وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة.

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-21-2024, 08:07 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-17-2005, 08:03 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. (Re: محمود الدقم)

    كيمياء السلطة في السودان

    لقد توزعت الحركة السياسية السودانية منذ نشأتها الأولى إلى ثلاثة مشاريع سياسية كبرى, هي المشروع الإتحادي العروبي والشروع الأستقلالي الديني والشروع الحداثي العلماني. قد جاءت هذه المشاريع السياسية باعتبارها تصورات سياسية لمستقبل الوطن وهو على أعتاب الإستقلال، متباعدة ومتنافرة وبلا قإسم مشترك وكأنها ثلاثة تصورات لمستقبل ثلاثة أوطإن مختلفة. فليس ثمة أرضية واحدة تجمع ما بين دولة إتحادية كبرى يكون السودان فيها إقليما مصريا . وبين دولة ثانية مستقلة هي، في جوهرها ،إستعادة للحكم الوطني المهدوى الذي دمره الفتح الإنجليزي - المصري. وبين دولة ثالثة لبرالية تعددية علمانية على نمط الدولة القومية الحديثة في أوروبا .

    يقترح هذا الوضع السياسي منطقا يقول أن تجلى أي من المشاريع السياسية على السلطة يعنى بالضرورة نفى وإبعاد المشروعين الآخرين من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تجلى أي مشروع سياسي على السلطة لا يتم إلا بإستخدام القوة. فالقوة هي الآلية الوحيدة لنفى الآخر وإبعاده. وهذا يعنى مرة ثالثة إن الإنقلاب العسكري هو الآلية الوحيدة لاستلام السلطة في السودان .

    غير إن واقع الحال يشهد إن الأمر ليس كذلك إذ هنالك آليتين أخرتين للسلطة في السودان. فهناك الحزب السياسي وسيلة من وسائل الوصول إلى السلطة وهنالك أيضا التمرد المسلح المتوطن في جنوب السودان. هذه الآليات الثلاث لاستلام السلطة حددت السياق السياسي السوداني في ثلاث ظواهر سلطوية هي:

    1 - ظاهرة السلطة الديمقراطية التعددية وآليتها الحزب السياسي.

    2 - ظاهرة السلطة الشمولية العسكرية وآليتها الإنقلاب العسكري.

    3- ظاهرة سلطة الحرب الأهلية وآليتها التمرد المسلح في الجنوب.

    وللوصول إلى فهم اشمل لكيمياء السلطة في السودان فإن علينا إن ندرس كل ظاهرة من هذه الظواهر ثم نتتبع بعد ذلك تطور أو تدهور آليتها، لإن ذلك يعطينا صورة واضحة عن إتجاهات حركة السياق السياسي السوداني ويعيننا في تلمس الأبعاد الحقيقية للأزمة السياسية السودانية الراهنة.


    1 - السلطة الديمقراطية والحزب السياسي

    نشأت الأحزاب السياسية السودانية الرئيسية ذات الثقل الجماهيري والأقرب دائما للوصول إلى السلطة، نشأت منقسمة حول مبدأين لا ثالث لهما. الإتحاد مع مصر أو الإستقلال التام . ونجرأ على القول هنا إن كلا المبدأين زائف. فمن ناحية، كيف ينشا حزب سياسي وليس له من هدف سوى إلغاء وجود الوطن بضمة إلى دولة جارة؟ ومن ناحية أخرى فإن شعار (الإستقلال التام) كان هو الآخر تعبيرا عن مبدأ زائف إذ لم يكن يهدف حقيقة إلى تحقيق الحرية السياسية للشعب السوداني، وإنما كان يرمى إلى إعادة الدولة الشمولية الدينية.

    إذن ثمة بعد مضمر يكمل المعلن من الشعارين السياسيين الذين رفعهما التيارإن الكبيرإن، (الإستقلالي الديني) و(الإتحادي العروبي)، في بداية الحركة السياسية الوطنية. أما البعد المضمر في شعار (الإتحاد مع مصر) فهو: (إجهاض مشروع إعادة الدولة المهدية). وبهذا يكون البعد المضمر من شعار: (الإستقلال التام)، هو: (عودة السودان كما كان قبل الفتح الإنجليزي - المصري محكوما بواسطة أهله الذين هم الأنصار). وهذا تحديدا ما أسموه طموحات السيد عبد الرحمن المهدى والتي أرهبت مصر والإتحاديين والختمية والإدارة البريطإنية في السودان. فقد كتب المستر وليام قلن بلفور بول الذي عمل إداريا في السودان خلال تلك الحقبة، كتب قائلا:

    (كانت المنافسة القائمة منذ أمد طويل بين الطائفتين المسلمتين الرئيستين أتباع السيد عبد الرحمن المهدى والختمية الرافضة للمهدية ، بقيادة السيد على الميرغنى، اشد ضررا علي التطور المستقر للقطر من مؤتمر الخريجين فيما يعتقد معظم الإداريين البريطإنيين. وقد كان مفهوما أن تقمع المهدية المتجددة في السنوات المبكرة للحكم الثنائي وأن يخلع التأييد على الطائفة الرئيسية في معارضتها لها. وكانت سياسة رد الإعتبار للسيد عبد الرحمن قد أملاها على البريطإنيين عند إندلاع الحرب العظمى في عام 1914، الرغبة في مقاومته دعوة العثمإنيين إلى الجهاد. والنهوض بشخصيته في حذق، قد دفع زعيمي الطائفتين بأضطراد للإصطدام. وكانت الشبهات المبررة التي تشارك فيها حكومة السودان، المنبعثة من إنه كانت للسيد عبد الرحمن طموحات في الملك، هاجسا يثير مخاوف معارضيه، والسبب الأساسي للإرتباط التدريجي من قبل السيد على الميرغنى بالنشاط الموإلى للمصرين. وقد أرهب نفوذ السيد عبد الرحمن المتنامي حكومة السودان أيضا).

    والسؤال الذي يهمنا في هذا الجزء من العمل هو: هل هنالك أي توجه ديمقراطي ليبرالي علماني تعددي في أي من هذين التصورين السياسيين لمستقبل السودان؟.

    نجيب هنا بمزيد من الاسئلة:

    - هل الإنضمام لمصر والإتحاد معها يسمح، بأي حال من الأحوال، إذ تحقق، بقيام حزب آخر ينادي بإنفصال السودان عن مصر وإستقلاله من داخل الدولة الإتحادية؟
    - هل تسمح عودة السودان لما كان علية قبل الفتح، إذ تحققت، بوجود حزب سياسي ينادي بإلغاء وجود السودان وضمه إلى مصر؟

    فأذا كانت الإجابة على كلا السؤالين هي لا، بالضرورة، فأين يمكن إن يوجد التوجه الديمقراطي العلماني هنا؟ وإذا كانت إتفاقية السودان، إتفاقية الحكم الذاتي (1953)، قد نصت بإن يستفتي الشعب السوداني في نهاية الفترة الإنتقالية بين أمرين لا ثالث لهما وهما الإرتباط بمصر أو الإستقلال التام بالمفهوم المهدوى، فإن ذلك كان يعني بإن السودان صائر، لا محالة، لأحد هذين الخيارين الذين ينعدم فيهما وجود الديمقراطية العلمانية. وهذا تحديدا هو ما أصاب البريطإنيين باليأس والشعور بالهزيمة. فقد وافقوا علي خيارين لمستقبل السودان ليس في أي منهما مكان للديمقراطية العلمانية التي كانوا هم رسلها للعالم الثالث. إذن ، لمإذ نشأت الأحزاب أصلا، إذ لم تكن نشأتها تؤدي إلى نظام ديمقراطي؟.

    نقول هنا، بإن إنشاء الأحزاب السياسية، أو علي الأقل، الحزبين الكبيرين (الأمة) و(الوطني الإتحادي)، هو أمر أملته الضرورة، إذ لا بد من قيام كيإن سياسي يحمل عبء الدعوة لعودة السودان للمهدية، أو عبء الدعوة لإبعاد السودان عن العودة للمهدية بإنضمامه إلى مصر. وذلك بسبب أن مصر والسودان كانتا تحت الهيمنة البريطإنية. وبريطانيا لم تكن لتسمح بقيام أية وسيلة سياسية سوي الحزب السياسي المكون علي أساس لبرالي.


    وإذا شاءت الأحزاب السودانية الكبرى إن ترتبط بأهداف غير ديمقراطية، فإن هذا يعني إن هذه الأحزاب قد شاءت إن يكون النهج الديمقراطي وسيلة مؤقتة تنتهي بإنتهاء وسيلة الإستفتاء. فبعد عملية الإستفتاء لن يبقي غير حزب واحد، فإذ قرر الشعب السوداني الإتحاد مع مصر، فإن المنطق يقول بنفي وإبعاد (حزب الأمة)، أما إذ حدث العكس وقرر الشعب الإستقلال ومن ثم العودة إلى الحكم المهدوى، فلا مكان للإتحاديين في السودان، و(لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب)، كما فسر السيد عبد الرحمن شعاره الغامض (السودان للسودإنيين) بهذا القول الداعي للشمولية الدينية.

    وكان لا بد من حدوث معجزة لتنقذ السودان من هذا المصير المظلم الذي تحدد مسبقا في إتفاقية الحكم الذاتي عام 1953. فكيف جاءت هذه المعجزة ومن أين؟

    أول الفرج قد جاء علي يد الشعب السوداني عندما قرر أن يهزم حزب الأمة في إنتخابات سلطة الحكم الذاتي عام 1953. ولا شك أن الإتحاديين قد فهموا هذه النتيجة الإنتخابية على أنها تعني هزيمة مشروع السيد عبد الرحمن الذي ظاهره الإستقلال وباطنه إعادة الدولة الدينية المهدية.

    تلي ذلك وفي حوالي عام 1954 نمو خطاب سياسي راديكالي في مصر لم تستسغه الإذن الإتحادية التي تربت علي الخطاب العلماني في مصر ما قبل الثورة، كما لم تفهمه القاعدة الإتحادية المكونة أساسا من البرجوازية التجارية السودانية التي يرعبها مثل هذا الخطاب الثوري المليء بمفردات التأميم والمصادرة ونصرة الفلاحين والعمال والكادحين. فهؤلاء الأخيرين هم قاعدة (حزب الأمة)، وفي أحسن الأحول سند اليسار السوداني. وكان لا بد أن يقل حماس الحزب (الوطني الإتحادي) تجاه مبدأ الإتحاد مع مصر، خاصة وإن الخطر الأنصاري حجم ولو مؤقتا.

    ولم يتبقى من خطر يهدد السودان سوي إن يلجأ أهل المشروع المهدوى الديني للعصيإن والجهاد. فهذه ورقة لا يفوت علي سياسي بارع مثل السيد عبد الرحمن أن يلوح بها في وجه الإنجليز محذرا من ترك المصريين يستولون علي السودان. ففي مقابلة له مع سلوين لويد وزير الدولة بوزارة الخارجية البريطإنية عند زيارته للسودإن في مارس عام 1953، ألمح السيد عبد الرحمن المهدي للسياسي البريطإني بهذا التهديد مبطناً بدبلوماسية السيد عبد الرحمن العبقرية حيث قال له:

    (إن البريطإنيون يفضلون دون شك إن تتسم المنطقة الواقعة خلفهم بالإستقرار في حال وقوع مزيد من الأضطرابات والإصطدامات في منطقة قناة السويس، مؤكدا إن الموقف كان هادئا في السودان عند وقوع هذه الأضطرابات في مصر من قبل، بفضل تعاون حزب الأمة مع حكومة السودان ) .

    وكان الإداريون البريطإنيون في السودان مقتنعين بإن نتائج الإنتخابات لن تثني السيد عبد الرحمن المهدي عن هدفه الكبير، وإن إستخدامه للعنف كان واردا تماما. فقد جاء في مذكرة الحاكم العام إلى وزارة الخارجية البريطإنية الصادرة في 3 أغسطس عام 1954 ما يلي: (إذا كان التحليل السابق صحيحا فإن موقف السيد عبد الرحمن المهدي والأنصار، خلال الفترة الإنتقالية سيتسم بالهلع واليأس، ونحن لا نستطيع إن نأمل في إن يتأقلم مع وضع يعرف إنه شديد التهديد لقوته وسطوته الشخصية ومركزه، ويقوي من خصمه اللدود السيد علي الميرغني. وسيتجه عقله أكثر فأكثر نحو العنف كلما أحكم الحزب الوطني الإتحادي قبضته في القطر، وسيتمزق بين الهجوم قيل فوات الأوان والأمل في إن تتدخل حكومة صاحبة الجلالة لإنقإذه .........

    لقد تنأولنا إلى حد ما في مستهل هذه المذكرة خطر حرب أهلية تصدر عن المهدويين كما ورد في الفقرة أعلاه ومهما يكن من أمر فإن الحرب الأهلية ستؤدي إلى كوارث علي السودان والمصالح البريطإنية )

    وكان لا بد إن تؤدي هزيمة مبدأ الإتحاد بسبب الثورة المصرية الجديدة، وهزيمة مبدأ العودة للدولة الدينية المهدية في صناديق الاقتراع، إلى إن يتراضى الطرفإن مؤقتا علي إستمرار نظام حكم الفترة الإنتقالية الديمقراطي العلماني ودستور الفترة الإنتقالية العلماني المؤقت والحصول علي إستقلال البلاد عن هذا الطريق حتى إشعار آخر.

    هكذا دخلت تاريخ التجربة السياسية السودانية السلطة الديمقراطية العلمانية بصفة مؤقتة، وظل هذا قدر هذا النوع من السلطة في السودان، تلجأ إليه الساحة السياسية السودانية في وقت الأزمات والمنعطفات الخطيرة و تتراضى حوله مؤقتا.
    وهذا يعني بإنه ليس هناك علاقة مباشرة بين حقيقة تبلور التيارين السياسيين الرئيسيين في أحزاب، وبين تجلي النظام الديمقراطي التعددى عشية الإستقلال. نعم إن الأحزاب قد تكونت كوسائل للوصول إلى السلطة، غير إن الوصول إلى السلطة، حسب أيديولوجيات هذه الأحزاب نفسها، هو نهاية المطاف، فأما إنضمام إلى مصر ونفي التيار الديني الإستقلالي أو دولة مهدوية دينية، وبالتالي نفي التيار الإتحادي العروبي.

    كان هذه الفهم سائدا حتى توقيع إتفاقية السودان (الحكم الذاتي عام 1953) بين مصر وبريطانيا، حيث كان ولا يزال الإتحاديون يتمسكون بمبدأ الإتحاد، وكان حزب الأمة لا يزال يمثل تهديدا ضخما لمستقبل السودان حسب رؤية الإتحاديين والبريطإنيين علي السواء. وكانت المفاجأة هي هزيمة حزب الأمة في إنتخابات أواخر 1953. ثم كان التحول الدراماتيكي في موقف الإتحاديين من الإتحاد مع مصر. وهكذا أجريت الإنتخابات والغي الإستفتاء وحدث الإستقلال دون إن تقع المواجهة بين التيارين الكبيرين.

    ولكن ظلت أي محاولة لفرض أي من المشروعين علي مستقبل البلاد، أو منع ذلك، لن يتم إلا بإستخدام القوة العسكرية. وإن كانت هذه المناجزة العسكرية لم تقع بعد الإنتخابات والإستقلال مباشرة، فإنها قد ظلت احتمالا مضمرا قابلا للتجلي في أي لحظة تكتمل شروطه.

    وفي واقع الأمر، فإن تاريخ السلطة في السودان ما هو إلا تاريخ الإنقلابات العسكرية المتبادلة بين هذين التيارين. فقد حرك التيار الديني إنقلاب عبود عام 1958، وحرك التيار العروبي إنقلاب نميري عام 1969، وحرك التيار الديني إنقلاب اليشير عام 1989

    وإذا كان هذا التحليل يؤدي إلى الإعنقاد بإن الأحزاب هي صانعة الإنقلابات العسكرية، فهذا ما رمينا إليه تحديدا، وما سنحاول إن نناقشه في العنوإن القادم .


    2- السلطة الشمولية والإنقلاب العسكري

    لم يكن دستور السودان المؤقت والذي هو دستور الفترة الإنتقالية من الحكم الذاتي إلى الإستقلال لم يكن يحظى بإحترام أي طرف من الأطراف داخل برلمان الحكم الذاتي. وكان ينظر إلية كآخر بقايا العهد الإستعماري. غير إن إستبداله بدستور دائم للبلاد وضمن التركيبة السياسية التي ناقشناها سابقا كان أمرا مستحيلا. فاخطر ما في الدساتير أنها تحدد، وبصورة قاطعة ونهائية نظام الحكم ونظام إنتقال السلطة. وحيث أن الوضع في السودان لم يكن يعدو أن يكون هدنة مؤقتة ريثما تخرج من البلاد دولتا الحكم الثنائي، فإن إنجاز دستور دائم كان رابع المستحيلات. فالدستور يعنى تنازلات من جميع الأطراف لمصلحة إنشاء وطن موحد يسع الجميع ولا يسقط فيه حق أحد. وحيث إن العلاقة بين المشاريع والتصورات السياسية لمستقبل السودان قد ظلت كما هي، علاقة نفى وإبعاد، فإن خطر محاولات الإجتثاث ومحاولات إجهاض المشروع المضاد قد ظل ماثلا بعد الإستقلال. وقد فطن إلى ذلك الدكتور شريف حرير في ورقته إلى بعنوإن (إعادة تدوير الماضي في السودان) حيث ورد :

    (إن الإحترام لنموذج دستور ويستمنستر في الفترة التي أعقبت الإستقلال، لم يكن كبيرا. لقد رجحت عموما المصالح الشخصية والحزبية الأولوية علي الإعتبارات الدستورية وأسهمت في خلق الفرص للتدخل العسكري نتيجة لذلك)
    من هنا جاءت الظاهرة السلطوية الثانية في السياق السياسي السوداني وهى ظاهرة السلطة الشمولية وآليتها المحققة لها وهى الإنقلاب العسكري. وبدراسة هذة الظاهرة بدقة يتضح لنا بإنه لم يقع إنقلاب عسكري في السودان إلا من أجل تحقيق مشروع سياسيي أو إجهاض مشروع سياسي مضاد وشيك التحقيق. وكان ذلك على النحو التالي:

    إنقلاب إبراهيم عبود عام 1958
    كان هذا هو التجلى الأول لظاهرة السلطة العسكرية الشمولية ضمن التجربة السياسية السودانية. وحول هذا الإنقلاب ، وبما يتماشى مع ما ذهبنا إليه من مسئولية الصراع بين المشاريع السياسية في خلق ظاهرة الإنقلاب العسكري، إنقل هنا من كتاب الدكتور إبراهيم محمد الحاج موسى الموسوم: (التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان) من الصفحة رقم 200:

    (.. . سافر إلى القاهرة السيد على عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي ووزير التجارة آنذاك دون إن يخطر رئيس الوزراء بذلك، كما سافر إلى بغداد السيد إسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الإتحادي لتهنئه الشعب العراقي بثورة تموز سنة 1958، ومن بغداد عرج على القاهرة حيث واصل منها إتصالاته مع السيد على عبد الرحمن. ومن القاهرة إنتشرت إشاعة لقائهما وإتفاقهما مع القادة المصريين على إعلان إتحاد مصر والسودان. ولعل أول من أطلق هذه الإشاعة صحيفة فرنسية عندما نشرت خبرا لمراسلها في القاهرة مفاده أن إتفاقا سريا قد تم بين قادة الحزب الوطني الإتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وبين الرئيس جمال عبد الناصر لقيام ثورة وطنية إشتراكية بالخرطوم .... إن دوائر حزب الأمة جن جنونها لهذا الخبر، وكان رئيس الوزراء يعلم جيدا أن وزارته سوف تسقط عند افتتاح الدورة البرلمانية الثانية في 17 نوفمبر سنة 1985، لذلك عمل رئيس الوزراء على أن يسلم السلطة للجيش قبل افتتاح البرلمان )

    وسواء عمل حزب الأمة بناءا على تصديقه لهذه الشائعة أو بناءا على حسابات أخرى، فإنه قد كان متأكدا من سقوط حكومته وتولى أهل المشروع الإتحادي العروبي للسلطة مما يجعل فرصة تحقيق المشروع الإتحادي مواتية. وكان لابد من أن يتحرك حزب الأمة لإجهاض تحقق المشروع الإتحادي، وكان لابد من الإنقلاب العسكري.

    2- إنقلاب جعفر نميري عام 1969م
    وتحقق مشروع سياسي أو إجهاض مشروع مناوئ، كان هو أيضا المحرك الأساسي وراء وقوع الإنقلاب العسكري الثاني في السودان عام 1969. وإذ كان أهل المشروع المهدوى الديني قد إستطاعوا إجهاض المشروع الإتحادي العروبي الذي كان يتوهم إنه سيحقق، فإن القمة الراديكالية من أهل التيار الإتحادي العروبي، ممثلين في القوميين العرب، قد إستطاعوا عام 1969، تحريك الجيش للإستيلاء على السلطة وإجهاض مشروع الدستور الإسلامي الذي تأكدت إجازته من داخل الجمعية التاسيسية عام 1969 بإتفاق (حزب الأمة) و(الوطني الإتحادي) و(جبهة الميثاق الإسلامي). فبعد إنتخابات عام 1968 والتي حظر قبلها نشاط الحزب الشيوعي السوداني بإتفاق الأحزاب الثلاثة المذكورة، ظهر جليا أن إتفاقا بين هذه الأحزاب الثلاثة قد أبرم من أجل فرض الدستور الإسلامي من داخل البرلمان. وقد نقل الدكتور عبد اللطيف ألبوني في كتابة: (تجربة نميري الإسلامية في السودان) مقتطفات من مقالة لاحمد البشير الأمين في مجلة (المستقبل العربي) ما يلي:

    (كان واضحا منذ البداية إن الإنقلاب كان محاولة من أنصار الدستور العلماني لوضع نهاية لمخططات أنصار الدستور الإسلامي لإجازته بواسطة الجمعية التاسيسية. وقد أعلن قائد الإنقلاب أن من أول أهدافه تمزيق تلك الوريقة الصفراء ورميها في سلة المهملات).

    إنقلاب عمر البشير عام 1989م
    ولم بشذ الإنقلاب الثالث 1989، عن القاعدة، بل جاء تأكيدا لها. فقد تبلورت الدولة الديمقراطية العلمانية في إتفاقية (الميرغنى - قرنق) في أديس أبابا عام 1988، كما إن التأييد الدولي والإقليمي والداخلي التي حظيت به هذه الإتفاقية قد جعل تحقيق الدولة الديمقراطية العلمانية أمرا مؤكدا. فقد كانت هذه الإتفاقية في سبيلها إلى أن تؤسس وحدة حقيقية بين شمال البلاد وجنوبها على قواعد علمانية يفصل فيها تماما بين الدين والدولة. ولم يكن يمنع من تنفيذ هذه الإتفاقية سوى الإنقلاب العسكري. غير أن الجديد في إنقلاب 1989، هو أنه كان مخططا قبل إن يبدأ مجرد التفكير في إتفاقية (الميرغنى - قرنق) عام 1988. فقد قررت الحركة الإسلامية السودانية الحديثة إستلام السلطة بواسطة إنقلاب عسكري وفرض الدولة الدينية بناء ا على حسابات داخلية تخص هذه الحركة. ولما فوجئت هذه الحركة بتلك الإتفاقية القوية الناضجة كان لابد من أن تعجل بتقديم ساعة الصفر وتستلام السلطة.

    وإذا كان إنقلاب عبود 1958 قد جاء لإجهاض تحقق المشروع الإتحادي العروبي وهو في حكم الإشاعة، وإذا كان إنقلاب نميري 1969، قد جاء لإجهاض تحقق المشروع الديني الذي كان وشيك التحقيق، فإن إنقلاب البشير 1989، قد جاء في الشكل النموذجي المكتمل والمثالي للإنقلاب العسكري في السودان ضمن المفهوم الذي حددناه في هذه الدراسة. فقد جاء هذا الإنقلاب لإجهاض مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية، وفرض الدولة الدينية الشمولية في نفس الوقت. وهذا ما جعل هذا الإنقلاب يحدث بوقوعه مواجهة مباشرة وصداما علنيا بين الدولة الدينية التي جاء بها وبين بقية عناصر الساحة السياسية السودانية التي تجمعت في معسكر الدولة الديمقراطية العلمانية كما تبلورت في إتفاقية (الميرغنى – قرنق). كما إنه لم يسبق في تاريخ السودان أن اكتمل تصور الدولة الدينية وتجهيز كوادرها وتحضير برامجها، كما حدث عشية إنقلاب البشير عام 1989.


    3 - سلطة الحرب الأهلية والتمرد

    ظلت حركات التمرد المسلح في الجنوب وبإستمرار، تستبق تغيرا سياسيا كبيرا وشيك التحقق في السودان. إذ لا يفوت الدارس للحركة السياسية السودانية إن يلاحظ بأن موجة التمرد الأولى عام 1955 قد استبقت، موعد تقرير المصير وقرار الإستقلال عام 1956. وهذا يعنى إن الجنوب يرفض إن يقرر الشمال مصيره وفى غيابه الكامل. فقد أصمت الأحزاب الشمالية آذانها عن سماع رأي الجنوبيين حول تقرير المصير والإستقلال. كما سوفت وراوغت بشأن مطالبة الجنوب بالنظام الفدرالي.

    أما موجة التمرد المسلح الثانية عام 1963، فقد استبقت سقوط الحكم العسكري الشمولي الأول عام 1964، حتى تكون مستعدة للمشاركة في تقرير نظام الحكم بعد سقوط الدكتاتورية ومن موقف قوة. وهذا يدل على إن السياسي الجنوبي أقدر على القراءة الصحيحة للوضع السياسي في السودان من رصيفه الشمالي. فعندما بات سقوط السلطة العسكرية وشيكا، إستبق التمرد الحدث الكبير القادم.

    وكذا جاءت موجة التمرد الثالثة عام 1983، مستبقة التحول الكبير تجاه أسلمة الدولة في السودان على يد جعفر محمد النميرى، بإعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية عام 1984.

    ويتضح ألآن أن المشاريع السياسية الكبرى في السودان، ومن خلال نظرتها ذات الإتجاه الواحد قد أوجدت ظاهرة السلطة الشمولية والإنقلاب العسكري كما أوجدت ظاهرة الحرب الأهلية والتمرد المسلح. فالعقل السياسي الجنوبي، قد بات متيقنا بإن الجنوب والمواطن الجنوبي لا مكان له ضمن المشروعين السياسيين الأقرب للتحقق والأقدر على التجلى في السلطة، وإنه لابد له من الإعلان عن رفضه للمصير الذي يقرره له، وفى غيابه، كلا المشروعين. لإن هذا المصير لا يهدف إلا لتغيير هوية الإنسان الجنوبي بإتجاه الأسلمة والتعريب. لهذا ندرك ألإن جزع الفعآليات السياسية الجنوبية كلما اقترب موعد تحول كبير في مسيرة الحركة السياسية السودانية. فلا يوجد إنسان على ظهر الأرض مستعد للتنازل عن هويته العرقية والثقافية عن طيب خاطر. إذ أن كل إنسان يرى أنه لا يوجد في الكون هوية عرقية افضل من هويته ولا ديإنة أعظم من ديإنته ولا ثقافة أفضل من ثقافته. هكذا خلق الله البشر مختلفين ولو شاء لجعلهم أمة واحدة.

    قإنون التدهور

    إذ تنأولنا بالتحليل آليات تحقق السلطة في السودان، وحاولنا الكشف عن قإنون يحكم حركتها، فإنه سوف يتبين لنا بإن القإنون الوحيد الذي يحكم حركة هذه الآليات حتى ألإن هو قإنون التدهور. بمعنى إن هذه الآليات، وهي كما أوضحنا سابقا، الحزب السياسي والإنقلاب العسكري والتمرد المسلح، قد أخذت تتحول جميعها في إتجاه عكسي يبعدها أكثر فأكثر عن ماهيتها وعن المفاهيم التي قامت عليها بنيتها.

    ففي مسيرة الحركة السياسية السودانية تبادلت الظواهر السلطوية التي تحدثنا عنها سابقا التجلى والغياب في خط دائري تماما بحيث تكرر تجلى كل منها ثلاثة مرات. فهناك ثلاث ظواهر سلطوية ديمقراطية في عام 1956 وعام 1964 وعام 1985. وثلاث ظواهر سلطوية شمولية في عام 1958 وعام 1969 وعام 1989. وكذلك ثلاث حروب أهلية في عام 1955 وعام 1963 وعام 1983. وهذا يتيح لنا النظر في حالة الآليات المحققة لهذه الظواهر عبر ثلاث مراحل لكل اليه من الحزب إلى الإنقلاب العسكري إلى التمرد المسلح.

    الحزب السياسي

    ا - حافظ الحزب السياسي في السودان على المفهوم العلماني للحزب السياسي طوال فترة مقاومة الأحزاب السياسية السودانية للسلطة العسكرية الأولى ما بين عام 1958 وعام 1964. بمعنى إن أدوات مقاومة الأحزاب السياسية الدكتاتورية الأولى قد ظلت أدوات وأساليب مدنية تتمثل في الضغط السياسي عبر جماهير الشعب السوداني من خلال العرائض والإحتجاجات والمظاهرات وحتى العصيإن المدني. وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل تحولات الحزب السياسي, باعتباره الآلية الوحيدة لتحقق الظاهرة السلطوية الديموقراطية

    ب- في المرحلة الثانية بدأ الحزب السياسي في السودان يفارق مفهوم الحزب المدني الذي يستمد قوته الحقيقية من تأييد الجماهير طوال فترة مقاومة الأحزاب للسلطة العسكرية الثانية ما بين عامي 1969- 1985. فقد اعتمدت هذه الأحزاب، في تلك الفترة، على أدوات نضال هي خليط من العمل العسكري الحربي والعمل المدني السياسي. وظهرت لأول مرة في تاريخ الحركة السياسية السودانية المليشيات ومعسكرات التدريب والصدامات العسكرية سواء في الجزيرة أبا وأمدرمإن عام 1970أو في الخرطوم عام 1976. وهذه هي المرحلة الثانية.

    ج- في المرحلة الثالثة ابتعد الحزب السياسي في السودان كلية عن المفهوم المدني للحزب السياسي منذ بداية حركة مقاومته للسلطة العسكرية الثالثة عام 1989. فقد تحولت مقاومة الأحزاب السوادنية للسلطة الحالية كلية للوسائل العسكرية وأصبح لكل حزب جيشه ومواقعه التي يحتلها، بل إن حزبا سياسيا جديدا قد ولد كتنظيم عسكري ألا وهو حزب عبد العزيز خالد.

    ويعنى هذا مباشرة أن الأحزاب السياسية السودانية باعتبارها آلية تحقق الظاهرة السلطوية الديموقراطية، قد قاومت السلطة العسكرية الأولى بوسائل مدنية صرفه مائة بالمائة. وإنها في المرحلة الثانية، قد قاومت السلطة العسكرية الثانية بوسائل نصفها مدني ونصفها عسكري، كما إنها في المرحلة الثالثة قد قاومت السلطة العسكرية الثالثة بوسائل عسكرية صرفه مائة في المائة.

    وهذه المراحل الثلاث توضح بجلاء أن هذه الآلية، آلية الحزب السياسي قد بدأت تفقد مفهومها المدني وصفتها المدنية لصالح المفهوم الراديكالي للحزب السياسي والصفة العسكرية، وهذا يعني إن تنظيم الجماهير وأدوات النضال المدني لم تعد، في نظر هذه الأحزاب ذات جدوى كبيرة حتى صير إلى إستبدالها بالتنظيمات العسكرية وأدوات النضال المسلح. ولا يكون كل هذا بالمعايير المعروفة سوي التدهور. ولعل إستعداد الأحزاب السياسية للإنحدار والتدهور تجاه العسكرة مرة بعد أخرى، يجد تفسيره في ما ذهبنا إلية من وجود النزعة العسكرية كامنة في بذرة تكوين هذه الأحزاب. لهذا يسهل إنحدارها وتدهورها تجاه إستبدال العمل السياسي المدني بالعمل الحربي العسكري.

    الإنقلاب العسكري

    جاءت الإنقلابات العسكرية في السودان بمثابة ثلاث مراحل من تطور آلية الإنقلاب العسكري المحققة للسلطة الشمولية. وهي مثل سابقتها، آلية الحزب السياسي، قد سلكت خطا تدهوريا هابطا خلال ثلاث مراحل. فقد جاء إنقلاب عبود عام 1958 عسكريا صرفا، لم يسع لدعم سياسي مباشر من أي حزب، كما لم يشرك معه حزبا في السلطة. وقد مثل هذا الإنقلاب الطور الأول النقي من تحولا آلية الإنقلاب العسكري المحققة للسلطة الشمولية في السودان.

    مثل إنقلاب نميري عام 1969 الطور الثاني الوسيط من تحولات هذه الآلية وفيه بدأت هذه الآلية تفقد نقاء صفتها العسكرية حيث إشركت العناصر المدنية، وبصفتها الحزبية، في السلطة منذ اليوم الأول للإنقلاب. وبدا جليا منذ البيإن الأول، أن ما وقع هو عمل سياسي نصف عسكري ونصف مدني. وقد ظلت السلطة الناتجة عن هذا الإنقلاب معتمدة بإستمرار، في نسبة خمسين في المائة من إستمرارها، علي العنصر الحزبي المدني.

    فإذ وصلنا إلى الطور الثالث من آلية الإنقلاب العسكري، وهو إنقلاب البشير عام 1989، فإننا نجد أنفسنا أمام إنقلاب مدني مائة في المائة من حيث التخطيط والتنفيذ ورموز السلطة التي نصبها الإنقلاب.

    ومن حيث أن الإنقلاب ظاهرة سياسية معسكرة وآلية عسكرية لإستلام السلطة ومناقضة جوهريا لآلية الحزب السياسي ووسائله المدنية في استلام السلطة، فإننا عندما نشهد آلية الإنقلاب في السودان تتجه تدريجيا، وعبر ثلاث مراحل إلى التخلي عن جوهرها العسكري لصالح المدينة، فإننا لا نستطيع إلا إن نعتبر ذلك تدهورا. ولعل إستعداد الإنقلابات العسكرية في السودان إلى التدهور والإنحدار تجاه المدنية بزيادة العنصر المدني فيها مرحلة بعد أخري، هو مؤشر سليم لما ذهبنا إليه من أن الإنقلاب العسكري في السودان هو بالأساس عمل حزبي مرتبط بصراع التيارات السياسية الكبرى، وظل أثر هذه التيارات يزداد تجليا في تكوين الإنقلاب العسكري مرحلة بعد أخري.



    التمرد المسلح

    الآلية الثالثة لإستلام السلطة في السودان هي آلية التمرد المسلح. وهي مثل الآليتين السابقتين، قد تحولت عبر ثلاث مراحل.

    ا - جاءت الموجة الأولى من التمرد إرتجالية، لحد كبير، سيئة الإعداد، وعسكرية صرفه. وهي من الناحية السياسية، كانت تعتمد خطا سياسية فقيرا، يتمحور حول الإنفصال هدفا نهائيا، ومقاومة الإستعمار الشمالي، هدفا تكتيكيا.

    وقد كان المنطق الواقعي البديهي المبرر للهدفين الإستراتيجي والتكتيكي، واضح وبسيط وماثل للعيإن. فقد أعطت حركة سودنة الوظائف الإدارية، مدنية وعسكرية، إنطباعا عاما لدي المواطن الجنوبي بإنه سوف يستبدل مستعمرا بريطانيا بمستعمر شمالي. هذا بالإضافة إلى أن مستقبل الجنوب قد بدا غامضا في واقع إتفاقية السودان بين دولتي الحكم الثنائي لعام 1953 التي حددت مصير السودان في خيارين لا ثالث لهما وهما الإنضمام لمصر أو الإستقلال تحت رأية المهدية الدينية. ولهذا كان لابد من أن تجيء الموجة الأولى من آلية التمرد إنفصالية ومشبعة بالشعارات العنصرية ضد العرب المسلمين. ويورد الدكتور فرإنسيس دينق ما ذكره المؤرخ دستان في شرح هذه النقطة علي النحو التالي:-

    (إن احتكار السلطة السياسية بواسطة الشمال، أكبد للجنوبيين بداية عهد إستعماري ثاني، ومن الجإنب الآخر، شعر الشمال بان له الحق الشرعي لصيإنة وتنفيذ السياسات التي تؤثر علي القطر كله. إن فشل السياسيين الشماليين في تحقيق شراكه السلطة مع الصفوة السياسية من الجنوب، دعمت، وبشكل مستمر الشعور بالغربة والعزلة لدي الجنوب، والإعنقاد بإن الشمال في حقيقة الأمر، يعتبر خلفا للإستعمار البريطإني.
    وأيضا كانت محاولات الشمال إخضاع الجنوب تحت إمرته، أكثر ضررا منها نفعا في بلورة نظرة الجنوبيين حيال حكومات الخرطوم بعدم شرعيتها، مما أدي في النهاية للتمرد المسلح)

    ب. جاءت موجة التمرد الثانية جيدة الإعداد وقد تزايد فيها العنصر السياسي المدني، فأعلنت عن نفسها في بيإن سياسي وزعته علي الوسائط الإعلامية العالمية عام 1963، وأسمت جناحها العسكري (أنإنيا) أي إسم الأفعى . وحيث أن هذه الموجة من التمرد المسلح في الجنوب قد جاءت ردة فعل مباشرة ضد سياسية نظام الجنرال عبود القائمة علي فرض الأسلمة والتعريب عن طريق القوة، فإنها ما كان لها إلا إن تكون إنفصالية وعنصرية.

    غير إن هذه الموجة من التمرد المسلح، وفي مسيرتها خلال عقد من الزمإن، إنتهت إلى أن الإنفصال ليس في صالح السودان ولا صالح الجنوب. لهذا، وعندما وافق الشمال، ممثلا في سلطة جعفر محمد نميري، علي منح الجنوب حكما ذاتيا عام 1972، ألقت (إنإنيا) سلاحها، وعرف الجنوب السلام لأول مرة منذ فجر الإستقلال عام 1955. وبهذا تكون الموجة الثانية من التمرد قد سارت نصف الدرب عنصرية إنفصالية، ونصفه قومية وحدوية.


    ج - خلال سبعة عشر عاما من الحرب، تلتها عشر سنوات من السلم، إرتفع الوعي العام، ولا شك، للمواطن الجنوبي وازدادت الصفوة المتعلمة الجنوبية عدديا، وقد صار الجنوبيون أكثر إدراكا لمصالحهم وأكثر إعتزازا بهويتهم وأكثر حساسية وحذرا تجاه الحكومات الشمالية.

    لهذا فقد كان الجنوب متنبها عندما بدأ الدكتاتور نميري، إنطلاقا من حسابات خاصة بإطلة عمر نظامه، يميل بالدولة السودانية كلها تجاه الأسلمة. ثم، ولتنفيذ ذلك، بدأت السلطة التي تحالفت مع الإسلاميين الراديكاليين، تمارس تكتيكاتها لإضعاف الجنوب حتى تقلل من فعالية ردة فعله تجاه الأسلمة. هنا إندلعت موجة التمرد الثالثة عام 1983، واهتز الجنوب بعنف لهذا التحول الكبير الذي حدث في مركز السلطة في السودان. وكان لا بد من التفكير في معالجة المشكلة السودانية من جذورها بصورة متكاملة. وقد اختلف الأمر هذه المرة، ولا بد من أن يتحمل الجنوب المسئولية الكاملة في الحفاظ علي وحدة البلاد أولا ثم حل (المشكل السوداني) ثانيا.

    لهذا جاءت الموجة الثالثة من التمرد عام 1983 قومية الهوية ووحدوية التوجه. ودعت الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى إقامة (السودان الجديد). وحددت الحركة الشعبية لتحرير السودان بأن (القضية وطنية وليست جنوبية. فهي تضم في تركيبتها قوات مقاتلة من أقاليم معينة في الشمال وأفراد من كل إنحاء القطر. إن أي تسوية للنزاع علي أسس الشمال والجنوب، يجب إن تضع في الاعتبار ذلك البعد للتعقيد وتوسيع النزاع) . وقد جاء في منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان البيإن التأسيسي الآتي:

    (إن المهمة الريئسية للحركة الشعبية / الجيش الشعبي لتحرير السودان هي تحويل الحركة الجنوبية من حركة رجعية يقودها رجعيون وتهتم بالجنوب والوظائف والمصالح الذاتية، إلى حركة تقدمية يقودها ثوريون ومكرسة لتحويل كل القطر إلى الإشتراكية. ويجب التأكيد علي أن الهدف الرئيسي للحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان ليس هو فصل الجنوب، فالجنوب جزء لا يتجزأ من السودان، وقد تمت تجزئة أفريقيا بما فيه الكفاية بواسطة الإستعمار والإستعمار الجديد، وأن المزيد من التجزئة لن يخدم إلا أعداء أفريقيا.)

    وبالمقارنة مع آلية الحزب السياسي المحققة لظاهرة السلطة الديمقراطية التعددية والمنحدرة تجاه العسكرة، وآلية الإنقلاب العسكري المحققة لظاهرة السلطة الشمولية والمنحدرة تجاه المدنية، فإن آلية التمرد المسلح تبقي هي الآلية الوحيدة السائرة تصاعديا من الإنفصال تجاه الوحدة ومن العنصرية تجاه القومية.
    لكل هذا فقد جاءت الموجة الثالثة من التمرد المسلح قومية ووحدوية، تحمل هما سياسيا عاما وليس هما سياسيا جنوبي.



    الأوهام وقودا للأزمة

    ثمة قضيتا رئيسيتإن ظلتا بلا حل جذري ومؤجلتين منذ أن صار للسودإنيين رأي وقرار في شأنهم السياسي عند بداية مفاوضات الحكم الذاتي أول عام 1953. هاتإن القضيتإن هما:

    - علاقة الدين بالدولة

    - علاقة جنوب السودان بشماله

    وقد سكت الإتفاق المبرم بين الصاغ صلاح سالم، ممثل حكومة الثورة المصرية وبين ممثلي الأحزاب الشمالية السودانية عن هاتين القضيتين، وكان ذلك في العاشر من يناير عام 1953. فلم يجيء في ذلك الإجتماع شيء عن علاقة الدين بالدولة، وكان ذلك طبيعيا في أجواء يسيطر فيها الإتحاديون بدعم قوي من الحكومة المصرية، كما إن علاقة الدين بالدولة لم تكن مطروحة بالوضوح والحدة التي طرحت بها بعد الإستقلال، إذ كانت في ذلك ألوقت مغلفة بالدعوة للإستقلال التام من جهة، وبحق السيد عبد الرحمن المهدي في حكم السودان من الجهة الأخرى. كما لم يرد في ذلك الإتفاق أي شيء عن وضع جنوب السودان سوى ما ورد في الاقتراح المصري بشأن عمل لجنة الحاكم العام وعلاقتها بالحاكم العام ودولتي الحكم الثنائي، مما ليس له علاقة بمعرفة ما يريده الجنوبيون. علما بإن هذا الإتفاق قد أريد به أن يكون هو الكلمة السواء التي أليها السودانيون. وقد جاء في ديباجة ذلك الإتفاق: (اتفقت الأحزاب السودانية والموقع مندوبها علي هذه الوثيقة أن تكون النقاط المتقدمة أساسا للدستور السوداني للحكم الذاتي، وبغير ذلك أجمعت هذه الأحزاب علي مقاطعة الإنتخابات التي تجري في ظل أي دستور غير هذا) .

    ووأخطر ما في هذا الإتفاق هو أنه قد تم في غياب كامل لأي ممثل للجنوب أو بقية أرياف السودان المختلفة، الأمر الذي فطن له السير جيمس روبر تسون، السكرتير الإداري لحكومة السودان والذي أعلن ندمه فيما بعد علي حل الجمعية التشريعية و(بالتالي لم يتوافر للجنوبيين ولا لأهل الأرياف فرصة التأثير علي الأحداث)

    وعلي الرغم من وجود قضايا أخري كثيرة وهامة، عالقة حتى الوقت الراهن، مثل الدستور الدائم والتنمية المتوازنة والإستقلال الأمثل لموارد البلاد، إلا أننا نعتقد بأن عدم حسم هاتين القضيتين هو سبب كل الإخفاقات في كل الميادين. فعلاقة الدين بالدولة ووضع جنوب السودان، هما الإشكاليتين الوحيدتين القادرتين علي إشعال حرب أهلية، والقادرتين بالتالي علي تهديد إستقرار البلاد ووحدتها. وسبب ذلك هو أن هاتين القضيتين مشبعتين بالعوامل العاطفية العامية وبالعقيدة ورواسب التاريخ والثقافة الأمية. فبسبب هذه العوامل ظل المجتمع الشمالي، في غالبيته، يحس بإنه مكلف بمواصلة حملة عبد الله بن أبي السرح، التي يأسف هذا العقل لتوقفها في دنقلا، بمواصلتها جنوبا لنشر الإسلام والثقافة العربية. ولنفس السبب ظل العقل الجمعي الجنوبي يحس بإنه مكلف بوقف الزحف الإستعماري العربي الإسلامي إلى قلب القارة الأفريقية السوداء.

    لهذا نجد إن إتجاهات الطرح العام نحو حل هاتين المشكلتين تعج بكثير من التعمية وكثير من الفجاجة العامية وتجاوز مقتضيات الواقعية السياسية، والتعامي عن الواقع الإجتماعي وتمثيل أدوار تاريخية مضحكة لا تمت للواقع بصلة.

    لكل هذا فقد نجد أن الحل لدى العقل الجمعي الشمالي لا يزال هو أسلمة وتعريب الجنوب أو فصله، ولدى العقل الجمعي الجنوبي هو إما أفرقة الشمال أو الإنفصال، إن لم يكن طرد العنصر العربي من السودان. ولقد لمس الدكتور فرإنسيس دينق هذه الحقيقة وعبر عنها ببساطة فصيحة حين قال: (وفي حقيقة الأمر، تعمق الصفوة من الجإنبين الإنقسام، بعضها يبني علي أفكار خالية عن عروبته، ويرد البعض الآخر بإنيا علي أفكار وهمية عن أفريقيته متجاهلين بذلك حقيقة سو دإنيتهم) .


    ولقد كانت هذه النظرة القاصرة واضحة وضوح الشمس، حتى لدى الفئات المستنيرة من الشماليين في بداية الحركة السياسية الوطنية. ففي عام 1940 زار السودان، على ماهر باشا، رئيس وزراء مصر إنذاك. وتقدم له مؤتمر الخريجين بمذكرة يطالب فيها مصر بإن ( تساعد جنوب السودان ). وكانت المساعدة المطلوبة في نظر تلك الفئة المستنيرة هي العمل على أسلمة وتعريب الجنوب وتغيير هويته. أي إنهم لا يريدون جزءا من الوطن غير مسلم وغير عربي. هذا مطلب قوم، لا يعترف عربي واحد، في كل إنحاء العالم العربي، بعروبتهم، إذ تجاوزنا المجاملات الدبلوماسية. قالت مذكرة الخريجين للباشا المصري: (إن من واجب مصر أيضا إن تخصهم "الجنوبيين" بنصيب من العناية فتلفت نظر الجمعيات الخيرية والمعاهد الدينية المصرية للعمل بالجنوب من حيث التبشير بالدين الإسلامي ونشر اللغة العربية حتى يتسنى للجزء الجنوبي أن يتمشى في ثقافته مع الجزء الشمالي) .

    وكانت النظرة الفجة القاصرة واضحة في حملة سلطة إبراهيم عبود الدكتاتورية لأسلمة وتعريب الجنوب، وهى واضحة في الإحتكاكات القبلية بمناطق ما يسمى بالتماس بين الشمالي العربي المسلم والجنوبي الأفريقي الكافر. وهى بعد واضحة في صبغ الحرب الأهلية الدائرة الآن بالصبغة الدينية وإطلاق مسمى (الجهاد) على الحملات العسكرية التي تشنها الحكومة ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان، على الرغم من إن غالبية جنود الجيش السوداني هم من الجنوب وجبال النوبة.

    وبنفس القدر ظلت الأوهام العامية الجنوبية ضد العرب المسلمين تغذى المقاومة العنيفة لحملات الأسلمة والتعريب. وقد ظلت هذه الأوهام حاضرة في موجة التمرد الأولى عام 1955 التي لم تفرق في حربها بين العسكريين والمدنيين من الشماليين وهى كانت حاضرة في حرب الأنانيا التي إندلعت عام 1963 حتى عام 1972. كما أن الحركة الشعبية لتحرير السودان التي بدأت حربها عام 1983 وحتى الوقت الراهن، نظن أنها لم تسلم من مؤثرات الأوهام العامية الجنوبية، على الرغم من الفهم الواضح والعميق للمشكلة السودانية بين الشمال والجنوب لدى قيادة هذه الحركة. ففي المستويات الوسيطة والدنيا من الهيكل القيادي للحركة الشعبية، لا بد أن رفع روح الجنود المعنوية وحثهم على القتال يتم على أساس عرقي وعلى أساس يعج بالأوهام والأمية. ففهم قيادة الحركة الشعبية للمشكلة السودانية، يقتضي مستوا عاليا من الثقافة والإدراك العام المفقود بالضرورة لدى الجندي البسيط في جيش الحركة الشعبية، كما هو مفقود لدى العديد من القادة السياسيين في الشمال والجنوب على حد سواء.

    وفي هذا السياق يشكك عبد الرحيم محمد صالح وشريف حرير في إستيعاب مقاتلي الحركة الشعبية لتحرير السودان للمفاهيم التي ترفعها قيادة الحركة. يقولإن:

    (والجيش الشعبي لتحرير السودان من أجل تفكيك النظام القديم وآلياته غير العادلة في توزيع السلطة الإقتصادية والسياسية، وبرغم إن الجيش الشعبي والحركة الشعبية تدعيان إنهما حركة للجميع مكرسة لكل السودانيين بغض النظر عن الأصل العرقي أو الطائفة الدينية، لكن من الواضح أنه من السابق لأوانه رؤية قدر من الوعي السياسي الشعبي الكافي لتحويل القيم التقليدية للتعبير السياسي إلى هذه الأهداف العلمانية. إن الفجوة المفاهيمية بين عامة الشعب والأيديولوجيات التي عملت الصفوة السياسية المتعلمة علي تكريسها، قد اصطدمت بالواقع القاسي عندما وضعت موضع التنفيذ.)

    ولا نشك مطلقا في وجود الفجوة المفهومية بين ما تدعو إليه قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، وبين ما يقاتل من أجله الجندي البسيط داخل الحركة. غير إن أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان القليلة التي إطلعنا عليها، تجعل ثمة أمل في ردم هذه الفجوة بنشر المثل العليا للحركة وسط جماهير الشعب السوداني في الشمال والجنوب معا.

    ففي مؤتمر كوكادام الذي عقد عقب الإنتفاضة التي أطاحت بسلطة نميري الدكتاتورية عام 1985، جاء في خطاب الدكتور جونق قرنق أمام المؤتمرين ما يلي:

    ( السودان يتكون من قوميات متعددة، البعض يسميها قبائل، سمها ما شئت ولكن توحيد هذه الجماعات هو التحدي الكبير والواجب الملح الذي يجابهنا. كيف نفعل هذا ؟ يجيب البعض إن نكون جميعنا عربا. ويقول البعض الآخر: يجب إن نكون جميعنا أفارقة لكي ما يصبح السودان موحدا. أقول لهذا المؤتمر التاريخي إن السودان كان وما يزال يبحث عن روحه، عن ذاتيته، وعندما نعجز عن إيجادها "لإننا لا ننظر إلى داخل بلادنا بل إلى خارجها " يتحصن البعض بعروبته ويتحصن البعض الآخر بإسلامه ويتجه آخرون نتيجة إحباطهم عندما يكتشفون إنهم لا يمكن إن يكونوا عربا لأن الله لم يخلقهم كذلك، للتحصن بالدعوة الإنفصالية. في كل هذا كثير من التعمية والتشويه اللذين يناسبإن المصالح المختلفة. يجب إن ننظر إلى داخلنا وإلى تجارب الآخرين ) .

    هذه نظرة جديدة وعميقة لمشكلة السودان القومية، لكن مشكلتها إنها تظل وجهة نظر صفوية، أمامها صعوبات جمة لتتحول إلى برنامج سياسي ثقافي قومي وأولوية من أولويات السلطة التنفيذية في السودان. فلا يزال الصراع يجرى على هامش القضية السودانية الحقيقية، ولا تزال الأوهام هي وقود الصراع، ولا تزال مسالة نظام الحكم وأسس الهوية القومية هي جوهر الأزمة السودانية، ولا تزال التيارات السياسية المغلقة والمتوازية هي الفاعل الأساسي في الحركة السياسية السودانية. ولا يوجد حتى الإن حزب سياسي قومي قادر على تغيير العقلية السياسية في الشمال والجنوب وأرياف السودان الأخرى في وقت واحد، وقادر على تخطى أوهام العامة ومرارت التاريخ.

    لكن يبقي الأمل متقدا إذا حولنا هذه الصعوبات إلى برنامج تحديات سياسية تواجه الحركة الشعبية لتحرير السودان عندما تحقق طموحاتها السياسية المباشرة والأولية من قسمة الثروة والسلطة، وتحقيق الديمقراطية وإنجاز الدستور العلماني.

    ومنذ بداية السياق السياسي السوداني الذي بدأ مع إتفاقية الحكم الذاتي عام 1953، أبعدت قضية علاقة الدين بالدولة وعلاقة الجنوب بالشمال عن محور نظام الحكم في السودان وبنفس الوسيلة، وسيلة الأغلبية الإنتخابية. فقد أعتبرت هزيمة حزب الأمة في إنتخابات سلطة الحكم الذاتي التي أجريت أواخر عام 1953، أعتبرت بمثابة هزيمة لمشروع الدولة المهدية الدينية، وارتاح الإتحاديون والختمية والمصريون والبريطإنيون من هاجس عودة الحكم المهدوى الديني للسودإن. ولعل هذا قد كان أحد الأسباب الرئيسية في سهولة تحقق إستقلال السودان. وقد لمس هذه الحقيقة الدكتور حسن عبد الله الترابي عندما قال:

    (إن الإستعمار لم ينقشع بمحض الكفاح الوطني ولا لضعف بريطانيا، و إنما خرج الإنجليز لإنهم إطمأنوا على أنهم لم يبقوا للدين قضية في الحياة العامة).

    وكان الساسة البريطإنيون يخشون حقيقة أن يشعل السيد عبد الرحمن المهدى حربا أهلية بهدف فرض الدولة الدينية على السودان بعد خروج دولتي الحكم الثنائي. وقد جاء في المذكرة الضافية المرفوعة من السكرتير الخاص للحاكم العام إلى وزارة الخارجية البريطإنية في الثالث من مايو عام 1954، وفى النقطة الرابعة عشر ما يلي:

    (وبهذا فإن من المحتمل أن تزداد عزلة السيد عبد الرحمن المهدى والمهديين وضعفهم، كقوة سياسية بمرور الوقت. ولا شك في أن السيد عبد الرحمن يفكر في احتمال ثورة مهدية في مرحلة ما، ولا يبدو أنه يدرك مزايا التفوق الضخم للأسلحة الحديثة المتوفرة لقوة دفاع السودان على أتباعه غير المسلحين. وهو يستطيع دون شك إن يتسبب في متاعب خطيرة في مناطق الغرب المتطرفة في ولائها الطائفي. ولكنه لا يثير حماسة كبيرة في أواسط السودان حيث يتميع كثير من أتباعه بمصالح يقتضي بقاؤها الأمن والسلام) .

    أما إبعاد قضية علاقة الجنوب بالشمال عن الواجهة والأولوية، فلم يكن أمرا صعبا عن طريق تحكيم رأي الأغلبية ضمن دوائر نظام الحكم الذي خلف الإستعمار. ولم تكن صرخات حزب الأحرار داخل البرلمان تجد من يلتفت إليها. وكان وضع قضية علاقة الجنوب بالشمال في بداية السياق السياسي السوداني أشد بؤسا من قضية علاقة الدين بالدولة. إذ كيف يستطيع حزب واحد، وهو ليس حزبا كبيرا، بل حزب يمثل إقليما سودإنيا متخافا، أن يجبر البرلمان على إتخاذ قرار بشأن علاقة الجنوب بالشمال؟ ويتضح هذا الموقف اليائس في وقائع الإجتماع الثاني لممثلي الأحزاب السودانية من أجل التداول حول تكوين حكومة قومية قبل إعلان الإستقلال. وقد تم هذا الإجتماع في يوم السبت العاشر من ديسمبر عام 1955 بغرفة اللجان بمجلس الشيوخ. ومثل حزب الأحرار في هذا الإجتماع السيد بنجامين لوكى. قال السيد لوكى: ..

    (وإذ أراد المجتمعون أن يعلن الإستقلال بواسطة البرلمان فلا بد من الموافقة على قيام إتحاد فدرالي بين الشمال والجنوب داخل السودان الموحد بحدوده الحالية.

    سال السيد إبراهيم المفتى عن موقف حزب الأحرار الجنوبي في حالة إجراء إستفتاء في القطر كله بحدوده الحالية كما تنص الإتفاقية، إما لإستقلال السودان التام أو لإيجاد رابطه بينه وبين مصر. رد السيد بنجامين لوكى بإنهم إنذاك سيطالبون بتعديل الإتفاقية ) .

    بالطبع هذا موقف يائس وبائس، إذ لا يعقل إن يطلب حزب صغير من دولتي الحكم الثنائي أن تعدلا إتفاقهما بعد البدء في تنفيذه. فإذا تذكرنا بأن إتفاقية الحكم الذاتي 1953، هي في الأساس مبنية على ما أجتمعت علية الأحزاب الإتحادية والإستقلالية ككلمة سواء، فإن هذا يعنى أن الشماليين قد قرروا مصير البلاد دون أي إعتبار للوضع الخاص لجنوب السودان إستنادا على تحكيم رأي الأغلبية داخل البرلمان.

    ومع ذلك فإن الجنوبيين هم من إستطاع إشعال الحرب الأهلية، ليس المهدويين. وظلت حرب الجنوبيين مشتعلة، منذ عام 1955، وظل طرحهم ينضج داخل أتونها، فترة بعد أخرى، حتى وصلوا إلى ما نقلناه من خطاب الدكتور جون قرنق حول ضرورة توحيد الجماعات السودانية. ومن الناحية الأخرى ظلت قضية الدين وربط السياسة به تنمو وتتطور حتى تجلت أخيرا على السلطة في المركز، كما عرضنا لذلك في الفصل الثاني. والآن تدخل كلا القضيتين طورا جديدا وتدخل معهما الأزمة السياسية السودانية إطارا جديدا هو إطارها الأخير


    الثلاثية الجديدة

    عندما طرحت الحركة السياسية الوطنية في بداية تشكلها، المشروع السياسي الإتحادي المنادى بوحدة وادي النيل تحت التاج المصري، هروبا من هيمنة الأنصار واتقاءا لهيمنة الدولة الدينية، وإستجابة للروابط الثقافية والتاريخية العميقة مع مصر. ثم طرحت نفس هذه الحركة المشروع السياسي الثاني، المنادى بعودة السودان دولة مستقلة بناءا على الإرث المهدوى الديني، عندما طرحت هذه الحركة السياسية ذلك في بداية تكونها، فإنها وعت أم لم تعي، كانت تقترح تغيير الهوية العرقية والثقافية والدينية لجميع من هم ليسو عربا وليسو مسلمين من سكان السودان بحدوده المعروفة. فالدولة العربية الكبيرة التي تضم مصر والسودان، لا بد من أن تتكون على حساب الوضعية المواطنية والسياسية والثقافية لغير العرب وغير المسلمين من سكان السودان. كما ،نه لا مكان لمثل هؤلاء في دولة إسلامية شمولية، غير المسلم فيها مواطن من الدرجة الثانية، بل هو إما دافع جزية أو موضوع حرب أو راضى بتغيير هويته وعقيدته.

    لهذا ندرك الآن جزع الكوادر السياسية الجنوبية عند اقتراب موعد تقرير المصير خاصة وأن الإستفتاء الخاص بتقرير المصير لا يحوى سوى نقطتين تعنيان جوهريا إما إنتصار المشروع الإتحادي العروبي أو إنتصار المشروع الإستقلالي المهدوى الديني . فهدا هو ما اتفقت عليه الأحزاب السودانية الشمالية مع الصاغ صلاح سالم كحل وسط يحفظ وحدة كلمة السودانيين، وهو ما اتفقت عليه، بالتالي، الحكومة المصرية مع الحكومة البريطإنية فيما عرف بإتفاقية السودان عام 1953.
    وحسن الحظ وحده، هو الذي أنقذ السودان من ذلك المصير المظلم الذي رسمته له الأحزاب الشمالية في إتفاقها مع الصاغ صلاح سالم مبعوث مجلس قيادة الثورة المصرية إلى السودان. وذلك بحدوث الهزيمة غير المتوقعة لحزب الأمة في إنتخابات الحكم الذاتي أواخر عام 1953، وبالتنصل غير المتوقع للإتحاديين عن مبدأ الإتحاد مع مصر في منتصف عام 1955. وبهذا فقط تجاوز تاريخ السودان تلك المصيدة ذات الفجوتين المهلكتين وبرز الإتجاه نحو الديمقراطية العلمانية كحل وسط وحيد لا مناص منه.

    والديمقراطية هي النظام الوحيد الذي تجد فيه الأقليات السياسية والأحزاب الصغيرة وأهل الهوامش والأرياف، الفرصة لتوصيل صوتهم إلى مركز صنع القرارات في البلاد. لهذا فإن جنوب السودان لم يفجر ثورة، أو ما يسمونه تمردا قط في عهد ديمقراطي. فباستثناء حوادث توريت عام 1955، وهى التي أرجعناها لإشفاق الجنوب من مصيدة تقرير المصير، فإن موجة التمرد الثانية المعروفة بالأنانيا عام 1963، كانت في عهد الدكتاتورية الأولى، وموجة التمرد الثالثة التي قادتها الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983، كانت في عهد الدكتاتورية الثانية.

    والنظام الدكتاتوري المتحقق بواسطة إنقلاب عسكري في السودان، هو جوهريا تجلى عنيف لأحد المشروعين السياسيين الكبيرين، المشروع العروبي الإتحادي والمشروع الإستقلالي الديني، على السلطة. وقد لا تبدو الصلة واضحة بين الحزب الذي يمثل المشروع السياسي وبين العناصر العسكرية المنفذة للإنقلاب، ومع ذلك فإن التحليل الدقيق ليكشف لنا صحة هذه الفرضية، وقد تعرضنا بشيء من التفصيل لذلك عند تحليلنا لتحولات المشاريع السياسية، وعند تحليلنا لكيمياء السلطة في السودان. حيث إتضح أن إنقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958 كان هو التجلي العنيف للمشروع الديني من أجل إجهاض فرصة تحقق المشروع الإتحادي العروبي، كما شرحنا ذلك في موضعه. وكذلك جاء إنقلاب جعفر محمد نميري تجليا عنيفا لطلائع المشروع الإتحادي العروبي، ممثلين في القوميين العرب من أجل إجهاض فرصة المشروع الإستقلالي الديني في التحقق. ولا حاجة لذكر التجلي العنيف الثاني للدولة الدينية بعد التحول النوعي الذي طرأ علي المشروع الإستقلالي الديني، وإنتقال قيادته للحركة الإسلامية الحديثة. فهذا واقع يعيشه السودان اليوم.

    الذي يهمنا هو أنه كلما تجلي أحد المشروعين السياسيين الكبيرين وبالقوة علي السلطة، لجأ جنوب السودان إلى حمل السلاح للدفاع عن هويته وثقافته وتفرده. وهذا يعني أن علاقة جنوب السودان السياسية مع شمال السودان لن تتعادل وتستقر إلا في ظل النظام الديمقراطي. وإذا حدث أن إستمر الجنوب في حمل السلاح إبإن الفترات الديمقراطية، فذلك لإن القادة السياسيين الجنوبيين كانوا يدركون هشاشة النظام الديمقراطي مقابل قوة المشروعين السياسيين الكبيرين، ويدركون أيضا، إن الفترة الديمقراطية ما هي إلا هدنة مؤقتة تعود بعدها المشاريع السياسية لإنتهاج العنف ضد بعضها بعضا. هكذا علي الأقل قرأت الحركة الشعبية لتحرير السودان الساحة السياسية السودانية عقب إنتفاضة أبريل 1985. فبعد وضع العراقيل أمام مقررات مؤتمر كوكادام وإتفاقية (الميرغني – قرنق)، فإن الحصافة السياسية تملي عدم وضع السلاح. فالدكتاتورية العسكرية قادمة لا محالة. ولم يكن الوصول إلى هذه النتيجة يحتاج لعبقرية.

    وإذا كنا قد أرجعنا الظواهر السلطوية في السودان إلى ثلاث نماذج، هي الديمقراطية والشمولية والحرب الأهلية، فإننا يجب إن نوضح هنا بأنه لا يمكن تجلي أي شكل من أشكال السلطة ما لم يكن وراء هذا الشكل قاعدة إجتماعية، (فئة، طبقة، عرق) يبرر هذا التجلي ويمنح السلطة أيديولوجيتها. وهذا يعني إن ثمة قاعدة إجتماعية تبرر تجلي سلطة الحرب الأهلية في الجنوب. وقد ظلت القاعدة الإجتماعية المبررة لسلطة الحرب تنمو وتتسع فتشمل تدريجيا جبال النوبة وبعض أجزاء دار فور وبعض أجزاء الساحل الشرقي وبعض أجزاء جنوب النيل الأزرق بل تعدت هذه الأقاليم المهمشة لتضم إليها فئات من الشمال النيلي.

    هكذا ظهر، ولأول مرة في التاريخ، مشروع سياسي قومي، لا يعني بحل (مشكلة الجنوب) وإنما يعني بحل (مشكلة السودان). هذا المشروع السياسي الجديد هو مشروع (السودان الجديد) مقابل (السودان الإسلامي) و(السودان العربي). ويحمد للحركة الشعبية لتحرير السودان هنا إنها لم ترفع شعار (السودان الأفريقي). وهذا دليل ذكاء وسعة أفق لقيادة هذه الحركة، فلو أنها أغلقت دعوتها في (السودان الأفريقي)، لخسرت مناصرة عناصر عديدة في السودان يملأها الوهم بإنها (شيء آخر غير الأفريقي).

    الآن يتحدث الجميع في السودان، عن الحرص علي (وحدة السودان). وليس من المجدي في شيء الحديث عن وحدة السودان دون وعي بالتركيبة السياسية الحاضرة في السودان والممثلة في هذه المشاريع الثلاث الكبرى، المشروع الديني والمشروع العروبي ومشروع السودان الجديد.

    وحيث أن لكل من هذه المشاريع قاعدته الإجتماعية المبررة لإستمراره والمتطلعة لتجليه علي السلطة، فإنه يبدو، نظريا على الأقل، أن لا شيء يجمع هذه المشاريع في سودإن موحد، من حيث إن كل مشروع هو تصور لوطن مختلف عن تصور المشروعين الآخرين. بمعني آخر فإن الحركة السياسية السودانية تعود إلى الصفر بعد مرور نصف قرن علي نشأتها. فقد بدأت في شكل ثلاثة مشاريع سياسية لا رابط بينهما، وانتهت في شكل ثلاثة مشاريع سياسية لا رابط بينهما.

    غير إن ثمة فرق جوهري بين ثلاثية الماضي وثلاثية الحاضر. فقد بنيت ثلاثية الحركة السياسية السودانية عند نشأتها، علي قاعدة من العهود التاريخية التي لا علاقة بينها سوي الإجتثاث والإزالة، وهي عهود التركية السابقة والمهدية والإستعمار الحديث. بينما تقوم ثلاثية الحاضر علي قواعد إجتماعية متعارضة المصالح من ناحية، ومشتركة المصالح من ناحية أخري. ثمة مصلحة عامة تهم كل القواعد الإجتماعية في السودان ألا وهي بقاء السودان موحدا بأنهاره وغاباته وجباله وسواحله. فجميع القواعد الإجتماعية لها مصلحة في بقاء ونمو موارد السودان المجتمعة.

    ولهذا دخلت في الأدب السياسي السوداني مؤخرا تعابير جديدة مثل (تقسيم السلطة والثروة). فهذا شعار ناضج يرتبط مباشرة بمصلحة الفئات الإجتماعية التي تبرر تجلي المشاريع السياسية وتمنحها أيديولوجيتها. فهو شعار لا رائحة فيه للأوهام أو الرواسب التاريخية. ومع ذلك لا تزال الأوهام تعشعش بسبب الأمية وإنهيار نظام التعليم الرسمي ذي الأهداف الإنسانية السامية وإستبداله بنظام تعليم يقوم عل المصلحة الضيقة الإنية. ولا تزال المشاريع السياسية تميل علي إستغلال الجهل والأمية والأوهام لتحقيق أهداف تكتيكية فقيرة وأحادية النظرة، مما ينتج عنه أنواع من التعالي العرقي والتعالي الثقافي والتعالي الإجتماعي التي هي من أخطر أدواء المجتمع.

    يعطينا مجمل النقد التحليلي السابق نتائج محددة يمكن إن نبني عليها رؤية متماسكة حول الأزمة السياسية السودانية، وحول مجمل الحركة السياسية السودانية، وحول الحلول المتماسكة التي تقترح نفسها لحل المشكل السوداني.
    وأهم ما يبرز أمامنا من نتائج يمكن تلخيصه في:

    1 - أنه لا يمكن محو أو إجتثاث أي تيار سياسي بالقوة والإقصاء والمنع.

    2 - إن أي نظام حكم وأية سلطة سياسية تفرض بالقوة من قبل أي تيار سياسي، لا يمكن لها إن تستمر وتثبت، وأن أية سلطة من هذا النوع هي سلطة آيلة للسقوط منذ يومها الأول.

    3 - إن النظام السياسي الوحيد القادر علي لم شمل شعوب وقبائل السودان والقادر علي استيعاب تبايناتها هو النظام الديمقراطي التعددي النيابي العلماني، بمعني رفض التعصب الديني ومنع التعالي العرقي وتأسيس هوية قومية مشتركة علي أساس المواطنة.
    4 - إن سكان المناطق المهمشة في السودان قد شبوا عن الطوق وعرفوا حقوقهم واستعدوا لأخذها طوعا أو كرها، ولا يمكن الآن إجبارهم علي ما لا يريدون بسبب تنامي الوعي السياسي في أوساطهم وبسبب إتجاهات النظام العالمي الجديد.

    5 - إن السياق السياسي القديم الذي حكم السودان منذ الإستقلال وحتى الآن، قد شاخ وتفسخ وفقد مقومات البقاء، ولا بد من الإستعداد في الدخول لسياق سياسي بديل بعيدا عن الدورة المتكرر للديمقراطية والشمولية والحرب الأهلية.
                  

العنوان الكاتب Date
وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-11-05, 05:43 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-11-05, 07:46 AM
    Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. عادل فضل المولى07-11-05, 07:56 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-11-05, 08:01 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. بشير حسـن بشـير07-11-05, 08:26 AM
    Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. jini07-11-05, 08:40 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-11-05, 08:46 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-12-05, 05:05 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-13-05, 05:48 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-14-05, 06:37 AM
    Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. A.Razek Althalib07-14-05, 07:16 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-15-05, 04:34 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-16-05, 05:17 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. أحمد الشايقي07-16-05, 06:14 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-17-05, 03:47 AM
    Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. aymen07-17-05, 05:36 AM
      Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. aymen07-17-05, 06:34 AM
      Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-19-05, 07:08 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. حامد بدوي بشير07-17-05, 08:01 AM
    Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-19-05, 07:41 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. حامد بدوي بشير07-17-05, 08:03 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-18-05, 04:06 AM
    Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. manubia07-19-05, 12:32 PM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-21-05, 05:31 AM
  Re: وشرب دكتور قرنق القهوة بالمتمة. محمود الدقم07-22-05, 07:10 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de