|
Re: المواسم - قصة (Re: Ehab Eltayeb)
|
● موسم المعاناة ياضيفي ، وحينما تمضى قوافل تلك الأيام الزاهرة ، وتتبدل معالم الفصول ، ويولى موسم الخريف , وتبدأ أغصان أشجار الحراز في الاخضرار وتكتسي بالأوراق ، معلنة للملأ انتهاء فتر الحزن والحداد ..وتختفي من فوق هامات الشجر، الفراشات الملونة , و ذنانين ((الجمال)) و((الغنم )) و((البقر)) ، ويجف العشب , وتجدب الأرض , وينحسر ماء النهر بين الضفتين ، وينطلق الإعصار بغتة آناء النهار ودون سابق وعد أو إنذار ، من فوق تلك التلال المحيطة بالقرية والسهول ، أو تلك الأرض الزراعية البور، ثم يغشى منازل القرية و يثير فيها سحابة من الغبار,أو يمر بالحقول ويراقص الأشجار.. ويتجه الأعراب ببهائمهم صوب النهر، وتشدّ الطيور وعصافير الخريف رحالها إلى عالم مجهول.. حينئذ يا بني, تتلاشى الضوضاء ، و يخيم السكون على كافة أرجاء القرية, و تبدأ مسيرة الحياة تدب في إيقاعها الرتيب , يزول عنها ذلك الوهج و ينطفئ البريق , وتتقلص تلك الحياة الرحبة و تتحور كالشرنقة ، ثم تدخل في طور الكمون، والسكون ، وفترة البيات الشتوي ... ويذهب زبد تلك الأيام جفاء , وتمكث المعاناة على سطح الأرض , ويشرق وهج الشمس في كل العقول , و تومض الرؤى ساطعة فوق أفق الحقيقة .. فهاهو موسم الزراعة و العناء قد أطلّ من جديد ، بكل ما يحمل لمعشر هؤلاء المزارعين الكادحين , من كد وجهد وصبر ومثابرة و معاناة .. وهاهم الآن يستقبلونه وقـد أصبحت الجيوب خاوية على عروشها ، أما القطا طي والخنادق ، و تلك الدور التي كانت في موسم الحصاد مليئة بالمحاصيل ، قـد نضب معينها و جف ، وعند مداخل أبوابها تدلت خيوط العنكبوت .. حينئذ ياضيفي ، في هـدأ الليل , و فلق الصباح , و وهج النهار , و ايذانا ببدء موسم الزراعة , تلتقط أذناك أصوت طقطقة المكنات وهي تسوق الماء من النهر إلى الأرض العطشى ، و تارة تسمع نواح الثيران الجرارق وهي تغرس محاريثها في أحشاء أرض الجروف الخصبة ، و أخرى يصم أذنيك أزيز التراكتورات وهي تقطع و تـقـلب و تقصب الأرض البور قبيل بدء زراعتها ... أما الكادحون من عامة الناس، و قـد شحّ الكاش وعمّ الإفلاس ، فقد باتوا يتحدثون في سخط و قـد هالهم ما هالهم تبدل إيقاع الحياة و أضمحلالها.. فأصحاب التراكتورات فاجؤوا معشر المزارعين عند بدء الموسم الجديد ، بزيادة أجرة حرث الفدان الواحد إلى الضعف ، بدعوى شح المواد البترولية , وأنهم صاروا يشترونها من السوق الأسود ..أما ملاك الأراضي , و أصحاب المشاريع الزراعية , و الطلمبات ، فـقـد قرروا مقاسمة المزارعين, وذلك بزياد حصتهم فيما ينتج من محصول إلى النصف النظيف , بدلا عن الثلث مقابل الماء , والسدس مقابل أجرة الأرض .. وهكذا ياضيفي عند بدء موسم الزراعة , تبدأ المواجهة , و يبلغ موسم المعاناة ذروته , ويشتدّ حمى الصراع و يغلي كأنه المرجل , وتضيق ساحته , ليخنق كل رغبة , و كل أرادة و يطفو فوقها كأنه السيل الجارف .. في جوف هذه المعمعة تتراءى لك وجوه القوم كالأشباح , شاحبة ومتهالكة , ومثخنة بجراح العوز، والفقر والفاقة , و رهـقـة بالآمال والأحلام المعلقة0وحينئذ تسقط الأقنعة , و يكثر الضحايا في ساحة المعاناة .. وهاهم جهابذة القوم وصناديده ، ساعة القيلولة ، يتأوهون كالجرحى تحت ظل سدرة ضوه الظليلة التي تتوسط أرجاء الغيط 0 وهاهو الياس ود الخضر، ألا تتذكره يا ضيفي لقد دعاك في موسم النقاهة لحضور ختان ابنيه التوأمين ، وفرح بهما أشدّ الفرح و احتـفـل .. هاهو عند بـدء موسم المعاناة , قـد داهمه الفلس, فجلس ساعة القيلولة ، يبوح بأسراره لرواد السدرة قائلا : ــ(( و الله يا جماعة الخير , السنة دى أموري جايطه و ملكلكة بالحيل , أهو الموسم بدأ , و الأرض راقده بور ما حرثتها , و حتى التواريب برضو ما شتتها , وآه ثم آه زاد الطين بلّه , ضر اعي اليمين ..ولدي الكبير الله يطراه بالخير, عارفني صرمان وبلحيل محمول , لكنه طار.. ركب رأسه و طفش , يا ناس خلاني مشلول , راح للبندر و غطس , ولسع ما رسل لينا شيء , و بالمرة قطع الخبر, وزي ما قالوا في المثل , (( قلبي على جناي و قلب جناي من حجر ))... و في صدفة غريبة متزامنة مع هذه اللحظة العجيبة أيها الضيف ، هاهو أيضا(( بركات أبو البنات)) , قـد جاء ساعة القيلولة قادما إلى تلك االسدرة من جهة جنينة الموز , هل تتذكر كيف أنه في موسم النقاهة, قد ملأ مجالس القرية هرشا و تحريما و طلاقا , من انه حقا قـد اعتزم الزواج مثنى فوق أمرأته المسنوحة ست النساء... هاهو ما أن يراك جالسا مع أولئك القوم حتى بتذكر حديثه معك , ويبدأ في الحال يروي لك حكايته في موسم المعاناة , وذلك بعد أن خسر التحدي , وتجرع كأس الهزيمة حتى الثمالة.. لقـد حاصرته زوجته ست النساء بطهارة ابنتيها الصغريين , و بما عليها من ثلاث ليال نذرا لشياطين (( الطُمْبرة )) , عند بدء موسم الزراعة أطل عليه شبح العدم من كل جانب , وكمن يقف عاريا أمام مرآة نفسه كما ولدته أمــه, يسارع مصرحا لك بالحقيقة , ويبوح لك بالسر...وكما يقولون في المثل ,((سمح الكلام من خشم سيدو).))هاهو يروي لك حكايته قائلا : ــ(( يا ولدي , زمان قالوا في المثل ,(التسويهو بـ أيدك يغلب أجا ويدك) ... أنا عليّ الحرام مرتي أم صايب جماعة المصائب , ما أن سمعت بالقصة فتحت ليا مليون بلوى و فركشت عليا الحكاية , و شمتت بيه أعدائي ... و يعلم الله , أنا الآن في ورطـه , وزي ما قالوا في المثل , (( الجمل أكان جاع بيقبل على حويته ))...أنا الآن رهـنـت نصف أرضي , وحتى حماري الكان ليه شـنه ورنه , وكان لمن يصيح هانق00 هااأأاتق ، يخلي حمير البلد كلها صانه , قسما بالله , ضربتني فلسه و في سوق أم درمان بعتــه ... وهـكذا ياضيفي ,يبدأ موسم الزراعة و العناء ,ويلعق الفقر كل الجيوب ,وتبدأ المعاول تحفر الأرض , وتهزها هزا , و تارة أخرى تمجها مجا , و تغور في أعماق أعماقها , لتقتلع الحلم و الأمل المنتظر... و حينما يبلغ الإرهاق جدران الجسد , تنعم الأرض بالعطاء , و يبدأ موسم الحصاد و الخير والنعم , و تمتلئ الدور بالمحاصيل , فول وقمح وذرة .. أما الخنادق و القطا طي فتمتلئ بالبطاطس و البصل ..و حينئذ يفقس الأمل ليملأ الجيوب بالمال , وتنعم الأجساد بعد العناء بالراحة و الهناء .. و تـدور عجلة الحياة ليطل موسم النقاهة من جـديـد ...
عثمان عوض الكريم ,,,,
|
|
|
|
|
|