|
Re: إدريس علي يبحث في رواياته عن هوية النوبة- هويدا سليم (Re: sympatico)
|
اهدي هذا البوست بصورة خاصة الى الاخ الاستاذ الاديب عثمان حامد سليمان الذي اتصل بي عقب نشر هذا البوست متحدثا عن محبته للاديب ادريس علي ومشيرا الى بعض اعماله والحوارات التي نشرت عنه وقد حرضني للبحث عن هذه الحوارات التحية للاخ عثمان ونامل ان يكون من اعضاء المنبر
إدريس علي يستعيد تهجير النوبي
بقلم : دكتور صلاح فضل لفن الرواية طرائفه الماكرة, ومواعيده المدهشة, في بعث الحياة التي يظن الناس انها قد اندثرت وانطفأ وهجها في الذاكرة. حتي نجدهم يتساءلون: لماذا لم تسجل هذه الاحداث الكبري او تلك في الادب, وقد مضي علي وقوعها عشرات السنين ؟ بينما تكون موادها في الحقيقة, آخذة في الاختمار والنضج في باطن العقل الإبداعي لواحد من ابناء الجيل الذي شهدها أو أكثر, وربما ممن جاء بعدهم, في انتظار لحظة الانبثاق التي لا يستطيع أحد التكهن بموعدها. وقد صدرت خلال الفترة الاخيرة روايتان عن دراما الهجرة النوبية, بعد قرابة أربعين عاما من وقوعها في مطلع الستينيات خلال بناء السد العالي, وكأنهما علي موعد مع العيد الذهبي لثورة يوليو. يستحضران روحها وشجونها العميقة كما تجسدها هذه الهجرة القسرية العنيفة. إحداهما للقصاص النوبي الاصيل يحيي مختار بعنوان: جبال الكحل وهو مأخوذ من مثل نوبي قديم يقول: جبال الكحل تفنيها المراود مشيرا الي فعل الزمن في الناس, والرواية الاخري ـ وهو موضوعنا اليوم ـ بعنوان النوبي لزميله الكاتب الكبير ادريس علي.
وهو مبدع من بلاد النوبة ايضا, في الثانية والستين من عمره, عصامي عنيد, ثقف نفسه بضراوة, ومارس الكتابة القصصية منذ مطلع شبابه, فنشر اول مجموعة قصصية بعنوان المبعدون عام1985 م, وأتبعها بمجموعة واحد ضد الجميع بعد عامين, ثم نشر اولي رواياته دنقلة عام1993 فترجمت الي الانجليزية, وأصدر مجموعة أخري قبل ان ينشر روايته الثانية الفذة انفجار جمجمة, وهذه روايته الثالثة فحسب, من هنا فهو كاتب مقل في إنتاجه, لكنه يحفر عالمه من جرانيت الجنوب ليقدم عبق المكان واسطورة الشعب بدأب ومثابرة كبيرة. يروي إدريس علي روايته النوبي بضمير المتكلم, ليستبطن عوالم شخصياته من الداخل, ويقدم رؤيته من منظور جيل ابناء الثورة الذي انشقوا عن أهلهم, وتعاطفوا بقوة مع التحولات الجديدة التي كانت تحدث لهم, وتطوعوا لتلقي جرعة مكثفة من المحاضرات عن الوطن والوطنية والمشاريع القومية الكبري في منظمة الشباب, مما جعل بطلنا يحصل علي درع الدورة التدريبية بسبب إجابته النموذجية عن سؤال غامض طرحه امين الشباب علي المشاركين في الدورة وهو: ـ
ـ من انتم ؟ فقال بثقة وتمكن: ـ نحن ـ يا أفندم ـ منبعنا النوبة, ومصبنا مصر, وفي المسافة بين المنبع والمصب, علاقات, حسن جوار, مصاهرات, قرابات, وليس هناك ما نتنازع عليه. فكلنا نشرب من ماء النيل, الغني منا والفقير ثم تملكه شيطان العبث فأضاف مرحا لتلطيف الجو: ـ ـ في الواقع ياافندم, مصر والنوبة هته واحد ضحكت القاعة كلها حتي امين الشباب, فالجملة الاخيرة كانت بالضرورة تستدعي نكتة قديمة ايام الاستفتاء علي استقلال السودان, فقد تحمس أحد السودانيين للوحدة وقاد مظاهرة في القاهرة فحملوه وأخذ يهتف مصر والسودان هته واحد ولما أنزلوه اكتشف أن أحد المتظاهرين قد نشله فاخذ يصرخ مصر والسودان ستين هته!.
قال امين الشباب معلقا: ـ ـ ظريف والله: لكننا لن ننشلكم وكافأه بوعد بدخول كلية الهندسة بعد ان يحصل علي دبلوم الصنايع وقدمه للمحافظ الذي انعم عليه بمنحة شهرية طوال فترة الدراسة. هكذا بخطوط وجيزة مكثفة يرسم لنا إدريس علي ملامح شخصيته المحورية وهو يقدم كونا مصغرا يحكي قوانين الكون الاكبر ويستحضر مذاق الفترة التاريخية خلال المد الثوري بما كان يغلي فيها من إرادة جبارة للتغيير من ناحية, ولتطويع الحياة وتجنيد الشباب, وكسر نمط المسارات الروتينية حتي شراء الانصار بالمال والوعود من جانب آخر. ولان الأدب نقد للحياة في صميمها فإن الصورة لا تكتمل سوي بالمشهد التالي في الرواية, عندما يذهبون جميعا لاستقبال أهل دابود ـ وهي اول قرية نوبية يتم تهجيرها للمواطن الصحراوي الجديد بعيدا عن مجري النيل, حيث اخذت الإذاعة الداخلية ثبت اغنية يا جمال يا حبيب الملايين وقاموا برشق اعلام الوطن وصور الرئيس في الاماكن البارزة, وأخذوا في توزيع الحلوي والمرطبات علي القادمين. لكن جهامة الواقع غطت علي كل ترحيب. فالبيوت ليست كبيوتنا, بل هي كئيبة منفره, ومواسير المياه لم تمتد بعد أو حتي الانارة. حنفية عمومية واحدة مقتصرة علي الميدان الرئيسي.. القوم يدخولون البيوت ويخرجون بسرعة, يقفون امام الابواب في حيرة وتعاسة بعضهم كان يبكي وتفكه أحد المسنين: ـ ـ لقد نشلونا.
ولابد أنني ضحكت برغم مأساوية الموقف, فسبني وسب أهلي, ولكنهم جميعا دون استثناء لم يكن بوسعهم إبداء اقل مظاهر الاحتجاج. كانت الكلمة في ابسط صورها تؤدي للهلاك. وكلما سألهم الكبار عن الاحوال كانوا يرددون الحمد لله مبسوطين. ربنا يخلي جمال كان قهر الر وح وكبت المعارضة هو الثمن الفادح لهذا التحول القسري. مما جعل حجم التضحية أكبر من ان يتحمله هؤلاء المساكين في سبيل مشروع لاشك في حيويته العظمي للوادي الخصيب في كل العصور.
تقنيات التضاد والدهشة: لأن ادريس علي فنان موهوب فهو قادر علي ان يبرز شخصيات روايته ومواقفهم عبر تقنيات روائية تعتمد علي حوارية المفارقة والتضاد من ناحية, وغرابة الغموض والتسويق من ناحية آخري.
فإذا كان شباب اهل النوبة يتحمسون للهجرة, ويصدقون وعودها الوردية, وهم مستعدون للتضحية من اجل المستقبل المأمول, فإن الشيوخ بخبراتهم المتراكمة وارتباطاتهم الحميمة بالارض وتراث الاسلاف اقل تفاؤلا وأكثر توجسا ومرارة, فهم يجفلون من كل تغيير يمس نمط حياتهم ويضمرون حنقا مكظوما علي ممثلي السلطة.وقد لجأ أحدهم ـ الشيخ فضل الله ـ الي الهروب من الفوج الاول, ولم يعثر له علي اثر, مما ازعج المسئولين وراحوا ينبشون عنه الارض والمركب والقرية دون جدوي, وظل طيفه يخايل الشباب والشيوخ مذكرا أياهم بمأساة اقتلاع الجذور وتغريب الفروع. ولكي يقدم الراوي رؤيته للنسيج الملتئم ـ الظاهر ـ لاهل النوبة, وتوزعهم في الحقيقة علي أصقاع وقبائل مختلفة, وضع في طريقه شخصية غريبة, لرجل يحتفي به الكبار, بالرغم من بشرته السوداء, وجواز سفره الانجليزي والغليون الانيق المتدلي. من فمه. وجعله يصطدم به في حوار ساخر وساخن, كي يكشف عن فصائل نوبية, تسكن داخل حدود السودان, قامت بصد موجات الغزو الفرعوني والعربي والمملوكي عند دنقلة. مضيفا ملاحظات طريفة, مثل قوله: لم يكن لقوي فضل كبير في رد الزحف العربي, لأن الجنود العرب لم يجدو لدينا ما يحفزهم علي مواصلة الزحف, لا فيء ولا سبايا جميلات.
ثم يقدم نفسه باعتباره من أشرافهم. وكيف أنه تعرض لمحاولات اغتيال عديدة عقب زيارته لموطنه, ووقوع بعض الاضطرابات والاشتباكات بين القبائل والحكومة السودانية فيها. مما جعلهم يعتقلونه. ولولا جهود زوجته المصرية- وهي قبطية كانت تلميذته في إنجلترا- قامت بدور فتحية مع نكروما- فقادت حملة دولية للإفراج عنه. اتصلت بالبابا وملكة إنجلترا. وجمعيات حقوق الإنسان. ولما أخفقت لجأت للعظيم عبد الناصر- وهو رجل قوي وزعيم حركة التحرير وله نفوذ جبار. تدخل بثقة- فأنقذني, وأنا مدين له برقبتي. الطريف أن هذا الغريب يعود مع الراوي إلي قريته ويتخذه دليله, للبحث عن المعمر المتفرد كنود الذي كان يقطن بيتا متهدما فوق جبل العلياب. وبناء علي نصيحة الرحالة الإنجليزي مستر نلسون- الذي كان كنود يعمل في شبابه طاهيا ودليلا له- يحضر معه قدرا من التبغ وزجاجات من الشراب, حتي يستعيد ذاكرته ويقص عليه أسرار القبائل الأصلية. يلفت نظره صندوق زوجته العجيب, فيقعي بجواره, ويستخدم بطارية وعدسة مكبرة لقراءة النقوش والرسومات. تابعته حين سلط الضوء علي صورة امرأة حسناء, تحمل طفلا أجمل منها.. إنها ليست مجرد صورة. إنما حقيقة تنقصها الروح لتنطق وترمش بعيونها وتتحدث معنا.. الألوان زاهية, والعيون ساحرة. من تكونين يا ربي؟ ولم يلبثوا أن تبينوا أنها صورة العذراء مريم. ومع أن العمدة يسأل المعمر العجوز بخبث:-
- لكن ما الأمر ياكنود؟ أكنت تصلي معنا الجمعة وأنت نصراني؟! غير أن الراوي يعلق بفطنة قومنا لا تطرح بينهم هذه الأسئلة. المسافات بين العقائد غير محسوسة عندنا. لا يحفرون وراء المسائل, بدليل أن العمدة المتدين الوقور يجلس الآن بين اثنين يتعاطيان المنكر أمامه. إنهم يعمدون أطفالهم في النهر كعادة متوارثة. ولم يسألوا أنفسهم يوما: أهي عادة فرعونية أم نوبية أو قبطية. وضبة الباب علي هيئة صليب منحوت, وأمي تقول مستجيرة أنا في عرض مريم, مع أنها لا تعرف من تكون مريم هذه, وتظنها من آل البيت مثل السيدة زينب وحتي لو عرفت فلن تتغير مشاعرها.
هذا هو النسيج المصري الملتئم بصدق في النوبة, مثل الصعيد والدلتا. والولع بالأسرار لن يفضي إلي تشقيقه أو نقض تجانسه, لكن تظل تقنيات الشخوص المتضادة والرموز الغامضة من أكثر عناصر السرد الروائي تحفيزا لنشاط القاريء وإنعاشا لمخيلته وإثارة لقدرته علي الاستمتاع الجمالي.
اندثار العالم القديم: الرواية علي صغرها مكثفة وبليغة.. فهي تضفر عالمها بحيوية عجيبة. إذ بينما تقدم مرثية رحيل أهل القرية في أصعب يوم, حين وصلت بواخر الرحيل وأطلقت صفاراتها بكي الرجال أول بكاء جماعي لهم نجد أنها تقدم مجموعة من الرموز التي تصور اختفاء هذا العالم, فصندوق المعمر كنود لتحطيم خلال نقله إلي المركب يهوي لأسفل محدثا دويا هائلا تتناثر محتوياته, وإذا بها لا شيء.. لا ذهب ولا كنوز سليمان كما كان يظن الناس, مجرد سيوف قديمة صدئة وملابس مهلهلة وتماثيل صغيرة لمساخيط لا قيمة لها والغريب الذي كان مهووسا بفض أسرارها وعرض ألف جنيه كاملة لشرائها انتهي أمره بدوره بشكل مأساوي, حيث لمح الراوي جثته طافية علي صفحة ماء النيل, وعندما عثر علي المراكبي الذي كان يقله تحايل عليه حتي أسكره بالشراب وضغط عليه كي يعترف بظروف مصرعه, فتبين أنه لقي حتفه في نزاع تافه مع أحد المرشدين السياحيين النوبيين أيضا, وهما يتجادلان في أصل القبائل ومن هو الأعرق منهما. لكن النموذج المحوري الذي يفرض صورته ويبسط ظله علي امتداد الرواية كلها هو الجد الذي استعصي في بداية الأمر علي الرحيل, فأحاط به العمدة واعتصمت معه الاسرة مهددين بالبقاء الانتحاري معه, فتركهم ونزل إلي النيل يضرب الماء بقوة في اتجاه الشمال حتي حاذته الباخرة المقلة للمهاجرين وضبطت سرعتها علي حركته.. كان منظره جميلا وهو يهز رأسه يمينا وشمالا ويسابق تماسيح النيل بينما أخذ الراوي ورفاقه ينشدون في حب موطنهم أنشودة حرفوها لتقول:-
بلادي.. بلادي.. كش( وهو اسم القرية) يا أم البلاد.. لك حبي وفؤادي.. مصر غايتي والمراد. مشهد رائع يمكن بالفعل أن يظل محفورا في الذاكرة أربعين عاما, حيث يضفي علي عملية التذكر والاستحضار كل ما تزخر به من شجن. وتضمره من عذاب, وتبعثه من مواجد الماضي بلحظاته المشحونة, وشخوصه المتضادة وحيوته المثيرة. لكن الدلالة الأخيرة للرواية يصنعها مشهد آخر لهذا الجد ذاته, بعد أن استقر في القرية الجديدة, وعقد علاقات ودية مع قري الصعيد المحيطة بها, حتي أدركته نوبة اكتئاب عارمة في أحد الأصياف اللاهبة, فأخذ يتخبط من مكان لآخر في بيئة قاسية لم تنبت بها شجرة تخفف لهب الحجر, أصابته حالة يأس مريع فأضرب عن الحياة والطعام والشراب. جاءوا له بأولاده, ابنه الذي كان قد غضب عليه لتزوجه من قاهرية, انكبت زوجة الابن الحسناء عليه تقبله وتسترحمه كي يشفق علي نفسه, ينتعش لحظة ويقبل جرعة ماء وبعض حساء قبل أن يلفظ نفسه الأخير. يترك قومه, وحفيده خصوصا وهم يقفون عند حافة التاريخ, يحتفظون بتوازنهم, حاملين النوبة في وجدانهم. وحين يشتد بهم الحنين يغنون أسمر اللون, وحين يضيق بهم الحال ويحاصرون بآلات التذويب الجهنمية في المجتمع الجديد يراوغون ويهربون, ويلجأون لرقصة الاراجيد التي ترمز لفنهم النوبي الأصيل.
هكذا يستنقذ إدريس علي عالم النوبة المتفرد, ويستعيد ملحمة تهجيره, بنفس روائي عميق, وحس تاريخي يبعث نسخ الحياة في الماضي الماثل في قلب الحاضر. http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/7/29/WRIT2.HTM
| |
|
|
|
|