|
الثمن الذى قبضه هتيفة إغتيال .. الأستاذ محمود .
|
لأنى كنت أعرف الرجل .. وأعرف قدره , ففى صباح يوم السابع عشر من يناير عام 1985م , وهى اليوم السابق للموعد المحدد لتنفيذ حكم الأعدام فى الشيخ الشهيد الأستاذ محمود محمد طه بسجن كوبر الكئيب , حضرت من مستشفى مدنى حيث كنت أعمل كطبيب أمتياز فى ذلك الوقت , وجئت للخرطوم ممنيا نفسى بالأشتراك فى أنتفاضة شعبية أو أى عمل جماهيرى , وكنت أتوقع حدوث مثل هذا التحرك فى ذلك اليوم . ولمعرفتى بأن بداية أى نشاط جماهيرى مصاحب للأحداث السياسية يمكنه أن يبدأ من نبض الشارع الحقيقى .. جامعة الخرطوم .. توجهت أليها . وقد كان .. ففى مساء نفس اليوم , أقام الأخوان الجمهوريين ندوة محضورة بعدة آلاف من المشاركين والمستمعين فى الميدان الشرقى لجامعة الخرطوم . أدار تلك الندوة الأستاذين أحمد المصطفى دالى وعمر القراى , وتحدث فيها الكثيرون من ممثلى الأحزاب والنقابات والأفراد ومن مختلف ألوان الطيف السياسى السودانى , وكنت أحد المتحدثين فى تلك الندوة , وكان رأيئ حينها , إن أفضل وأقصر طريق لتخليص الأستاذ محمود من الموت هو تكوين مسيرة هادرة والتوجه بها الآن الى سجن كوبر , وأقتحام أبوابه بالقوة أذا لزم الأمر وتخليص الأستاذ من براثن الهوس الدينى قبل إغتياله فى صبيحة الغد مهما كلفنا ذلك من تضحيات , وأن هذا العمل ليس مستحيلا أو صعبا على الشعب السودانى .. وقد فعلها قبلنا الشعب الفرنسى بإقتحامه لسجن الباستيل . هذا الإقتراح أيده أغلب حضور تلك الندوة وهتفوا له , ولكن .. ولسبب أو لآخر , لم يوافق الأخوان الجمهوريين عليه , وما كان لهذا الأقتراح بالتحرك عندها أن يتم بدون موافقة الأخوان الجمهوريين عليه وقيادتهم له , أو على أقل تقدير .. أشتراكهم الفعلى فى تنفيذه وهم أصحاب "الوجعة" . وأنتهت تلك الندوة بعد الكثير من النقاش والمداخلات الغاضبة , وكان الشعور العام هو مزيج من الحزن والغضب والأحباط الشديد.
فى الصباح الباكر , كنت من ضمن عشرات ,أو مئات, الآلاف من السودانيين المتجهين الى سجن كوبر , وكنا خليط من المنددين والفضوليين والمؤيدين .. ومنتظرى حدوث المعجزات . وفى ذلك اليوم , ولأضفاء صبغة التأييد الشعبى لهذا الإغتيال السياسى المدبر حتى من قبل أن تبدأ المحاكمة نفسها , والأصرار على صبغه بالصبغة الدينية , وبتنظيم دقيق يُحسدون عليه , حشدت جماعة الهوس الدينى من مختلف الملل المتأسلمة فى السودان لهذه المناسبة كل كوادرها وأتوا بها الى سجن كوبر . أتوا بهم فى شكل مسيرات صغيرة أو محملين بالباصات من كل أقاليم السودان , وخلافا لغيرهم , كان سهلا عليهم تماما أن يهتفوا ويكبروا ويهللوا تأييدا لأعدام "رأس الشرك" محمود محمد طه , ولم لا .. وهم محميون ومسنودون بالكامل من قبل النظام وأمنه وسلاحه . خليط غريب من الشطط والفهم المتنافر للدين وإستغلاله , أخوان مسلمون , وجماعة تكفير وهجرة , ووهابية .. وبعض أدعياء الصوفية , كل هؤلاء , جمع بينهم وبين السلطة الحاكمة وقتها , كرههم الشديد للأستاذ محمود , وجزعهم من عفة يده ونزاهته , وأنكسارهم أمام مواقفه الصلبة , وخوفهم وهلعهم الشديد على مصالحهم عند أتى الأستاذ محمود بفهم وتفسير جديد للدين يعرفون تماما انه سيكشفهم وسيسقط عنهم تلك القدسية والهاله التى رسموها لأنفسهم بأسم الدين أمام البسطاء من الناس . تيقنوا أن هذا الفهم الجديد للدين .. سيقطع عليهم الطريق تماما فى إستغلالهم لهذا الدين وخداع بسطاء الناس به والأثراء من ورائه . نسوا كل خلافاتهم وأختلافاتهم وتكفيرهم لبعضهم البعض .. وأصروا وأتفقوا جميعا على أغتيال الشيخ محمود . ولكن .. البعض منهم وقتها ما كان يعلم أن هذه السنة التى سنها وشارك فى تفعيلها لتصفية خصومه من المفكرين وأصحاب الرأى , سيأتى يوما لتحصده هو نفسه وتحصد معه أهله وقراه ومدنه .. وإن أختلفت مسمياتها وتبريراتها , وأن هذا هو أجره منها وأجر من عمل بها .. الى يوم الدين .
فى ذلك اليوم , صفوف طويلة من البشر حاولت الدخول الى سجن كوبر , وآلاف من الناس أعتلوا أسقف المنازل والأشجار وكل ما يمكن الصعود عليه حول أسوار السجن لرؤية لحظة التنفيذ . ولم أتمكن أنا من الدخول الى ساحة السجن حتى تمام التنفيذ , ولكنى عرفت , وبالتفصيل الشديد , كل ماحدث داخل ساحة الأعدام . ورجعت مغبونا ومهموما ومحزونا الى حراسات "القسم الجنوبى" فى أمدرمان حيث كانت تُعتقل شقيقتى الصغرى مع مجموعة كبيرة من الأخوان والأخوات الجمهوريين لحين تمام تنفيذ حكم الأعدام . وأنتظرت خروجهم , وأستقبلتهم ومعى مجموعة من الأقارب والأصدقاء وأخبرتهم بتمام التنفيذ , وكانوا مذهولين وغير مصدقين أن جريمة أغتيال أستاذهم ووالدهم .. تمت وبتلك السهولة .
ولكن ..
هل كانت جريمة أغتيال الأستاذ محمود جريمة سهلة ؟؟.
وهل حقق المشتركون فى تلك الجريمة .. أهدافهم من أرتكابها ؟؟.
وهل توقف القتل .. بعد التأمر المحكم وتدبير وتنفيذ إغتيال الأستاذ محمود ؟؟.
وهل سلم من هذا القتل , وبأيدى نفس قتلة الأستاذ .. من شاركهم فى إرتكاب تلك الجريمة البشعة؟؟
|
|
|
|
|
|