|
غازى صلاح الدين يعترف بفقر وضيق رؤية الاخوان
|
.. في انقسامات الحركة الإسلامية
غازي صلاح الدين*
فكرة هذا المقال جاءت بتحريض من الكاتب الصحافي حسن ساتي، بعد أن ألقى بكرتها ملتهبة في وجهي بلندن. وهي ليست كلمة جامعة مانعة في شأن هذا الموضوع الشاغل، بل هي مضغة مخلقة من أمشاج حديث وتعقيبات تداولناها لم تستو مولوداً بعد. فمن رأيه أن الانقسامات التي شهدتها الحركة الإسلامية في السودان جديرة بالبحث، ليس من باب الوقوف عندها كحدث خبري تتوسل لتغطيته الأجهزة الاعلامية فحسب، وإنما كحالة تمتد في قراءاتها ونتائجها إلى استكناه ما لحق بالتقاليد والآليات المسيرة للعمل الإسلامي في السودان، الذي كان قد سجل سبقاً ونجاحاً مشهوداً له; وإلى استطلاع نتائج هذا الحدث على مستقبل السودان، باعتبار أن تجربة الحكم القائمة فيه تهيمن على سياقه. وهو يرى أن الحركة الإسلامية تلبست بجرم التشرذم والانقسام على كعكة السلطة فقط، وليس على معالجة مصطلح الخطاب ولا مبادئه ومضامينه. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع تلك الملاحظات، فالذي يتثبت لدي في هذه القضية الشائكة، هي أنها برمتها مندرجة تحت لافتة أخرى أعرض وأشمل هي (الإسلام والحكم)، والتي أرى أنها تمر بمخاض صعب وامتحان عسير. ذلك أن المنطلق والمبرر الأساسي لحاكمية الإسلام تقوم على ركيزة أنه وحين يحكم، فلا بد له أن يحكم بقيم رصينة وعالية وتقاليد عمل فاعلة، تؤهله للتصدي لتحديات الحداثة والتغريب. ومن هنا لقيت الفكرة قبولا واسعا اتخذ عناوين شتى مثل الصحوة الإسلامية، والانبعاث الإسلامي، والتجديد الإسلامي. ثم ما لبث أن ترسخ هذا المد الاجتماعي قناعات لدى مجتمع المسلمين في بلاد كثيرة، وإن غلب عليه المنحى العقدي والسلوكي ولم يأخذ بالضرورة الشكل التنظيمي، فعاد الإسلام رمزاً لكبرياء الأمة، وطرح نفسه نظرية ومنهجاً يستعاض بهما عن المستوردات الغربية والشرقية. وإلى ذلك أخذت هذه المفاهيم تجلياتها بأشكال متفاوتة في فلسطين، والأردن، ومصر، وباكستان، وإيران، والعراق أخيرا مع تداعيات أزمة الخليج الأولى. ومن هنا فوجود الحالة السودانية في هذا المشهد ليس استثناء، بقدر ما هو تجسيد متفرد لها بتجليات مختلفة أخذت بعداً تنظيميا وعملياً. ولكن المشكلة التي ظلت تواجه الإسلاميين، ويستوي عندها إسلاميو السودان مع غيرهم، جاءت من تفاوت النظر حول تطبيق المنهج الإسلامي في واقع معاصر، فكان أن أدى ذلك إلى حراك داخلي على مسائل فرضها ذلك الواقع، مثل المواقف من جملة قضايا معاصرة غلابة كالديموقراطية، والحريات، والمرأة، والعدالة الاجتماعية والأقليات ...الخ. ولنا أن نذكر هنا أن الخصوصيات التي تميز الحالة السودانية من واقع تعددية السودان واتساعه وتاريخه وجغرافيته، قد وسعت بدورها من فجوة موجودة أصلا في كيفية التعامل مع تلك القضايا. ومن هنا أيضا، كان لا بد لذلك الحراك وما يستتبعه من مستحقات مثل المدافعة في داخل التنظيم الإسلامي أن يأخذ تجلياته في شكل مواقف سياسية من هذا الناشط أو ذاك، أو قل من هذه المجموعة أو تلك. وهنا لا بد من وقفات تجاه جدوى وتقييم مثل تلك المدافعات التي تمليها ضرورة العمل السياسي، إذ ليس الأمر وقفا هنا على الحركة الإسلامية، وإن كانت طبيعة التحديات فيها أكثر حدة من الفئات والأحزاب السياسية الأخرى، بحكم تدافع الأشواق والاحتكاك اللذين صاحبا العراك والجدال في الهوامش التي تولدت من المواجهة بين الخطاب والممارسة، بين المضامين والمواعين. أول تلك الوقفات يتعلق بتفاوت النظر والتقييم لذلك الحراك بمدافعاته بصورة موضوعية وإيجابية تمكننا من رؤيتة كعنصر ايجابي، يتقيد بما أسميه السماحة الداخلية، وبين نظر آخر، يمكن أن تغيب عنه السماحة الداخلية فيلجأ إلى آليات غير آليات المدافعة السلمية فيؤدي الأمر الى انشقاقات. الحراك مطلوب لأنه ضد السكون، ولأنه يحدث نقلات ضرورية على صعيدي الفكر والعمل السياسي، والنقلات لا تحدث مع السكون والتكلس. لذلك فإنني لست ضد أن تكون هناك اختلافات، بقدر ما أشدد على ضرورة أن يكون التعاطي معها سلميا، وأن يتوافر معها قدر من قبول الرأي الآخر. وإذا ما عدنا إلى الذي حدث في الحركة الاسلامية، فالبين أن المدافعة السلمية لم تستوف الشروط، فقاد الخلاف إلى المشاققة فالمفارقة. وما هو واضح أيضا أن الاستجابات تجاه المدافعة السلمية ليست صحية لا من قبل القيادة في الغالب، ولا من جانب الصف العام في بعض الأحيان. والغرابة تكمن في أننا كأنما لو كنا أمام تجربة لم تترسخ فيها بعد تقاليد عريقة وأدب واضح من ثقافة الاختلاف والمدافعة السلمية. لكن المقلق حقاً هو أن الحركة الإسلامية كانت لها، قبل أن تتقلد السلطة ، تقاليد شورية داخلية تتسم بالكثير من السعة والقبول بتعدد الآراء، فيما ضمر مثل ذلك التقليد لاحقاً، وهذا في ذاته هو أحد الهواجس الساخنة التي يحملها كثيرون الآن، وقد تجلت مؤخرا في شكل اتجاهات فكرية متعددة انكفأت على تقييم تجربة الحركة الإسلامية في السلطة، ومقارنتها بالمثالات النظرية المعتمدة والمستقاة من تاريخ الحضارة الإسلامية. وإذا كانت من ملاحظة أخيرة في هذه السياقات، فهي أن هناك قناعات قوية متنامية بأن تجربة السلطة قد اختصمت من عطاء الدعوة والفكر. وقد تكون اختصمت أيضاً من مرونة التشكيلات التنظيمية المستوعبة لتيارات المجتمع الحيوية المتجددة، الشيء الذي كان يعطي الحركة الإسلامية دائما ميزة تفضيلية على الحركات السياسية المعاصرة حتى اليسارية منها. ولا يعني ذلك التقليل من مركزية السلطان في الفكرة الإسلامية المعاصرة، أو عدم الاعتراف بحيوية السلطة، فهي مهمة، ولكنها وحدها، وفي غياب الآليات الأخرى، يمكن أن تحيل التجربة إلى مغامرة سلطوية أخرى في العالم الإسلامي، لا تقدم مفيداً على صعيد التجديد الفكري والثقافي، الذي هو لازمة لتثوير وجدان المسلم المعاصر وتقويم استجاباته لمستحقات الحداثة. بمعنى آخر، إن المراهنة الكاملة على السلطة وحدها قد تعني الإفلاس وانهيار المشروع برمته في حال ضياع السلطة، وهو المحذور الذي لا يؤتمن ولا تؤمن بوائقه. * الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بالسودان سابقاً
|
|
|
|
|
|