|
ارهابى صغير مع نزار قبانى فى عروس الرمال..
|
فى مطلع سنوات السبعين من القرن الماضى جاء الشاعر نزار قبانى زائرا للخرطوم وتركت تلك الزيارة فى نفسه اعجابا وتقديرا لا حد لهما للسودانيين كاناس يحبون الادب ويتذوقون الشعر العربى ويعرفون قدر المبدعين حتى ولو جاءوا من خارج الحدود..ولربما كان هذا الانطباع البالغ فى الود رد فعل لانطباع سلبى قديم .
من الخرطوم سافر نزار للابيض -عروس الرمال- ليحل ضيفا على المرحوم الفاتح النور صاحب جريدة كردفان .كان الفاتح النور على اتفاق ودى مع جهات الاختصاص فى جامعة الخرطوم ووزارة الاعلام ووزارة الخارجية وغيرها يمكنه من دعوة واستضافة المفكرين والادباء والزائرين للسودان وادخال مدينة الابيض فى برنامج زيارتهم..رحم الله الاستاذالفانح النور فقد كان متقدما فى تفكيره على عصره .
كنا صبية عشرة قليلى الحظ من المعرفة ..لاتعرف ادمغتنا المغسولة عن نزار سوى انه شاعر من بلاد الشام يكتب الشعر المثير للرغبة والشهوة وينتمى لجماعة تهدف لمحاربة الاسلام وافساد الشباب..وانه من الواجب الدينى محاربة نزار الزنديق والتصدى له فى كل مكان .هكذا قالوا لنا وهكذا كلفونا بمهمة -جهادية- خاصة اسهبوا فى شرح تفاصيلها لنا ..فى اليوم الموعود حضرنا مبكرين لساحة مدرسة الابيض الثانوية التى ستستضيف لقاء نزار وجلسنا فى اماكن متباعدة تغطى كل المكان ..اخترت لنفسى مقدمة الصفوف بوصفى قائد المجموعة - الجهادية -الذى ستنطلق منه اشارة البداية..كان على الاستماع بانتباه شديد لنزار حتى اذا ما رايت خروجا عن النص اهب واقفا واركض نحو المايكرفون واحطمه..واذا ما لمست اى مقاومة من نزار اعاجله بطعنة خاطفة من سكين التى احسنت دسها وسط ملابسى ..ثم يقوم كل واحد من التسعة الاخرين بدوره فى اثارة الفوضى والذعر فيتعذر مواصلة الحفل الشعر ويضطر نزار للمغادرة ايثارا للعافية والسلامة ان قدر له ان يفلت معافى بعد تلك الليلة -وكانت التعليمات الحاق الاذى به بقدر الامكان -وبهذا تعلو راية الدين عالية خفاقة فى مدينة الابيض بعد رحيل نزار ..هكذا اكدوا لنا وان ثوابنا مضمون دنيا واخرة..
جلست وانا مدركا لحجم المسئولية التاريخية الملقاة على عاتقى وانا وحدى ساكون الحكم على شعر نزار وانا الذى اقرر ان كان كان ماقاله نزار خروجا عن النص ام لا..ولم ادرك انذاك بصغر سنى عبثية الموقف .جلست فى مقعدى وتحسست التى الحادة وانفاسى تعلو وتهبط ودقات قلبى اصبحت اكثر سرعة..
فى نهاية الحفل وقفت اصفق فى حماس شديد تحية لذلك الرجل كثير الروعة وهرعت مع الاخرين لمصافحته وكان لى ذلك بعد جهد جهيد ثم وقفت بجانبه فى اصرار متحينا الفرصة حتى ابيح للرجل الضخم والعملاق جسدا وابداعا بسرى الخطير فى كثير من الشجاعة والبراءة ..احتضننى نزار فى ابوية مؤثرة وهو يضحك بصوت عالى اثار فضول الواقفين ثم انتحى بى جانبا وقال لى بنفس الابوية والحميمية انه طوال حياته يتعرض لمثل تلك المواقف التى تفاوتت درجات العنف فيها ..وحكى لى واقعة معينة حدثت له فى عام 1954م عندما كان فى بداية عمله الدبلوماسى ..تعرض لحملة عنيفة من بعض المهوسين تطالب بفصله من الخدمة لانه - حسب اعتقادهم- انحرف عن العقيدة وخنت بلادهم واصبحت عميلا لاجهزة الاستخبارات ..كان نزار قد انتقد فى احدى قصائده من اسماهم الكسالى والمساطيل وراقصى الزار والدراويش واكلى البزر والقضاضة وبلغت هذه القصيدة المجلس النيابى فى سابقة لم يشهدها برلمان فى العالم وانبرى الشيخ مصطفى الزرقاء النائب عن جماعة الاخوان المسلمين يطلب من وزير الخارجية خالد العظم طرد نزار من الخدمة واحالته للجنة تاديبية ثم قام بتلاوة القصيدة على المجلس ..وكان الشيخ الزرقاء فصيح اللسان رائع الالغاء جهورى الصوت فاضاف ذلك للقصيدة -دون ان يقصد الشيخ بالطبع-روعة شديدة واكسبها حلاوة وسحرا..وما ان انتهى من القصيدة حتى دوت شرفات المجلس بالتصفيق الحاد استحسانا للقصيدة الجميلة والالقاء المعبر المؤثر فعاد النائب الى مقعده مخذولا مهزوما ملوما ومحسورا وخسر اولئك النواب الجولة ولكنهم لم يلقوا سلاحهم وسعوا للالتفاف حول قرار مجلس النواب وعادة الالتفاف عادة قديمة لديهم فى كل مكان -ذهبوا لوزير الخارجية فى مكتبه وجددوا طلبهم بابعاد نزار من السلك الدبلوماسى فاحضر الوزير ملف نزار قبانى الوظيفى واخذ يقلب صفحاته وطلب اليهم ان يطلعوا على الملف .ثم قال لهم ان صفحات الملف تؤكد ان نزار قبانى الموظف من خيرة الموظفين فى الوزارة ولا سبيل لفصله من الخدمة واسترسل الوزير قائلا -ان نزار قبانى الشاعر قد خلقه الله شاعرا ولا سلطان لوزير الخارجية او لاى مخلوق اخر على شعره ولا على موهبته التى منحها له الله سبحانه وتعالى. والذين تامروا لمصادرة نزار قبانى فى الشام هم نفس الذين تامروا عليه فى السودان -نهج تفكير واحد رغم اختلاف الزمان والمكان ..ولكن بقى وسيبقى نزار قامة شامخة من قامات العصر الى ان يرث الله الارض ومن عليها..ان من يسعى لحجب نور الشمس باصابعه لن يفلح ومن يبصق على السماء لابد ان يرتد بصاقه الى وجهه -هذه هى قوانين الطبيعة..
كانت رحلة جميلة لعروس الرمال استمتعنا بزيارة التحف القيم المهمل-متحف شيكان -وتعرفنا على اخوة كرام -ال ابو شام اول من ادخل الصناعة فى الابيض -وال المصرى وساحرهم هاشم وجده الرضى سر تجار وشاهبندر رجال الاعمال بالابيض-والاستاذ يس خضر النور ودفع الله الحاوى-وال الاستاذ حسن ادريس -وحامد احمد على -ولم ننس طقت الفيحاء..
كان الحفل رائعا فى الابيض الثانوية وكان نجم الحفل الطالب ميرغنى عبد الله مالك وابدعت فرقة جاز بوليس الابيض بقيادة الراقص الطاهر فى رقصته الاستعراضية -سايكولوجى-
كان تدمير مكتبة الشعب لصاحبها -عبد الله الحيوان -من ضمن مهام بعثتنا -الجهادية-وحذرونا ان نتحاشى اللقاء بقمندان المديرية واظن ان اسمه محمدين ..
وكانت لنا ايام راحت ومضت مع الايام ..
|
|
|
|
|
|