تجربة عمال السكك الحديديه تلقى الضوء على مسائل هى فى قلب النقاش الذى يدور حول العمل و تاريخ الطبقه العامله فى مجتمعات فترة عهد الاستعمار و مااعقبها. يبرز بشكل خاص دور العمل السياسى و الاجتماعى فى المجتمعات الافريقيه و الشرق الاوسط و نجاح و اخفاق الحركات الاشتراكيه فى تلك المجتمعات و الصراع بين الدين و الايدلوجيات العلمانيه و علاقة العمال بالدوله، و موقع الحركه العماليه فى عالم اليوم.
فى الشان السودانى، يمكن اعتبار عمال السكه الحديد فى عطبره روادا لعبوا دورا اساسيا فى تطوير مجتمعهم. هؤلاء العمال شكلوا المحور لحركه عماليه دائمه تعمل بشكل صناعى حديث ، لها هيكل للسلطه و الانضباط و اخلاقيات العمل. ان عمال عطبره و معظمهم مهاجرون ريفيون، احتضنوا المثل الصناعيه للسكه الحديد و جعلوا منها قاعده لهويتهم الجماعيه. فى بلد الغالبيه العظمى من سكانه هم من المزارعين و البدو الرحل، اوجد عمال السكه الحديد حسا قويا بالتفرد و اعتبروا انهم رسل الحداثه و التغيير الاجتماعى التقدمى. ان انتسابهم لصناعة السكه الحديد ودورها المركزى فى اقتصاديات البلاد سمح لهم بان يتصدوا لمطالب مشروعه كعمال و كمواطنين. انشأ عمال السكه الحديد مؤسسات المجتمع المدنى وقد جمعوا بين قيم المجتمع الريفى الذى يستندون اليه و مجتمع المدينه و خلقوا ثقافه عماليه تعتمد على العمل الجماعى والتضامن و تجانس ذلك مع قيم المجتمع السودانى مما شكل سندا لهم عند تقديم مطالبهم و احتياجاتهم و قد ظل ذلك الرباط القوى و البساطه و العمل الجاد مصدر اعزاز لهم.
اثبتت تجربة عمال السكه الحديد فى عطبره مقدرة العمال فى افريقيا على تشكيل مؤسسات كالنقابات لتلائم احتياجاتهم و طموحاتهم. لقد انشاوا تنظيما عماليا فعالا حيا ادى الى ظهور قياده من القواعد امدت البلاد بمعظم القاده البارزين فى الحركه العماليه، و كما راينا، فان نشاطات نقابة عمال السكه الحديد تعدت الكفاح بقضايا الاجور و الشئون المهنيه و ارتبطت بالحياة الاجتماعيه و السياسيه. ان من ابرز مظاهر تجربة عمال السكة الحديد هو تحالفها الوثيق مع اليسار السودانى من جهة تحدى المفهوم الذى يرى ان الدين هو القوة الوحيده التى تشكل و تحوّل المجتمع المسلم. هذا الامر ذو اهميه خاصه نظرا للانحسار العالمى لليسار و البروز الحديث للحركات الاسلاميه فى افريقيا و الشرق الاوسط و جهدها لاقامة الدوله الاسلاميه فى هذه المجتمعات وهذا بدوره يثير السؤال عن مكانة و دور الحركه العماليه فى المشروع الاسلامى. من جهة اخرى، كشف عجز الحزب الشيوعى فى حشد عمال السكه الحديد حوله فى الامور التى تتخطى الحركه المطلبيه عن التداخل المركب بين الثقافه و بنية العوامل التى تشكل وعى العمال و سلوكياتهم. ان تبنى الحزب الشيوعى كحزب ماركسى لينينى لديكتاتورية البروليتاريا التى تنظر الى الطبقه العامله كوحده واحده متشابهة التكوين و فقط من خلال موقعها فى التركيبه الاقتصاديه- الاجتماعيه الى نظرة فوقيه اهملت الطبيعه الانسيابيه و المتحوله للشخصيه العماليه و حقيقة ان للعمال دوافعهم و استراتيجياتهم وطرقهم الخاصه لمجابهة متطلباتهم وتحقيق اهدافهم.
اضمحلال حركة عمال السكه الحديد و تدهور مدينة عطبره كمركز للنشاط العمالى يعكس الكثير عن طبيعة الدول الافريقيه التى نشأت بعد فترة الاستعمار و اتجاهاتها نحو الحركه العماليه. لقد كشفت الحكومات المدنيه و العسكريه المتعاقبه عداء نحو الحركه العماليه و اطلق تحالف نظام مايو و راس المال الاجنبى القوى السياسيه و الاجتماعيه التى ادت الى انهاء دور السكه الحديد كمؤسسه ذات دور اساسى فى التغيير. لابد هنا من الاشاره لدور العمال انفسهم فيما لحق بهم من مصير، فقد ظل عمال السكه الحديد لا يستجيبون الى ما يفرض التضامن مع اتحاد عمال السودان العام و قد ادى ذلك مع ضعف القياده العماليه اواخر عام الثمانين الى نتائج خطيره، حيث انخرط عمال السكه الحديد بمفردهم فى معارك ضد نظام نميرى و بذا وجد النظام الفرصه الذهبيه للقضاء على حركتهم.
على الرغم من الاضمحلال الذى اصاب الحركه العماليه، فان عمال السكه الحديدفى عطبره قد شيدوا حركه عماليه ذات وجه اشتراكى و ابتدعوا صنوفا من النضال اضحت مثالا لمقاومة انظمة البطش و لقد برهن اللجو الى ذلك الرصيد من اسلحة ثقافة المقاومة السياسيه كالاضرابات العامه و الاحتجاجات و العصيان المدنى نفسه فى انتفاضتى اكتوبر 1964 و ابريل 1985 و سقوط نظامى عبود ونميرى. على الرغم مما يدور، فان مدينة الحديد و النار تبقى رمزا للامل و التحدى. انتهى
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
Ahmed Al Bashir
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست