|
حضارة "الفراعنة السود" ثمرة تنقيبات جديدة في مصر النوبية - نزيه خاطر
|
حضارة "الفراعنة السود"
ثمرة تنقيبات جديدة في مصر النوبية
من هم هؤلاء الفراعنة الملقبون بـ”السود” الذين رغم كونهم من غرباء الاراضي النائية جنوباً، صادروا بالكامل ولستة وثمانين عاماً، السلطات الموكلة في المطلق الى من يدل عليه بـ”المحبوب من آمون”، إنساناً وإلهاً إنما في جسد من ذهب؟
قبضوا على الحكم وسط بلبلة عارمة عمّت مصر عقب انهيار الامبراطورية الثالثة وشيوع الفلتان الأمني خلال المرحلة الانتقالية من بعدها، وتصرّفوا كأصوليين في تطبيقهم الطقوس النقية مثلما كانت سائدة أيام المجد الفرعوني في أزمنة الامبراطورية الاولى، وفرضوا على الأرجاء المصرية ومن ثم على البقاع النوبية، حيث جذروهم، السلطات غير المنتقصة لعرش مصنوع لإله حتى لو أطل للحظة ببشرة سمراء.
والرمال ووعورة المعابر والمسالك وانبهار العلماء بالعالم الفرعوني في دوائره المصرية غلّفت بالنسيان تلك الدنيا الغريبة التي جاء منها هؤلاء “الفراعنة السود” الذين لفتوا بفضل مسيرتهم الملحمية الى منطقة تعجّ بالمجريات المثيرة وأفرزت في أزمنة متقطعة من الداخل الجغرافي المتمدد جنوباً الى الابواب المجهولة لأفريقيا السوداء ممالك قوية: الكرمة، النبتة، المروي، ولكل منها كبارها وعواصمها وعمقها الجغرافي، والى بعيد ثقافتها وحضارتها وبعض نكهة فرعونية هي كالصدى لفتوحات لم تتوقف للجار الفرعوني الطامع دوماً بوضع يده على مصادر الثروات الافريقية كالذهب والعاج وجلود الحيوانات وريش النعام...
***
الاحداث ذات الطابع المزمن والمتفاعلة حروباً وثورات وصراع قبائل بين شلالات اسوان (البحيرة حالياً) وجبال الحبشة والبحر الأحمر وتلال دارفور، قد يكون لها دور في الاهتمام المتزايد منذ بدايات القرن العشرين بالتاريخ الذي بدا طويلا تاريخاً ضائعاً للبلاد المعروفة بالنوبة، أو بأراضي كوش وفق المراجع الفرعونية.
وكانت الأركيولوجيا الفرعونية التي استحوذت على ولع معظم علماء الآثار، أسدلت الحجب على جزر تنقيبية رغبت في تعميق معارفها حول ما أعتبر حتى الحرب العالمية الاولى من الضواحي البعيدة لركائز حضارة امتدت أربعة آلاف عام، وغطت العظمة منجزاتها – وأكاد أقول ابتلعت - كل الجوار القريب والبعيد، ملونة إياه بالملامح التي تكاد تضعه في خانة التبعية، وعند المظاهر خاصة.
والحضور النوبي هذا الذي أخذ مراراً طابعاً اندماجياً بجاره الشمالي القوي الأكول، عرف الممالك التي أمضت أيامها في التصدي العسكري والاقتصادي والثقافي، لطمع الفراعنة من ناحية، ولحذر هؤلاء من جار جنوبي فوضوي وغير منضبط، بل ميال دوماً الى تجاوز حدوده الشمالية معرضاً للأخطار سلامة الطرق التجارية الحيوية وأمن الحاميات الفرعونية في جنوب مصر الفرعونية. ولم يكن الأمر سهلا على المصريين فأهل البقاع الكوشية محاربون أشداء ونبّالون خطيرون أرغموا الفراعنة على بناء سلسلة من القلاع الحصينة عند معظم الشلالات الستة التي تحوّل الملاحة في النيل الى سفر شاق شبه مستحيل.
ودامت مملكة الكرمة، وهي أقدم الممالك النوبية المعروفة الى اليوم، بين صعود وهبوط في موازاة الامبراطوريتين الفرعونيتين، القديمة والوسيطة، وساد بعدها فراغ عسكري ترك الساحة حرة أمام المصريين، وظل المكان مباحاً حتى وصول الملوك النبتيين الذين انطلاقا من عاصمتهم نبتة فرضوا سيطرتهم الكاملة على مصر نفسها، ولولا استعانة البعض بالأشوريين لما ارتد هؤلاء الى داخل بلاد كوش، ومن بعد الى مدينة مروي التي تحولت الى مملكة حكمت الداخل الكوشي حتى القرن الرابع بعد المسيح.
ووسط كل هذه الوقائع التاريخية التي تصور الامبرطوريات والممالك كآثار في رمال ومعالم وسط صحراء، تبرز مرحلة “الفراعنة السود” كزمن مضيء في ذاكرة أرض نوبية تعود مجدداً الى واجهة الأحداث بفضل ضربات معاول منقبين لا ينتظرون حتى الوقوع على ما تهبهم إياه ورش أثرية تحت رمال التاريخ. ولم تعلن بعد هذه الورش بكل ثرواتها الأركيولوجية، لكنها من دون أدنى شك، دلّت في الموضوع على رافدين يؤلفان صورتها الحضارية، نوبية ذات ركائز أفريقية منابعها من الداخل أي من العمق الأفريقي، وفرعونية مستعارة من الجار الشمالي ومتأثرة جزئياً بالحضور الديني والمعماري للمصريين الذين يتصرفون كفاتحين غزاة في أرض الرجال السمر. وهؤلاء المصريون أسسوا لحكم الفراعنة السود يوم وقف أحد فراعنتهم في إحدى الحملات أمام جبل برقل ليعلنه مسكناً أصلياً للاله أمون، ولم ينس الملوك النبتيون هذا الكلام الذي باسمه سيطالبون بحقهم بعرش فرعون، وسيحصلون ما يؤمنون به، وإن اختزل حكمهم لمصر بستة وثمانين عاماً، ومن بعد انكسار، فتراجع الى أرض ما وراء الشلالات، فخسارة نهائية وفوضى حتى قيام مملكة مَروي التي ستضع مسافة جغرافية فعلية بينها وجارها الروماني.
وستأتي نهاية مَروي من الجنوب الأقصى اي من بلاد الحبشة.
***
التنقيب في غليان، والمعالم كأنها تولد من جديد من رحم الصحراء، والاكتشافات كأنها فرعونية، رغم تلونها في معظم المواقع بنكهة محلية تحمل أفريقيتها بامتياز.
والوصول الى معرفة كاملة صعبة حالياً لما يعصف من أحداث بالارض جنوب الخرطوم، عاصمة السودان الحالي.
نزيه خاطر
نقلاً عن صحيفة "النهار" الاربعاء 1 ايلول / سبتمبر 2004
|
|
|
|
|
|
|
|
|