عبدالرحمن منيف روائي مدهش

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-27-2024, 06:17 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-23-2005, 09:39 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش (Re: Sabri Elshareef)

    آركيولوجيا الفرح والحداد
    في <<أرض السواد>>


    سعيد الغانمي


    --------------------------------------------------------------------------------


    حين كان على الروائي الكبير عبد الرحمن منيف أن يكتب روايات عن الواقع العربي الحاضر, فقد كانت رواياته بلا أماكن محددة, وكانت المدن فيها مدنا بلا أسماء. كانت المدن مفاهيم ثقافية, أكثر منها مواضع جغرافية أو تاريخية. كانت مناخا لتبادل الفعل الثقافي السائد في أي مدينة عربية, وكان الروائي ينتظر أن يضع القارئ نفسه اسم المدينة العربية التي يشاء. في <<أرض السواد>> يكتب عبد الرحمن منيف رواية تاريخية, منشطرة كما سنرى إلى روايتين إحداهما تاريخية وصفية والثانية قصصية خيالية, وقد اضطره الجزء التاريخي من الرواية إلى تأطيرها بمكان محدد, هو مدينة بغداد في بداية القرن التاسع عشر, وفي عهد داود باشا تحديدا . غير أن هذا الانحياز للتاريخ, لا يحدد المكان ويؤطره بفضاء واقعي وحسب, بل هو يحدده لغويا وأسلوبيا أيضا . من هنا يجعل عبد الرحمن منيف شخصيات الرواية تتحدث باللهجة البغدادية, خلافا لما كان يحدث في رواياته السابقة, حيث تتحدث شخصياته العربية الفصحى أو اللهجة القريبة من البدوية شبه الفصيحة.

    في المقدمة التاريخية المعنونة (حديث بعض ما جرى) يمهد الروائي لروايته بفرشة تاريخية, تعر ف القارئ بتفاصيل الوقائع التي تشكل مهاد الرواية. وكما أن الهدف من المدخل القائم على قصائد رثاء المدن هو إشعار القارئ بالطابع الدوري لتاريخ أرض السواد منذ أقدم عصورها حتى زمن الرواية, فإن هدف هذه المقدمة هو إدخال القارئ في مناخ الرواية التاريخية المتعلقة بالسراي. وتستغرق هذه المقدمة من ص 15-24, لتبدأ بعدها فصول الرواية. وبوسع القارئ أن يعرف أن هذه المقدمة تاريخ خالص, حين يقارن بين النصوص الواردة فيها ووثائق تاريخية أخرى. على سبيل المثال, يستفيد المقطع الذي تستدعي فيه نابي خانم, زوجة سليمان باشا الكبير, وأم سعيد باشا, الحاج عبد الله ظاهري, كهية الوالي السابق, لإعادته إلى منصبه الذي تخلى عنه بعد تقريب سعيد باشا لحمادي العلوجي, لأسباب لا تليق بوال , من نصوص تاريخية معروفة لعل أشهرها كتاب <<تذكرة الشعراء>>, وهو نص مطبوع في بغداد عام 1936, حيث يرد فيه نص اعتذار عبد الله ظاهري ووصفه لسليمان باشا بكونه <<أفلاطون زمانه>>, بل إن هذا الاعتذار بكامله منقول من الكتاب المذكور.

    وظيفة هذا التقديم, إذا , هو أن يكون مقدمة للجزء التاريخي من الرواية, وقد حرص فيه الروائي على أن يكون مجرد ناسخ للأحداث التاريخية كما حصلت تماما , دون زيادة أو نقصان إلا في حدود التعديلات الأسلوبية. ولكن ما أن يمضي القارئ في الرواية, ومتابعة أحداثها الأولى حتى يحس بأنه يقرأ نصا هو أقرب إلى الرواية التاريخية. فجميع شخوص السراي شخوص تاريخية حقيقية, وجميع الأحداث المتعلقة بالسراي أحداث تاريخية. مغامرة سيد عليوي, رئيس الإنكشارية, بالدخول إلى القلعة وبحثه المحموم عن سعيد باشا, وقطعه رأسه وهو في حضن أمه برغم الصراخ الذي أطلقته نابي خانم, مشهد تاريخي معروف رواه مؤرخون كثر. وكذلك الحال مع رفض داود باشا لهذا العمل. جاء في تاريخ سليمان فائق المؤرخ المعاصر للأحداث: <<كان كل من يسمع بهذه الفاجعة يتملكه الحزن والأسف والألم العميق. حتى أني على الرغم من كوني فتى حينذاك كان يتملكني الحزن والاكتئاب لذكرى هذه الحادثة. وعلى الرغم من سفري إلى الأستانة واصطحابي لداود باشا فإني لم أتمكن من إخفاء استيائي وتأثري حتى في حضوره. وذات مرة ذكرت الحادثة التي نحن بصددها في مجلس داود باشا, وكان يضم أحد وجهاء بغداد من آل الربيعي, فلم يتمالك كل من كان في المجلس نفسه وانخرط الجميع في البكاء. وقد حاول داود باشا أن يتصدى للدفاع عن نفسه وتبرير ما قام به, فلم يسعفه النطق وسكت. وكان سكوته دليلا على تقصيره في هذا الشأن>>.

    أما حملات داود باشا على القبائل العراقية, فقد عرض لها بالتفصيل مؤرخ السراي في عصره, عثمان بن سند في كتابه <<مطالع السعود في أخبار الوالي داود>>, دون أن ينسى إضافة قصيدة مطولة في الثناء على الوالي وفعله بعد سرد وقائع كل حملة. ووصلنا فيما يتعلق بشعراء السراي في عصر داود باشا كتاب <<تذكرة الشعراء>> لمؤلف مجهول. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن <<أرض السواد>> وإن أبرزت وقائع تاريخية, فإنها لم تكتف بالتاريخ كما هو, بل عدلت فيه وكيفته لمقتضيات السياق السردي. فأشهر شاعرين في <<سراي الرواية>> هما الصفوي والأخرس. والواقع أن أكثر الشعراء التصاقا بسراي داود باشا كانوا عبد الغفار الأخرس وعبد الباقي العمري وصالح التميمي (أطلقت الرواية على المفتي اسم خالد التميمي) وعثمان بن سند البصري.

    وإذ أن جميع شخصيات السراي الفاعلين والمؤثرين هم شخصيات تاريخية, فإننا نستطيع أن نسمي رواية الأحداث الخاصة بالسراي بأنها رواية تاريخية. ومن الواضح أن الحبكة فيها تتعلق بصراع السراي مع الباليوز من جهة, وصراعه مع الإنكشارية من جهة أخرى. وكلمة (الباليوز) كلمة إيطالية كانت تطلق على القنصلية الإنجليزية في بغداد. هناك قطبان متضادان هما: داود باشا في السراي, والمستر ريتش في الباليوز, وهما معا يتسابقان في تحريك بقية شخصيات الرواية, ويحاول كل منهما ممارسة نفوذه على الشخصيات الأخرى والتحكم بها ضد الآخر. هكذا تكثر المؤامرات والدسائس وتتعقد. فالباليوز يتصل بسيد عليوي أغا, رئيس الإنكشارية, للحد من نفوذ داود باشا, أو للقضاء عليه. لكن الباشا يتمكن من كشف مؤامرة الباليوز وإعدام سيد عليوي. فيتحول النزاع بينهما بعد ذلك إلى نزاع مسلح, يتخذ فيه الباليوز وضع الدفاع عسكريا , بعد أن كان يتخذ وضع الهجوم دبلوماسيا . وأخيرا , يوجه داود باشا مدفعا باتجاه القنصلية الإنجليزية, لكي يملي شروطه على المستر ريتش كما سنرى.

    مقابل رواية السراي التاريخية هذه هناك رواية أخرى نستطيع أن نصفها بأنها رواية شعبية يومية. وهي رواية تجري وقائعها في المقاهي والبيوت والمحلات الشعبية. ولذلك سنطلق عليها اسم رواية المحلة. والملاحظ أنه ما من شخصية من شخصيات المحلة دخلت السراي على الإطلاق, باستثناء بدري. وبدري هذا هو محور رواية المحلة, التي تدور وقائعها عنه وعن عائلته وأصدقائه وأبناء محلته: سيفو والحاج صالح العلو وإسماعيل وذنون ..الخ. وإذا كانت رواية السراي تمتاز بالكثافة التاريخية, فإن رواية المحلة تمتاز بانفتاح الخيال السردي والروائي. رواية السراي ذات شخصيات فعلية معروفة في التاريخ الحقيقي لأرض السواد, وهي ذات أدوار فاعلة ومؤثرة, ورواية المحلة ذات شخصيات خيالية مجهولة, وأدوار مأساوية مهملة. كلما ارتفعت كفة رواية السراي هبطت الأحداث بكفة رواية المحلة. هكذا تجري الروايتان في خطوط متوازية لا تعترضها سوى شخصية واحدة. فبدري هو الشخصية الوحيدة من رواية المحلة التي وصلت إلى السراي وعملت فيه. وبدري شاب عسكري التحق بالسراي, وعمل في حماية داود باشا. غير أن لهفته إلى رؤية نجمة, تلك الراقصة الصغيرة التي شاركت في الحفلة التي أقامها الجيش احتفالا بالانتصار على عشائر الفرات, دفعته إلى زيارة بيت روجينا المشبوه. وبما أن هذه المرأة ذات علاقة وطيدة بسيد عليوي, فقد أخبرته, واجتهد هذا في إيصال الخبر إلى داود باشا. كان سيد عليوي يأمل في إحداث الوقيعة بين داود باشا وأعوانه, ليستغلهم ضده, ويكسبهم إلى جانبه في نهاية المطاف. وفعلا لم يتردد داود باشا في نقل بدري إلى كركوك, كعقوبة مؤقتة له. ولم تكن لدى داود باشا أية نية في الانتقام من بدري, بل بالعكس فك ر في أن يسترده بعد حين ويعيده إلى جواره في السراي. لكن انشغال داود في صراعاته مع الانكشارية والباليوز أنسته إياه. ومن سوء حظ بدري, فقد ن ق ل سيد عليوي أغا إلى قلعة كركوك أيضا . هكذا تشاء الأحداث أن تقاطع رواية السراي رواية المحلة, وتقرر مصيرها. حين عرف بدري أن الراقصة نجمة قد استأثر بها رفعت بك, فقد ملت منها نفسه, وقرر الزواج من إحدى فتيات المحلة. وفي أثناء العودة إلى بغداد, في الإجازة, يتفق مع أهله على أن يأتوا بها إليه في كركوك. يستعد لذلك, ويؤجر بيتا خاصا لزفافه. وفي الوقت نفسه, كان سيد عليوي يعمل مع أتباعه على ضم بدري إلى جوقة المتآمرين ضد داود باشا. لكن بدري ظل يصر باستمرار على النأي بنفسه عن هذه المؤامرات. لذلك أوصى سيد عليوي جماعته بالخلاص منه. وتشاء المصادفات أن يكون اغتياله متزامنا مع لحظة وصول موكب عروسه قادما من بغداد. وبذلك يقضى بالموت على الشخصية الوحيدة من المحلة التي ارتبطت بالسراي. ومن خلال مصير بدري نعرف نحن القراء أن شخصيات رواية المحلة هم دائما ضحايا رواية السراي المهملون والمنسيون والمهم شون.

    عندما نقول إن رواية السراي تاريخية, فإن هذا لا يعني أنها رواية توثيقية يكتفي فيها الروائي عبد الرحمن منيف بنقل التاريخ كما هو. بل يعني فقط أن الشخصيات تاريخية, والوقائع والأفعال تاريخية, لكن ترتيب الوقائع والأفعال وإضافة التفاصيل السردية خاضعة لمتطلبات بناء السياق السردي ومفاجآت الأحداث في الرواية. فقد يضيف الروائي فعلا تاريخيا حقيقيا لكنه متأخر عن عصر داود باشا مثلا . أو ينسب إلى شخصية ما فعلته شخصية تاريخية أخرى. على سبيل المثال, تجعل <<أرض السواد>> داود باشا يبدأ حملته على العشائر العراقية في الحرب على عشائر الفرات الأعلى في السنة الأولى من حكمه. وكانت الحملة بقيادة سيد عليوي (ج1, ص323-440). أما الحملة على قبائل الفرات الأوسط, فمتأخرة عنها في الرواية بسنوات, وكانت بقيادة الكيخيا يحيى (ج2, ص467-492). من الناحية التاريخية, تولى داود باشا ولاية بغداد في أواخر شباط (فبراير) من عام 1817. وقد استغلت عشائر الفرات الأوسط الفراغ الأمني الحاصل نتيجة تنازع الولاة, لفرض سيطرتها على طرق القوافل, بقصد الغزو والإغارة واغتصاب الإتاوة. فاضطر داود باشا إلى تجريد ثلاث حملات على قبائل المسيب والمحمودية جنوب بغداد. وفي أواخر سنة 1818 أرسل الكيخيا محمد أغا بقوات لمحاربة قبائل الفرات الأوسط. وقد أوقع الكيخيا محمد بين القبائل خسائر فادحة, بتحريض بعضها على بعض. مثال ذلك أنه حرض الخزاعل على آل غانم وآل فتلة. فانضموا إلى قواته ضد إخوانهم من القبائل. وقد جرت معارك طاحنة حول <<قلعة شخير آل غانم>>, غنمت فيها قوات السراي ألف طغار من الحبوب, وفرضت عليهم خمسين ألف قرش غرامة. وبسبب وقيعة الخزاعل بإخوانهم من العشائر وانضمامهم إلى قوات الحكومة, فقد أطلق على ذلك <<دكة الخزاعل>>, بمعنى وقيعة الخزاعل وخيانتهم, وهو تعبير صار مثلا يتكرر في الأغاني والقصائد الشعبية, كما في الأغنية الشهيرة (يا دكة المحبوب دكة خزعلية). والجدير بالذكر أن آل غانم هؤلاء هم أجداد كاتب السطور. في المقابل لم تتحرك قوات محمد أغا نحو قبائل الدليم والفرات الأعلى إلا في سنة 1820, وهي السنة التي جعل فيها الوالي داود فرحه مضاعفا بانتصاره على قبائل الفرات الأعلى وختانه ابنه <<طورسون يوسف بك>> معا .

    ويصح الشيء نفسه على سفر مستر ريتش إلى الموصل, والتنافس بين الإنجليز والفرنسيين حول نهب آثار العراق. فالمعروف أن ريتش لم يتجه في سفرته شمالا , بل اتجه إلى جنوب إيران الغربي نحو آثار جمشيد. والتنافس بين القنصليتين الفرنسية والإنجليزية, وإن كان واقعة تاريخية حقيقية, لكنه لم يبدأ إلا في عام 1848 حتى عام 1876, أي أنه متأخر عن ولاية داود باشا بعقدين من الزمن تقريبا .

    إذا لم تقبل الرواية التاريخية في <<أرض السواد>> بالتاريخ كما هو, بل عدلته, وغيرت في أحداثه, وقدمت فيها وأخرت, لتبني منه حبكة روائية مختلفة, وإن كانت ذات أساس تاريخي صحيح. ولهذا أسندت لسيد عليوي أن يكون قائد قوات السراي في محاربة القبائل, لتجعل منه البطل المضاد الذي يرتفع نجمه ليكون القطب النقيض الموازن لقطب داود باشا. غير أن داود باشا لا يمكن أن يكون نقيضا لسيد عليوي. والسبب أنه لا يفكر في مصيره الشخصي, كما يفكر سيد عليوي, بل في مصير المجتمع ككل. وإذا كنا قد لاحظنا أن بدري كان الجسر الوحيد الذي يمتد من المحلة إلى السراي, فإننا نستطيع أن نلاحظ هنا أن داود باشا أيضا هو الجسر الوحيد الآخر الذي حاول أن يمتد من السراي إلى المحلة.

    وليس أدل على وجود انقطاع بين رواية المحلة ورواية السراي من قصة زينب كوشان, المرأة العجوز التي بقيت طوال الجزءين الأولين من الرواية تحمل لفائفها من الأوراق القديمة, وهي تحلم باللحظة التي تقابل فيها الوالي لعرض التماسها باسترداد قطعة أرض في محلة الشيخ بشار تريد إثبات ملكيتها. غير أن زينب كوشان لم تتمكن أبدا من رؤية أية شخصية من شخصيات السراي تستطيع عرض شكواها عليه, برغم ما تعرضت له من مواقف السخرية والاستهزاء. وفي الجزء الثالث فقط التحقت زينب كوشان بزمرة النساء المهلهلات للمدفع الموجه صوب الباليوز(ج3, ص276).

    ولو نحن بحثنا عن قطب مقابل لسيد عليوي لرأينا أن هذا القطب لا يتوفر في رواية السراي, بل في رواية المحلة, وفي شخص سيفو تحديدا . ولا يقتصر الاستقطاب بينهما على كون سيفو يريد تزويج بدري, ويريد سيد عليوي قتله, بل يمتد ليشمل الطبيعة النفسية لكل منهما من جهة, ونوع علاقاتهما بالآخرين من جهة أخرى. إذا كان سيد عليوي عسكريا مفرغا من العواطف, فإن كل علاقة في رأي سيفو هي علاقة إنسانية مليئة بالعاطفة. وإذا كان سيفو متبسطا مع الناس, منفتحا عليهم في البيوت والمقاهي, فإن سيد عليوي لا يمكن الوصول إليه إلا بعد قطع سلسلة من التحقيقات والحراسات, التي لا تنتهي إلا بشق الأنفس. وهذا ما حصل مع بدري نفسه حين أوفده الباشا لتكريم سيد عليوي بالنياشين, حين كان مشغولا في حربه مع الدليم (ج1, ص334). لكن الاختلاف الرمزي الصارخ بينهما يتمثل في كون سيد عليوي يريد موت حتى أقرب المقربين إليه في الحروب أو العطش والتيه في الصحراء (ص332), وكون سيفو هو سقاء المحلة الذي يوزع على الجميع ماء الحياة (ص415).

    هناك إذا تناظر بين رواية المحلة ورواية السراي. بقدر ما يمتاز أهل المحلة بالتلقائية والعواطف الجياشة والمشاعر الدافئة, يمتاز أهل السراي بالعقلية التآمرية وغياب العواطف أو تزييفها, بغية الوصول إلى أهداف أخرى, تلتقي في نهاية المطاف عند هدف الصراع على السلطة. سيد عليوي, مثلا , يتآمر على داود باشا, ويتظاهر في الوقت نفسه بمحبته. والباشا حريص على إرضاء الباليوز ومستر ريتش, لكنه لا يتردد في تصويب مدفع نحوه, حين يشعر بالحاجة إلى ذلك. كل شخصيات السراي-باستثناء داود باشا- معدومة العواطف, لأنها مندفعة صوب هدف واحد لا محيد عنه هو السلطة. من هنا يصبح الصراع على السلطة صراعا يجرد الإنسان من إنسانيته, ويحوله إلى <<آلة>> عمياء في ماكنة الخراب التي تنتجها السلطة.

    لقد ظلت دار روجينا مفتوحة باستمرار لسيد عليوي وحاشيته من الضباط الإنكشاريين في بغداد. وظلت روجينا تكن ودا خالصا لسيد عليوي, برغم زهده في إقامة أية علاقة مشبوهة معها, وإصراره على تأجيلها دائما . بل بلغ تهو رها حدا أنها سافرت بصحبة فتياتها للترويح عن الضباط إلى قلعة كركوك طمعا في نيل رضاه. لكنها ما أن أحست أن السراي يعلم بعلاقتها الدفينة معه, وأن سيد عليوي كان يستغلها لإيصال رسائله إلى الباليوز, حتى استدرجت هي نفسها سيد عليوي إلى بغداد, مما سيترتب عليه إلقاء القبض عليه ومحاكمته وإعدامه. روجينا مثل سيد عليوي تماما . كلاهما بلا عواطف بل بأهداف مرسومة رسما آليا , لأنها أهداف غير إنسانية وغير مشروعة. ويصح الشئ نفسه على عباس أسطنبولي, الذي أوكل إليه الباشا مهمة إشغال صادق أفندي, ابن سليمان الكبير, بألعاب شطرنج لا تنتهي. وكان عباس أسطنبولي يمثل دور المتلهف لهذه الألعاب, لا حب ا بها, بل طمعا بما تدر عليه من مكاسب نفعية غير مشروعة من السراي, ومن صادق أفندي نفسه. هكذا يتضح أن الشخصيات المرتبطة بالسراي بلا عواطف, ولكن بأهداف, وهي مضطرة لذلك إلى المراءاة بعواطف مزيفة, بغية الوصول إلى أهداف مرسومة.

    المفارقة أن بدري بدأ يعد الأيام مستعجلا وصول خطيبته. هيأ له دارا في كركوك. وبدأ يستعلم من القوافل عن موعد وصول قافلة أهله وموكب عرسه. ومن باب استعجال الأيام, صار يضع عددا من الحصى بقدر الأيام المتبقية على وصولهم في صحن, ليتخلص منها كما يتخلص من اليوم الذي يقضيه وحيدا . مع الحصاة الأخيرة, وحين لم يعد يفصله عن خطيبته سوى دقائق معدودة, تمتد إليه بندقية أحد رجال عليوي لتغتاله. وكان سيفو أول الواصلين إليه بين الحياة والموت. المفارقة أن بدري كان يستعجل اقتراب لحظة موته, وهو يستعجل اقتراب لحظة زفافه. كان يرمي الحصى من أجل وداع الحياة, لا من أجل الإقبال عليها. عاش بدري حياته من أجل رواية المحلة, ومات بدسائس رواية السراي. وبموت بدري يسقط الجسر الوحيد الذي يصل بين المحلة والسراي.

    غير أن موت بدري إذ يغلق رواية السراي على مزيد من الرياء والنفاق, فإنه يعمق الشعور بالحداد والمأساوية في رواية المحلة. فبموته تسقط شخصيات المحلة في وهدة الإحباط والضياع. الحاج صالح العلو, والده, يصيبه الخرس. وتنقطع جدته عن الثرثرة والكلام لتنطوي على ذاتها. ولا تكتفي قادرية, والدته, بلبس السواد حدادا عليه, بل تمسح البيت بكامله بالعتمة والسواد. هناك شعور ما بالخرس يصيب الجميع, شلل روحي يدب في مفاصلهم. تذوي الكلمات على شفاههم مهما حاولوا لوكها. هنا نحس باختلاف آخر لرواية السراي عن رواية المحلة. فإذ تضج الأولى بأصوات الشعراء وقصائدهم, وتتباهى ببلاغة العبارات الكبيرة على لسان الباشا, وحفلات الصخب التي يقيمها الجنود حيثما ذهبوا, وحوارات الثقافة العالية التي يتبادلها رجال الباليوز, تذوي الكلمات في رواية المحلة وتتساقط. فصاحة رواية السراي, يقابلها الخرس في رواية المحلة. ولا ينجلي هذا الخرس إلا حين تتم معاقبة من تسبب به. بعد إعدام سيد عليوي فقط, يبدأ صالح العلو باسترداد القدرة على الكلام, وتعلم اللغة من جديد.

    على العكس من مشاعر أهل السراي المزيفة دائما , هناك مشاعر فياضة دائما لدى أهل المحلة. سيفو يقترح على ذنون, الفنان, أن يترك بستان الأعظمية الذي غرق وأغرق تماثيله بعد الفيضان, ويعود إلى ممارسة إبداعه في بستان الحاج صالح العلو. كأن فيضان دجلة, في الجزء الثالث من الرواية, جاء ليطهر المحلة من أخطاء السراي. وقد رأينا أن أهل المحلة يتضامنون عند حلول الكوارث. غالبا ما يكونون متفرقين مشتتين في الظروف الاعتيادية, لكنهم يلتحمون عند نزول المصائب بهم. كلما ازداد هول الكارثة الطبيعية, توثقت عرى الرحمة والتكافل الإنساني بينهم. بعد أن التهم الفيضان تماثيل السيد ذنون, ذهب سيفو وعرض عليه أن يعمل معه, ولكن ليس في بستان الأعظمية, بل في بستان الحاج صالح العلو, وليس هناك أكثر من الطين في بغداد. لكن الفيضان لم يصالح أهل المحلة مع بعضهم فقط, بل هو صالح بين رواية المحلة ورواية السراي. فبعد انكشاف جرم سيد عليوي, واتضاح تآمره مع الباليوز وكرمنشاه, اتضح أيضا أنه هو الذي أمر بقتل بدري. وبإعدامه نال قاتل بدري جزاءه العادل. لم يتأخر وصول الخبر إلى المحلة. الحاج صالح العلو, الذي أصابه الخرس طوال الجزء الثاني من الرواية, بدأ يتعلم اللغة من جديد, ويتمتم بكلمات قليلة. لقد زال الخرس عن المحلة, واستردت قدرتها على الكلام مع الفيضان. كما عاد ذنون إلى نحت تماثيله وفخرها في بستان الحاج صالح العلو. هكذا يكون الفيضان أيضا علامة على مصالحة, ولو ضمنية, بين المحلة والسراي.

    لكنه في المقابل أوقد نيران العداء الصريح بين السراي والباليوز. أدرك المستر ريتش أنه يواجه مع داود واليا من طراز آخر. لقد أفشل جميع خططه في إخضاع رجال السراي لتأثير بريطانيا. كأن كل شيء في أرض السواد يتجه إلى أن يكون صراعا : صراع مع النفس والطبيعة والجيران, صراع مع القرباء والبعداء, صراع بين الماضي والمستقبل. ضاعف داود باشا الرسوم المفروضة على الصادرات والواردات من بريطانيا, فبادر المستر ريتش باتخاذ إجراء مضاد, وهو منع السفن الخارجة من الدخول إلى ميناء البصرة, ومنع السفن الداخلة من الخروج منه. فارتفعت الأسعار في بغداد أضعافا مضاعفة. حاول الباشا تخفيف حدة الأسعار بإكراه التجار على تخفيضها, وعمل في الوقت نفسه على توفير بعض البضائع عن طريق البر من حلب وماردين. لكن الباليوز كان قد أحكم الحصار. أدرك الباشا خطة الباليوز, وحاول إجباره بتسديد مدفع نحوه. ومن ناحيته أصر ريتش على المدافعة عن القنصلية. هكذا صار السراي يواجه حصار الباليوز التجاري بحصار عسكري. وفي الوقت نفسه أرسل داود وفدا للتفاوض مع المستر ريتش. وحين أدرك هذا الأخير أن مقاومته عبث لا طائل منه, طلب السفر إلى الهند. وافق السراي بشرط أن يترك ريتش ورقة يثبت فيها أنه يغادر العراق دون اضطرار وبرغبته. برحيل ريتش تنطوي صفحة الصراع مع الباليوز, كما انتهت من قبل صفحة الصراع مع الإنكشارية, متمثلة بسيد عليوي. حتى اليهودية روجينا تركت السمسرة, وتابت في كنيس. ضغط عليها رجال السراي لاستحصال المعلومات منها عن عزرا, فأجابتهم بأنها <<تركت تلك الشغلة>> وتابت, دون أن تستطيع تسميتها بصراحة. روجينا بعد الفيضان, لم تعد كما كانت. أصبحت أقل كلاما , بعد أن كانت أكثر صخبا . هنا نلاحظ تبادل الأدوار الذي أحدثه الفيضان. كان الحاج صالح العلو وعائلته مصابين بالخرس, وروجينا وجماعتها مصابين بالصخب. بعد الفيضان, استرد صالح العلو قدرته على النطق وفقدتها روجينا.

    في إطار ثنائية رواية المحلة المتخيلة ورواية السراي التاريخية, يصبح العنوان: <<أرض السواد>> عنوانا منقسما بالتورية التي يتوزعها <<سوادان>>. فأرض السواد هي أرض العطاء والربيع والخضرة التي يتنازع حول امتلاكها الحكام والمتنفذون والعساكر وقناصل الدول القوية, ولكنها بالنسبة لفئات الشعب المخنوقة والمغلوبة على أمرها والمنسية تحت ركام الحروب والأوبئة والفيضانات الأرض الملفعة بالحزن الدائم والحداد الأسود المقيم. هناك إذا سوادان: سواد الرواية التاريخية, وهو رمز العطاء والخير والربيع, وسواد الرواية الشعبية المتخيلة, وهو لون الحزن والحداد الذي يستولي على تاريخ هذه الأرض الطويل.

    وحين يضع عبد الرحمن منيف في المفتتح فقرات من رثاء المدن العراقية القديمة سومر وأكد وأور في أطوار تاريخية متعاقبة, في رواية عن تاريخ هذه المدن نفسها ولكن في عصر المماليك من العهد العثماني الأخير, فذلك لكي يوحي للقارئ بالتاريخ الدوري المتكرر لهذه الأرض. هكذا يكون من طبيعة أرض السواد أن تعيد اجترار تاريخها في حلقات دورية متكررة. فهذه الأرض التي بدأت فيها الحضارات, وتنفست منها رئة الدنيا نسمات المدنية الأولى, ظلت باستمرار تكرر تاريخها في دورات من الهدم والبناء, والحياة والموت, والإشراق والأفول, والسواد بمعنى الربيع والسواد بمعنى الحداد. وربما لا تكون هناك منطقة على وجه الأرض عرفت جنسا أدبيا اسمه <<رثاء المدن>> مثلما عرفته <<أرض السواد>>. والغريب أن تتغير الحقب التاريخية على أرض السواد, وتتعاقب عليها الأجيال والشعوب واللغات المختلفة, لكنها تظل دائما محافظة على طبيعتها المأساوية المنقسمة بين <<سوادين>>. كأنما تتغير عليها الشخوص ليعيدوا تكرار المأساة نفسها, فيقولوا الكلام نفسه بلغة أو لهجة أخرى. كتب أحد شعراء بابل في رثاء إحدى المدن:

    إيلشا إيلو يبكو عنى ماتم

    (جلس) الآلهة معها يبكون على البلاد.

    وذهب زمن هذا الشاعر البابلي, واندثرت لغته, وجاء شاعر عربي في عصر الحجاج, ليعيد قوله بلغة أخرى:

    ذهب الرجال, فلا أحس رجالا

    وأرى الإقامة في العراق ضلالا

    وأرى المقيم على العراق وذلّـه

    ظمـآن هاجـرة يؤمّـل آلا

    وتعاقبت أجيال أخرى ليرثي شاعر آخر المدينة التي خرّبها

    المغول:

    لسائل الدمع عن بغداد أخبار

    فما وقوفك والأحباب قد ساروا

    وانطفأ زمن هذا الشاعر, وجاءت أزمنة شعراء آخرين أعادوا الكلام نفسه وكرروا رثاء المدينة بتقاليد شعرية أخرى. وإن القارئ ليشعر أن بوسعه استبدال أية قصيدة من هذه القصائد بأخرى, لأنها جميعا تعبر عن مضمون واحد, هو رثاء مدينة تنهض من أنقاض الرماد, وتتجدد لتخبو ثانية وتنهدم, كأنما هي طائر العنقاء. أرض السواد التي يرثيها الشاعر السومري أو البابلي أو الأموي أو العباسي أو العثماني هي هي لم تتغير في طبيعتها المزدوجة التي ما أن تتألق حتى تخبو, وما أن ترتفع حتى تهبط, وما أن تزدهي بالربيع والعطاء حتى تتلفع بالحداد والحزن. تتغير الحضارات واللغات والشعوب التي تتعاور على مسرحها, لكنها تظل دائما تمث ل <<الدور>> المأساوي المنقسم نفسه. وهذا هو بالضبط ما تريد نقله الفقرات الافتتاحية في الرواية المنقولة عن قصائد رثاء المدن السومرية والأكدية القديم
                  

العنوان الكاتب Date
عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-23-05, 05:18 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-23-05, 06:39 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-23-05, 09:39 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-23-05, 10:32 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-24-05, 08:46 PM
    Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Murtada Gafar05-24-05, 09:21 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-25-05, 06:08 AM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-26-05, 04:03 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Ehab Eltayeb05-26-05, 07:52 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-27-05, 05:37 AM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Ibrahim Adlan05-27-05, 07:17 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-28-05, 01:06 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef05-28-05, 01:15 PM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef06-11-05, 10:53 PM
    Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش salah elamin06-12-05, 01:44 AM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef06-12-05, 10:30 AM
    Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش jini06-12-05, 10:47 AM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef06-12-05, 11:06 AM
  Re: عبدالرحمن منيف روائي مدهش Sabri Elshareef06-24-05, 09:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de