاريخ . هذه جنساب ، لوحة أبدعها الخالق و رسمتها يد الإنسان ، كأنّها قطعة من الجنّة تركتها يد الرّبُ هنا . إسمها مطابقٌ لحالها فهو يعني شاطيء الجنّة . من هنا وحتي مشارف سكّود (8) تمُسك سلسلة جبال (الأتمور) بحواشي الأرض ، تحاصرها وُتضيّق عليها الخناق ، تدفعها نحو البحر حتي تكاد تغرق فيه أو تغرق أحياناً . وعندما يلين قلب الصخر وتبتعد سلسلة الجبال قليلاً ، تُولد الحياة من رحم الصخر وبطن الحجر فيخرج الحي من الميت ، وتقوم القرى والبلدات في واحدة من أقدم الأماكن التي نشأت بها الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ . إنها بطن الحجر(9) ، عمق بلاد النوبة والتي إزدهرت بها حضارة أبكا (10) في حوالي الألف السابع قبل الميلاد ، مع بداية العصر الحجري الحديث . ولكن من هو موسي باشا هذا ؟ يسأل صديقي . يُقال أنّه (موسي باشا حمدي ) أحد حكمداريّي الحكم التركي في اواسط القرن التاسع عشر ، كما يُقال أنّ موكبه الأميري قد مرّ من هنا ذات يوم وهو في طريقه إلي السودان . نسير جنوباً في طريق جبلية ، ترتفع مرة وتنخفض أخري ، فإلي الجنوب قليلاً تجاه البحر تكون بلدة (شارتي) . خرجت من أحشاء الصخر ومسام البحر نتيجة عشق و هيام بين البحر والجبل لعقود وعقود سحيقة ، يحتوي فيها البحر الجبل في كل مرة علي إمتداد الحقب ثم ينحسر عنه بعد ان يترك علي صفحته بصمة الأزل ، وهكذا حتى كانت (شارتي) سليلة البحر والجبل . سلامُُ جنساب ، سلامُُ شارتي ، سلامُُ آل شبكا ، سلامُُ حسن داريا ، سلامُُ ياسين . نجدُّ في المسير جنوبا قبل أن ترتفع الشمس ، نصل كُرباج دُلِي ( بسطان إركي) (11) فيقترب منا البحر أو نقترب نحن منه ، حيثُ يصلنا صوته هادراً في مسيره السرمدي نحو الشمال ، ينحت مجراه في الصخر في صبر وأناة ، يهب الحياة للأرض والإنسان منذ عصور وعصور و تقوم علي جانبيه حضارات وحضارات ، وتنشأ فوق واديه مدن وبلدات ، يذهب من ربوعه أقوام ويجيء إليها أقوام آخرون ، يصنعون الحضارة فوق جنباته علي مر العصور ، من (أبكي) إلي (شمرك) (12) ، ومن (كرمة) إلي (نبتا) و(مروي) ، ومن (فرس) و(دنقلا العجوز ) إلي علوة وحاضرتها سوبا ، ضحيّة تحالف الفونج والعبدَلاب وصنيعتهم عجوبة . (13) و تُلهب ظهر النهر سياط أشعة الشمس اللاهبة المُحرقة ، فيلهث في جريانه شمالاً، في سباق معها ومع رمال الشاطيء العطشي ، كي يصل إلي مصبّه دون خسارة كبيرة من الفاقد المائي بفعل التبخُّر والتسرُّب . (بسطان إركي ) إسم علي مسمًّي ، فهنالك أماكن تقنعك منذ الوهلة الأولي أنّها لم تكن لتستحق أكثر مما أُطلق عليها وسُميّت بها ، فالمكان لايتسع لأكثر من منزل صاحبه وبضع نخلات أسفله علي الشاطيء الرملي المفرط في الضيق ، والذي لا يبخل علي المكان ببعض نباتات (الهمبرتي) أيضآ . (14) والبحر هنا تمزّقه وتتقسّمه الجزر الصخرية وبعض جزر نباتات ( الهكود) (15) وهي جزر عائمة . هذه بسطان إركي ، وهي حقيقةٌ إسمُُ علي مسمي فالمكان لا يتّسع لأكثر من صاحبه . ننحدر من الطريق العالية تجاه منزل بسطان العائد من البحر في هذا الصباح، يحمل ما تيسّر له من السمك ، مصدر الرزق الوحيد له ولأفراد أسرته .
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أبكي ، كبكي ، شّلالو يبكي ، نقوش علي جدار الذاكرة (Re: ولياب)
|
ياولياب
اومروو (عمروو) بن فانة ( الله يشفيها لينا وللجميع) اصغر مني بعدة اعوام و طلعونا من حلفاوابكي(عبكة) وانا عمري 14 سنة فعليك انت تتخيل كيف حفظت ذاكرة طفل _عمر_ كل تلك التفاصييل...لابكي حضور في ذاكرتنا عجيب انا عشت فيها 4 سنوات وتركت في ذاكرتي اشياء كثيرة ...ولفيصل وجعفر وهما اصغر من عمر اشياء كثيرة في ذاكرتهم ..بعض الاماكن تبقي مرسومة في خلايانا وابكي كذلك
شكرا للاهتمام
مودتي ابوبكر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أبكي ، كبكي ، شّلالو يبكي ، نقوش علي جدار الذاكرة (Re: ولياب)
|
اولا شكرا يا ولياب على الاهداء الجميل
ثانيا: بين يدى هذا السفر الذى احاول ان اجعل منه محور ارتكاز لشحذ الذاكرة.. وكتاب آخر اسمه هجرة النوبيين لحسن دفع الله الترجمة العربية.... بعد محاولة الكتابة عن الحلم النوبى قبل شهور فى هذا الموقع وجدت ان ذاكرتى اصابها بعض التكلس والتصدع... فى محاولة رسم خارطةالارض المغمورة بمياه السد.. اتذكر رحلة السفر وانا طفل من حلفا الى السكوت بعربات ابو اربعة... فى بعد سحيق من الذاكرة تتراى المواقع... وجدت فى السفر الذى تعرضه صدى وارجاع لمواقع كانها السراب..
ثالثا: واصل فى النشر انها وليمة غنية للتداول وشحذ واستفزاز علنى وتحريض للقراءة الملتزمة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أبكي ، كبكي ، شّلالو يبكي ، نقوش علي جدار الذاكرة (Re: ابو جهينة)
|
Quote: بيوت الجزيرة، يغلب علي معمارها الطابع النوبي ، المتميّز بحيطانه العالية من جهات البيت الأربعة ، وواجهاته المرصّعة بأطباق الصيني المُشكّلة بشكل صلبان مسيحيّة ظلّت في اللاوعي النوبي علي الرغم من إنتقالهم إلي الإسلام منذ عدة قرون درءاً للعين والحسد ، والمزدانة بالنقوش والرسوم التي تمثّل إمتداداً لفن الجداريّات الذي أُشتهر به النوبيون علي مر التاريخ . |
فن الجداريات مدرسة نوبية أخرى من عمق التاريخ
| |
|
|
|
|
|
|
|