إدريس علي يبحث في رواياته عن هوية النوبة- هويدا سليم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2024, 02:20 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-23-2004, 11:14 PM

sympatico

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
إدريس علي يبحث في رواياته عن هوية النوبة- هويدا سليم

    يعيش على هامش الحياة الثقافية المصرية

    إدريس علي يبحث في رواياته عن هوية النوبة


    الخرطوم - هويدا سليم:

    “.. وطبيب القرية المقيم حلاق جاهل.. أدواته الموسى للحلاقة والختان والقصد بجوار العيون المتفرجة وكاسات الهواء والمسامير لكي الاقفية والأدمغة..وخلع الضرس بالحبل.. وأعشاب تهلك البطون وأدعية وتعاويذ.. أصابته الحمى فشوهد قفاه ورأسه بمسمار ساخن ودهنوا جسده بالطين المحملة بقواقع البلهارسيا.. كاد يموت لولا الحظ”.

    هذا مقطع من رواية الكاتب النوبي إدريس علي عن مدينة “دنقلة” بشمال السودان تلك المدينة التي تم إغراقها في ستينات القرن الماضي لصالح بناء السد العالي، فأصبحت مدينة منسية وقد حمل الكاتب الكتاب المنسي أيضا عبء تذكير العالم بهذه المدينة وسكانها فكانت روايات “دنقلة”، النوبي، انفجار جمجمة، وعدد من المجموعات القصصية “المبعدون”، و”واحد ضد الجميع”، و”وقائع غرق السفينة”، كلها روايات ومجموعات تنكأ جراح النسيان والتهميش الذي يعاني منه بنو جلدته “النوبة” ما بين السودان ومصر.

    فالروائي الذي عاش بالحظ ولولا الحظ لكان مات منذ زمن بعيد مثل أبناء قريته الذين كان يموتون بالملاريا والكوليرا والدرن والصفراء ولدغة العقارب والثعابين، كان قد بدأ مسيرته الفنية منذ العام 1969 عندما نشرت له مجلة “صباح الخير” المصرية أقصوصة “السرير الواحد”، ثم امتد عطاؤه، منذ تلك الفترة، لكنه لم يحظ بالاهتمام الإعلامي الكافي على الرغم من إنتاجه الروائي المتميز والغزير الذي لا يقل إبداعا عن معظم روائيي جيله سواء في مصر التي اتخذها مقرا له أو في السودان بلده التي هجرها بسبب الفقر والنسيان الذي ضرب على قريته، حيث ظل محمد إدريس منسياً ومهمشاً من قبل النقاد والإعلاميين.

    وقد شبه إدريس نفسه في أحد الحوارات الصحافية القليلة التي أجريت معه بالكاتب المغربي “محمد شكري” لأنه يكتب ما يعيشه، وأنه يطلق على نفسه “الكاتب القارئ” كما كان شكري يسمي نفسه.

    فقد استطاع محمد إدريس من خلال تثقيف نفسه بمجهود فردي بعيداً عن الأكاديميات أن يصور الحياة التي عاشها في دنقلا المنسية وفي مصر بكل رقة وشفافية ومصداقية من دون مجاملة لأحد، ومن دون تطبيق لنظرية أكاديمية، مما أكسبه عداء الكثير من النقاد والروائيين والسياسيين الذين اتهموه بالدعوة لانفصال النوبيين من مصر والسودان واستقلالهم بذاتهم في دولة النوبة الموحدة، ولكنه ينفي هذه التهمة عنه بشدة، ويصف رواية “دنقلة” بأنها رواية تنكأ الجراح وتستدعي النوبة وتستوعبها.. لكنها لم تكن أبدا داعية للانفصال، ويضيف وهل تستطيع رواية مهما بلغت روعتها أن تمزق أمة؟؟..ويعيد إدريس السؤال إلى متهميه بالدعوة إلى الانفصال “هل تملك النوبة مقومات الدولة”؟ ويقول إن أعداءه قاموا بتسييس الرواية لمحاصرته شخصياً وإجهاض موهبته.

    الكتابة عند إدريس ليست من أجل تمزيق الأمة، لكنها كانت مخرجا له من أزمته النفسية التي عاشها في قريته “دنقلة” حيث نشأ في بيئة فقيرة جداً شديدة القسوة كما وصفها هو “لا تنبت سوى الأشرار أو الفلاسفة”. ولأن كاتبنا لم يكن شريراً فقد اتجه إلى الكتابة لتعبر عن شعوره بالغبن، وجعل من الكتابة وسيلة لخلق التوازن النفسي في مجتمع يسوده القهر والاستغلال ويدفع بالإنسان دفعاً إلى ممارسة أشياء مخيفة وغير أخلاقية.. فالكتابة كانت المنقذ الحقيقي لمحمد إدريس من ممارسة البدائل الأخرى، وقد جسد ذلك بوضوح في شخصية “عوض شلالي” بطل رواية “دنقلة”، الشخصية التي يتخوف الكاتب من أن يؤدي استمرار الأزمة التي يعيشها النوبيون حاليا إلى خروج “عوض شلالي” من الرواية إلى أرض الواقع ليثأر من جلاديه كما فعل في الرواية بعد أن زج به عشر سنوات في السجن لمجرد اعتناقه فكراً مخالفاً لجلاديه، فكل محاولة لتهميش الآخر وإنكار وجوده تقود إلى الثورة، وعوض شلالي يختلف عن بقية النوبيين في أنه فكر بصوت مسموع فقط ولكنه يتفق معهم في الأفكار.

    وقد اتخذ الروائي خطاً واضحاً لم يحد عنه في رواياته وقصصه القصيرة وهو العمل على محاربة الفساد والقبح والظلم في كل مكان أو زمان، فكل كتاباته جاءت منحازة للإنسان بوصفه إنساناً إنما وجد في دنقلة أو النوبة أو في أي مكان آخر ولم يثنه عن هذا الانحياز للإنسانية كل الهجوم الذي تعرض إليه سواء من النقاد أو السياسيين لأن الكتابة عنده موقف والكاتب صاحب المواقف لا تخيفه السهام الطائشة ولا يهتز أو يتراجع بسبب المعارك وان إصابته وأوجعته سهامها.

    ويحاول إدريس من خلال كتاباته الإجابة على السؤال الصعب بالنسبة للنوبيين “لماذا تم تقسيم النوبة بين مصر والسودان، وهل أهل النوبة فراعنة، كما يبين في كتاباته وعلى رأسها دنقلة التي حازت على الجائزة الأولى من جامعة اركساس في الولايات المتحدة قبل سنوات، بعد ترجمتها إلى الإنجليزية، وهي عبارة عن بحث في تاريخ وتراث النوبة الذي اندثر تحت مياه السد العالي حتى جرى تحويل دنقلة إلى خزان مياه لصالح مصر.

    والكاتب يريد أن يصحح مفاهيم قومه البسطاء الذين يقولون “إن غرق بلاد النوبة هو غضب إلهي وأن دنقلة مدينة منسية لا زارها باشا ولا سلطان”، منذ إغراقها وأهلها يظنون “أن ما حل بهم غضب من عند الله.. فلماذا بغضب الإله على بشر يصلون له ويعبدونه إذا كان هذا هو ثمن الرضى” فما حل بدنقلة هو فعل الإنسان وليس من فعل الله تعالى.

    ويظهر إدريس من خلال سرده لتفاصيل حياة عوض شلالي بطل رواية “دنقلة” مدى عطاء بطل الرواية لمصر والمصريين الذين يعاملون النوبيين “المصريين أو السودانيين” بصورة سيئة، فعندما تم القبض على عوض شلالي من قبل السلطات المصرية يقول الراوي “قام الصول والعساكر والمحتجزون والجاني والمجني عليه وحتى من ليس له دخل في الموضوع وتلقوا عوض شلالي محاولين افتراسه”، هكذا استقبل الشلالي في الحراسة بكل عدائية وتواصلت تلك العدائية في الأسئلة الموجهة له حيث قال له أحد الحراس “من أخطاء الحكومة أنها فتحت لكم المدارس.. لو تركناكم همجاً لبقيتم سفرجية وبوابين لنا..”، ولكن عوض شلالي لم يصمت كما كل النوبيين.

    فالأعمال الأدبية لإدريس ابتداء من “دنقلة” ومرورا ب”المبعدون” وحتى “انفجار جمجمة” هي عبارة عن رحلة بحث عن الهوية الضائعة لإنسان النوبة، ومحاولة إيجاد جذور للإنسان النوبي، فعندما جاء الخواجة من بريطانيا يسأل عن “كدود” أحد شخوص رواية “النوبي” كان يحاول الإجابة عن الصلة التي تربط بين النوبيين في أقصى شمال السودان والنوبة في أقصى غرب السودان في جبال النوبة الذين ينتمي إليهم “كدود” صاحب الصندوق العجيب المليء بالأسرار، فعندما تم فتح الصندوق بعد موت “كدود” لم يجدوا فيه شيئاً ذا قيمة بالنسبة لهم “سيوف قديمة صدئة، حراب ونبال، دف قديم، علم، ملابس غريبة مهلهلة، تاج، تماثيل صغيرة لمساخيط، رقعة من جلد الغزال ملفوفة بعناية، فتحوها فوجدوا كتابة غريبة ليست عربية، وهذه الكتابة الغريبة هي السر، هي حلقة الوصل التي ظل الباحثون في التاريخ السوداني من الغربيين يبحثون عنها لإكمال حلقة الربط بين النوبيين في الشمال والنوبة في الغرب والإجابة عن السؤال الذي أتعب كل أبطال إدريس حول من هو النوبي ومن أين جاء..؟

    فالروايات الثلاث “دنقلة، “النوبي”، و”انفجار جمجمة” وكذلك الأعمال القصصية تستحق القراءة والبحث ولا يمكن تلخيصها في صفحات قليلة فهي عبارة عن البحث في هوية شعب ضائعة بين بلدين، فالنوبي ليس مصرياً ولا سودانياً ولا عربياً ولا أفريقياً، بل إنسان تشكل من عذابات المكان والزمان الذي تواجد فيه كما يقول إدريس.

    وهي عبارة عن محاولة لانتشال مدن أغرقها الإنسان بكل تراثها وتاريخها فلم يكن أمام إنسانها خيار إلا الغرق معها أو الرحيل.. فاختار الرحيل قسراً إلى مدن لم يستطع رغم مرور عشرات السنوات التآلف معها أو نسيان المدن التي جاء منها.. وكتابات إدريس هي محاولة لإنقاذ مدن غارقة وإرجاعها إلى ذاكرة العالم

    http://www.alkhaleej.ae/articles/show_article.cfm?val=94734
                  

07-24-2004, 00:38 AM

sympatico

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إدريس علي يبحث في رواياته عن هوية النوبة- هويدا سليم (Re: sympatico)

    اهدي هذا البوست بصورة خاصة الى الاخ الاستاذ الاديب عثمان حامد سليمان الذي اتصل بي عقب نشر هذا البوست متحدثا عن محبته للاديب ادريس علي ومشيرا الى بعض اعماله والحوارات التي نشرت عنه
    وقد حرضني للبحث عن هذه الحوارات
    التحية للاخ عثمان ونامل ان يكون من اعضاء المنبر

    إدريس علي
    يستعيد تهجير النوبي


    بقلم : دكتور صلاح فضل



    لفن الرواية طرائفه الماكرة‏,‏ ومواعيده المدهشة‏,‏ في بعث الحياة التي يظن الناس انها قد اندثرت وانطفأ وهجها في الذاكرة‏.‏ حتي نجدهم يتساءلون‏:‏ لماذا لم تسجل هذه الاحداث الكبري او تلك في الادب‏,‏ وقد مضي علي وقوعها عشرات السنين ؟ بينما تكون موادها في الحقيقة‏,‏ آخذة في الاختمار والنضج في باطن العقل الإبداعي لواحد من ابناء الجيل الذي شهدها أو أكثر‏,‏ وربما ممن جاء بعدهم‏,‏ في انتظار لحظة الانبثاق التي لا يستطيع أحد التكهن بموعدها‏.‏
    وقد صدرت خلال الفترة الاخيرة روايتان عن دراما الهجرة النوبية‏,‏ بعد قرابة أربعين عاما من وقوعها في مطلع الستينيات خلال بناء السد العالي‏,‏ وكأنهما علي موعد مع العيد الذهبي لثورة يوليو‏.‏ يستحضران روحها وشجونها العميقة كما تجسدها هذه الهجرة القسرية العنيفة‏.‏ إحداهما للقصاص النوبي الاصيل يحيي مختار بعنوان‏:‏ جبال الكحل وهو مأخوذ من مثل نوبي قديم يقول‏:‏ جبال الكحل تفنيها المراود مشيرا الي فعل الزمن في الناس‏,‏ والرواية الاخري ـ وهو موضوعنا اليوم ـ بعنوان النوبي لزميله الكاتب الكبير ادريس علي‏.‏

    وهو مبدع من بلاد النوبة ايضا‏,‏ في الثانية والستين من عمره‏,‏ عصامي عنيد‏,‏ ثقف نفسه بضراوة‏,‏ ومارس الكتابة القصصية منذ مطلع شبابه‏,‏ فنشر اول مجموعة قصصية بعنوان المبعدون عام‏1985‏ م‏,‏ وأتبعها بمجموعة واحد ضد الجميع بعد عامين‏,‏ ثم نشر اولي رواياته دنقلة عام‏1993‏ فترجمت الي الانجليزية‏,‏ وأصدر مجموعة أخري قبل ان ينشر روايته الثانية الفذة انفجار جمجمة‏,‏ وهذه روايته الثالثة فحسب‏,‏ من هنا فهو كاتب مقل في إنتاجه‏,‏ لكنه يحفر عالمه من جرانيت الجنوب ليقدم عبق المكان واسطورة الشعب بدأب ومثابرة كبيرة‏.‏
    يروي إدريس علي روايته النوبي بضمير المتكلم‏,‏ ليستبطن عوالم شخصياته من الداخل‏,‏ ويقدم رؤيته من منظور جيل ابناء الثورة الذي انشقوا عن أهلهم‏,‏ وتعاطفوا بقوة مع التحولات الجديدة التي كانت تحدث لهم‏,‏ وتطوعوا لتلقي جرعة مكثفة من المحاضرات عن الوطن والوطنية والمشاريع القومية الكبري في منظمة الشباب‏,‏ مما جعل بطلنا يحصل علي درع الدورة التدريبية بسبب إجابته النموذجية عن سؤال غامض طرحه امين الشباب علي المشاركين في الدورة وهو‏:‏ ـ

    ـ من انتم ؟ فقال بثقة وتمكن‏:‏
    ـ نحن ـ يا أفندم ـ منبعنا النوبة‏,‏ ومصبنا مصر‏,‏ وفي المسافة بين المنبع والمصب‏,‏ علاقات‏,‏ حسن جوار‏,‏ مصاهرات‏,‏ قرابات‏,‏ وليس هناك ما نتنازع عليه‏.‏ فكلنا نشرب من ماء النيل‏,‏ الغني منا والفقير ثم تملكه شيطان العبث فأضاف مرحا لتلطيف الجو‏:‏ ـ
    ـ في الواقع ياافندم‏,‏ مصر والنوبة هته واحد ضحكت القاعة كلها حتي امين الشباب‏,‏ فالجملة الاخيرة كانت بالضرورة تستدعي نكتة قديمة ايام الاستفتاء علي استقلال السودان‏,‏ فقد تحمس أحد السودانيين للوحدة وقاد مظاهرة في القاهرة فحملوه وأخذ يهتف مصر والسودان هته واحد ولما أنزلوه اكتشف أن أحد المتظاهرين قد نشله فاخذ يصرخ مصر والسودان ستين هته‏!.‏

    قال امين الشباب معلقا‏:‏ ـ
    ـ ظريف والله‏:‏ لكننا لن ننشلكم وكافأه بوعد بدخول كلية الهندسة بعد ان يحصل علي دبلوم الصنايع وقدمه للمحافظ الذي انعم عليه بمنحة شهرية طوال فترة الدراسة‏.‏
    هكذا بخطوط وجيزة مكثفة يرسم لنا إدريس علي ملامح شخصيته المحورية وهو يقدم كونا مصغرا يحكي قوانين الكون الاكبر ويستحضر مذاق الفترة التاريخية خلال المد الثوري بما كان يغلي فيها من إرادة جبارة للتغيير من ناحية‏,‏ ولتطويع الحياة وتجنيد الشباب‏,‏ وكسر نمط المسارات الروتينية حتي شراء الانصار بالمال والوعود من جانب آخر‏.‏ ولان الأدب نقد للحياة في صميمها فإن الصورة لا تكتمل سوي بالمشهد التالي في الرواية‏,‏ عندما يذهبون جميعا لاستقبال أهل دابود ـ وهي اول قرية نوبية يتم تهجيرها للمواطن الصحراوي الجديد بعيدا عن مجري النيل‏,‏ حيث اخذت الإذاعة الداخلية ثبت اغنية يا جمال يا حبيب الملايين وقاموا برشق اعلام الوطن وصور الرئيس في الاماكن البارزة‏,‏ وأخذوا في توزيع الحلوي والمرطبات علي القادمين‏.‏ لكن جهامة الواقع غطت علي كل ترحيب‏.‏ فالبيوت ليست كبيوتنا‏,‏ بل هي كئيبة منفره‏,‏ ومواسير المياه لم تمتد بعد أو حتي الانارة‏.‏ حنفية عمومية واحدة مقتصرة علي الميدان الرئيسي‏..‏ القوم يدخولون البيوت ويخرجون بسرعة‏,‏ يقفون امام الابواب في حيرة وتعاسة بعضهم كان يبكي وتفكه أحد المسنين‏:‏ ـ
    ـ لقد نشلونا‏.‏

    ولابد أنني ضحكت برغم مأساوية الموقف‏,‏ فسبني وسب أهلي‏,‏ ولكنهم جميعا دون استثناء لم يكن بوسعهم إبداء اقل مظاهر الاحتجاج‏.‏ كانت الكلمة في ابسط صورها تؤدي للهلاك‏.‏ وكلما سألهم الكبار عن الاحوال كانوا يرددون الحمد لله مبسوطين‏.‏ ربنا يخلي جمال كان قهر الر وح وكبت المعارضة هو الثمن الفادح لهذا التحول القسري‏.‏ مما جعل حجم التضحية أكبر من ان يتحمله هؤلاء المساكين في سبيل مشروع لاشك في حيويته العظمي للوادي الخصيب في كل العصور‏.‏

    تقنيات التضاد والدهشة‏:‏
    لأن ادريس علي فنان موهوب فهو قادر علي ان يبرز شخصيات روايته ومواقفهم عبر تقنيات روائية تعتمد علي حوارية المفارقة والتضاد من ناحية‏,‏ وغرابة الغموض والتسويق من ناحية آخري‏.‏

    فإذا كان شباب اهل النوبة يتحمسون للهجرة‏,‏ ويصدقون وعودها الوردية‏,‏ وهم مستعدون للتضحية من اجل المستقبل المأمول‏,‏ فإن الشيوخ بخبراتهم المتراكمة وارتباطاتهم الحميمة بالارض وتراث الاسلاف اقل تفاؤلا وأكثر توجسا ومرارة‏,‏ فهم يجفلون من كل تغيير يمس نمط حياتهم ويضمرون حنقا مكظوما علي ممثلي السلطة‏.‏وقد لجأ أحدهم ـ الشيخ فضل الله ـ الي الهروب من الفوج الاول‏,‏ ولم يعثر له علي اثر‏,‏ مما ازعج المسئولين وراحوا ينبشون عنه الارض والمركب والقرية دون جدوي‏,‏ وظل طيفه يخايل الشباب والشيوخ مذكرا أياهم بمأساة اقتلاع الجذور وتغريب الفروع‏.‏ ولكي يقدم الراوي رؤيته للنسيج الملتئم ـ الظاهر ـ لاهل النوبة‏,‏ وتوزعهم في الحقيقة علي أصقاع وقبائل مختلفة‏,‏ وضع في طريقه شخصية غريبة‏,‏ لرجل يحتفي به الكبار‏,‏ بالرغم من بشرته السوداء‏,‏ وجواز سفره الانجليزي والغليون الانيق المتدلي‏.‏
    من فمه‏.‏ وجعله يصطدم به في حوار ساخر وساخن‏,‏ كي يكشف عن فصائل نوبية‏,‏ تسكن داخل حدود السودان‏,‏ قامت بصد موجات الغزو الفرعوني والعربي والمملوكي عند دنقلة‏.‏ مضيفا ملاحظات طريفة‏,‏ مثل قوله‏:‏ لم يكن لقوي فضل كبير في رد الزحف العربي‏,‏ لأن الجنود العرب لم يجدو لدينا ما يحفزهم علي مواصلة الزحف‏,‏ لا فيء ولا سبايا جميلات‏.‏

    ثم يقدم نفسه باعتباره من أشرافهم‏.‏ وكيف أنه تعرض لمحاولات اغتيال عديدة عقب زيارته لموطنه‏,‏ ووقوع بعض الاضطرابات والاشتباكات بين القبائل والحكومة السودانية فيها‏.‏ مما جعلهم يعتقلونه‏.‏ ولولا جهود زوجته المصرية‏-‏ وهي قبطية كانت تلميذته في إنجلترا‏-‏ قامت بدور فتحية مع نكروما‏-‏ فقادت حملة دولية للإفراج عنه‏.‏ اتصلت بالبابا وملكة إنجلترا‏.‏ وجمعيات حقوق الإنسان‏.‏ ولما أخفقت لجأت للعظيم عبد الناصر‏-‏ وهو رجل قوي وزعيم حركة التحرير وله نفوذ جبار‏.‏ تدخل بثقة‏-‏ فأنقذني‏,‏ وأنا مدين له برقبتي‏.‏
    الطريف أن هذا الغريب يعود مع الراوي إلي قريته ويتخذه دليله‏,‏ للبحث عن المعمر المتفرد كنود الذي كان يقطن بيتا متهدما فوق جبل العلياب‏.‏ وبناء علي نصيحة الرحالة الإنجليزي مستر نلسون‏-‏ الذي كان كنود يعمل في شبابه طاهيا ودليلا له‏-‏ يحضر معه قدرا من التبغ وزجاجات من الشراب‏,‏ حتي يستعيد ذاكرته ويقص عليه أسرار القبائل الأصلية‏.‏ يلفت نظره صندوق زوجته العجيب‏,‏ فيقعي بجواره‏,‏ ويستخدم بطارية وعدسة مكبرة لقراءة النقوش والرسومات‏.‏ تابعته حين سلط الضوء علي صورة امرأة حسناء‏,‏ تحمل طفلا أجمل منها‏..‏ إنها ليست مجرد صورة‏.‏ إنما حقيقة تنقصها الروح لتنطق وترمش بعيونها وتتحدث معنا‏..‏ الألوان زاهية‏,‏ والعيون ساحرة‏.‏ من تكونين يا ربي؟ ولم يلبثوا أن تبينوا أنها صورة العذراء مريم‏.‏ ومع أن العمدة يسأل المعمر العجوز بخبث‏:-‏

    ‏-‏ لكن ما الأمر ياكنود؟ أكنت تصلي معنا الجمعة وأنت نصراني؟‏!‏
    غير أن الراوي يعلق بفطنة قومنا لا تطرح بينهم هذه الأسئلة‏.‏ المسافات بين العقائد غير محسوسة عندنا‏.‏ لا يحفرون وراء المسائل‏,‏ بدليل أن العمدة المتدين الوقور يجلس الآن بين اثنين يتعاطيان المنكر أمامه‏.‏ إنهم يعمدون أطفالهم في النهر كعادة متوارثة‏.‏ ولم يسألوا أنفسهم يوما‏:‏ أهي عادة فرعونية أم نوبية أو قبطية‏.‏ وضبة الباب علي هيئة صليب منحوت‏,‏ وأمي تقول مستجيرة أنا في عرض مريم‏,‏ مع أنها لا تعرف من تكون مريم هذه‏,‏ وتظنها من آل البيت مثل السيدة زينب وحتي لو عرفت فلن تتغير مشاعرها‏.‏

    هذا هو النسيج المصري الملتئم بصدق في النوبة‏,‏ مثل الصعيد والدلتا‏.‏ والولع بالأسرار لن يفضي إلي تشقيقه أو نقض تجانسه‏,‏ لكن تظل تقنيات الشخوص المتضادة والرموز الغامضة من أكثر عناصر السرد الروائي تحفيزا لنشاط القاريء وإنعاشا لمخيلته وإثارة لقدرته علي الاستمتاع الجمالي‏.‏

    اندثار العالم القديم‏:‏
    الرواية علي صغرها مكثفة وبليغة‏..‏ فهي تضفر عالمها بحيوية عجيبة‏.‏ إذ بينما تقدم مرثية رحيل أهل القرية في أصعب يوم‏,‏ حين وصلت بواخر الرحيل وأطلقت صفاراتها بكي الرجال أول بكاء جماعي لهم نجد أنها تقدم مجموعة من الرموز التي تصور اختفاء هذا العالم‏,‏ فصندوق المعمر كنود لتحطيم خلال نقله إلي المركب يهوي لأسفل محدثا دويا هائلا تتناثر محتوياته‏,‏ وإذا بها لا شيء‏..‏ لا ذهب ولا كنوز سليمان كما كان يظن الناس‏,‏ مجرد سيوف قديمة صدئة وملابس مهلهلة وتماثيل صغيرة لمساخيط لا قيمة لها والغريب الذي كان مهووسا بفض أسرارها وعرض ألف جنيه كاملة لشرائها انتهي أمره بدوره بشكل مأساوي‏,‏ حيث لمح الراوي جثته طافية علي صفحة ماء النيل‏,‏ وعندما عثر علي المراكبي الذي كان يقله تحايل عليه حتي أسكره بالشراب وضغط عليه كي يعترف بظروف مصرعه‏,‏ فتبين أنه لقي حتفه في نزاع تافه مع أحد المرشدين السياحيين النوبيين أيضا‏,‏ وهما يتجادلان في أصل القبائل ومن هو الأعرق منهما‏.‏
    لكن النموذج المحوري الذي يفرض صورته ويبسط ظله علي امتداد الرواية كلها هو الجد الذي استعصي في بداية الأمر علي الرحيل‏,‏ فأحاط به العمدة واعتصمت معه الاسرة مهددين بالبقاء الانتحاري معه‏,‏ فتركهم ونزل إلي النيل يضرب الماء بقوة في اتجاه الشمال حتي حاذته الباخرة المقلة للمهاجرين وضبطت سرعتها علي حركته‏..‏ كان منظره جميلا وهو يهز رأسه يمينا وشمالا ويسابق تماسيح النيل بينما أخذ الراوي ورفاقه ينشدون في حب موطنهم أنشودة حرفوها لتقول‏:-‏

    بلادي‏..‏ بلادي‏..‏ كش‏(‏ وهو اسم القرية‏)‏ يا أم البلاد‏..‏ لك حبي وفؤادي‏..‏ مصر غايتي والمراد‏.‏ مشهد رائع يمكن بالفعل أن يظل محفورا في الذاكرة أربعين عاما‏,‏ حيث يضفي علي عملية التذكر والاستحضار كل ما تزخر به من شجن‏.‏ وتضمره من عذاب‏,‏ وتبعثه من مواجد الماضي بلحظاته المشحونة‏,‏ وشخوصه المتضادة وحيوته المثيرة‏.‏
    لكن الدلالة الأخيرة للرواية يصنعها مشهد آخر لهذا الجد ذاته‏,‏ بعد أن استقر في القرية الجديدة‏,‏ وعقد علاقات ودية مع قري الصعيد المحيطة بها‏,‏ حتي أدركته نوبة اكتئاب عارمة في أحد الأصياف اللاهبة‏,‏ فأخذ يتخبط من مكان لآخر في بيئة قاسية لم تنبت بها شجرة تخفف لهب الحجر‏,‏ أصابته حالة يأس مريع فأضرب عن الحياة والطعام والشراب‏.‏ جاءوا له بأولاده‏,‏ ابنه الذي كان قد غضب عليه لتزوجه من قاهرية‏,‏ انكبت زوجة الابن الحسناء عليه تقبله وتسترحمه كي يشفق علي نفسه‏,‏ ينتعش لحظة ويقبل جرعة ماء وبعض حساء قبل أن يلفظ نفسه الأخير‏.‏ يترك قومه‏,‏ وحفيده خصوصا وهم يقفون عند حافة التاريخ‏,‏ يحتفظون بتوازنهم‏,‏ حاملين النوبة في وجدانهم‏.‏ وحين يشتد بهم الحنين يغنون أسمر اللون‏,‏ وحين يضيق بهم الحال ويحاصرون بآلات التذويب الجهنمية في المجتمع الجديد يراوغون ويهربون‏,‏ ويلجأون لرقصة الاراجيد التي ترمز لفنهم النوبي الأصيل‏.‏

    هكذا يستنقذ إدريس علي عالم النوبة المتفرد‏,‏ ويستعيد ملحمة تهجيره‏,‏ بنفس روائي عميق‏,‏ وحس تاريخي يبعث نسخ الحياة في الماضي الماثل في قلب الحاضر‏.‏

    http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/7/29/WRIT2.HTM
                  

07-24-2004, 01:22 AM

Napta king
<aNapta king
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 767

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إدريس علي يبحث في رواياته عن هوية النوبة- هويدا سليم (Re: sympatico)

    قرأت رواية دنقلا قبل عام تقريبا واعجبتني جدا ولكن الروايه عن احداث الهجره لسكان وادي حلفا وليس دنقلا لانها لم تتأثر بقيام السد العالي .
    ومنذ ان قراتها احسست لاول مره ان بلاد النوبه مازالت مصدرا للابداع وهاهو ادريس علي يؤكد مقولة ان الابداع يولد من المعاناة

    تنميت ان التقي بهذا الكاتب او اعثر له على عنوان ولكن ذهبت جهودي سدى
                  

07-26-2004, 01:17 PM

Napta king
<aNapta king
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 767

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إدريس علي يبحث في رواياته عن هوية النوبة- هويدا سليم (Re: Napta king)

    up
                  

07-27-2004, 00:59 AM

Habib_bldo
<aHabib_bldo
تاريخ التسجيل: 04-04-2002
مجموع المشاركات: 2350

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إدريس علي يبحث في رواياته عن هوية النوبة- هويدا سليم (Re: Napta king)


    اولا التحية للجميع وشكرا لك على نشر هذا التريف والنقد المختصر
    لادريس على الروائي النوبي
    منذ سنوات شهدت مقابلة معه في إحدى المحطات التلفزيونية المصرية مقابلة مع الكاتب ادريس على وعجبني حديثه وحواره وفكرت جديا في البحث عن مؤلفاته ولكنني نسيت الامر والآن بعد نشرك لهذا البوست
    أجريت بحث في قواعد البيانات لدينا ووجدت له هذين الكتابين


    المبعدون : قصص / ادريس علي
    القاهرة : مطبوعات الفجر، 1985
    168 ص
    *************
    وقائع غرق السفينة : قصص/ ادريس علي
    القاهرة: مركز الحضارة العربية، 1999م
    113 ص
    ******************

    ولن أدع الفرصة تفوتني هذه المرة وسأقوم بقراءة المجموعتين لأكون فكرة أوضح حول فلسفة الكاتب
    لك الشكر مجددا أخي
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de