|
التنوع الثقافي بالسودان عبرالتاريخ ..كتبت د.انتصار صغيرون الزين
|
هيأت الظروف للسودان بموقعه الجغرافي في قلب القارة الأفريقية ، وبكبر مساحته، أن يكون مسرحا لنوع من أنواع التعددية الثقافية ، فقد أصبح السودان بحكم موقعه هذا ملتقى للطرق التجارية من الشرق للغرب ومن الشمال للجنوب وبالعكس. وقد لعب النيل الخالد الذي يخترق أراضيه من الجنوب إلى الشمال، مثريا البلاد بالأراضي الخصبة وبموارده الأخرى، دورا هاما في هذه التجارة كما لعب البحر الأحمر دوره في هذه التجارة باعتباره منفذا للبلاد على آسيا وبقية أجزاء العالم وقد لعبت الصحراء أيضا دورا هاما بوصفها مصدرا من مصادر الثروة المعدنية والأحجار الكريمة وممرا لقوافل الحجيج في العصور الوسيطة. كل هذه الأسباب جعلت السودان أرضا جاذبة للبشر منذ أقدم العصور وحتى اليوم. وبمثل هذه التعددية المناخية والبيئية نجد تعددية ثقافية لازمت تاريخه الطويل والذي يمتد عميقا منذ عصور ما قبل التاريخ مما جعل من السودان بوتقة صهر للثقافات المتنوعة. مهدت هذه الظروف البيئية والمناخية والثقافية المتعددة إلى أن يكون السودان نقطة الإنطلاق إلى داخل أفريقيا كما لفتت الأنظارنحوه منذ الأزل فنجده مذكورا في نصوص الملوك المصريين منذ بدء الكتابة. ولذلك نجده معروفا في هذه النصوص بعدة أسماء، مثل تاسيتي Ta seti وتعني أرض الأقواس، ونجد أن استخدام الأقواس ومهارة النوبيين في هذا المجال استمرت حتى عهود الإسلام عندما أطلق المسلمون على أهل النوبة اسم "رماة الحدق" . كما نجد اسم واوات Wawat والذي أطلق على سكان المنطقة بين الشلالين الأول والثاني . ونجد اسم كوش أو كاش. ونجد اسم أثيوبيا وتعني أرض أهل البشرة السوداء في اللغة الإغريقية ونجد اسم تا نحسو Ta Nahasu وربما تعني أرض المحس.
النوبة أرض السودان :
وقد اتفق الباحثون اليوم على اطلاق اسم النوبة Nubia على أرض السودان وتشمل المنطقة الممتدة من سنار جنوبا وحتى الشلال الأول شمالاً. وهذه البقعة شهدت ثقافات وحضارات عريقة ومتجذرة قبل وصول المسيحية للبلاد، وهي حضارات يعود تاريخها إلى عشرا تالآلاف من السنين قبل الميلاد . تبدأعصور التاريخ القديم منذ العصور الحجرية الثلاثة والتي مارس فيها إنسان السودان كل ممارسات إنسان العصور الحجرية في بقية أنحاء العالم وقد تمثلت مواقعه الأثرية في خور أبوعنجة (عصر حجري قديم ) وموقع مستشفى الخرطوم – الخرطوم المبكرة (عصر حجري وسيط) والذي شهد بداية صناعة الفخار المتقدمة على بقية أنحاء العالم ، وهي التي تطورت خلال العصر الحجري الحديث في موقع الشهيناب. وكان لمشروع تعلية خزان أسوان 1907 الفضل في الكشف عن مواقع سدةت الثغرة بين نهاية العصور الحجرية وبدايات عصور المعادن في السودان. وقد أطلق على هذا الموقع اسم (المجموعات النوبية) ولأنها ذات أصل غير مصري عكس ما كان متوقعا، فقد أطلقت عليها الحروف الرومانية (A,B,C) (أ،ب،ج) وقد عكست مخلفاتهم الثقافية تطورا في نواحي الحياة المختلفة وانتشار الزراعة وممارسة أهل السودان الرعي بصورة مكثفة كما أظهرت العمارة المحلية والفنون الخزفية المتنوعة. وقد عاصرت إحدى هذه المجموعات وهي المجموعة (ج) أول سيادة سودانية كاملة متمثلة في حضارة كرمة (1500-3500 ق.م ) والتي ظهرت فيها الدولة بكل معانيها وتطورت العمارة والفنون المختلفة خاصة الفخار، وقد اتفق كل الباحثين الآن على أن حضارة كرمة ومدينة كرمة هي أقدم دولة أفريقية مركزية ذات أصول وجذور محلية اكتشفت حتى الآن. وقد انتهت هذه الحضارة العريقة بالوجود الفرعوني المصري بالسودان والذي أثر على البلاد سكانيا وعقائديا الشيء الذي أثر فيما بعد على حكام البلاد من الأسرة النبتية (350-900ق.م) وقد زاد ذلك التأثير عندما حكم أبناء النوبة (الأسرة 25) مصر من الدلتا وحتى الصعيد لأكثر من 70 عاما وقد أثبت حكام هذه الأسرة مثل بيي (بعانخي) وتهارقا تحضرهم وثقافتهم بعد تحطيمهم للمعابد والقصور عند غزوهم لمصر.
الدولة المروية أعظم الحضارات السودانية :
وفي منتصف القرن الرابع ق.م تحولت الزعامة من منطقة البركل إلى مروي (شندي) وتأسست أعظم الحضارات السودانية والتي شهدت خلالها البلاد ظهور العناصر الثقافية المحلية المتمثلة في عبادة الإله المحلي أبادماك Abedemac وغيره من الآلهة المحليين، وفي العمارة المتفردة للمعابد والقصور والفنون الأخرى وصناعة الحديد بالإضافة لظهور اللغة المروية في القرن الثاني ق.م. وعندما انتهت الدولة المروية سياسيا على يد عيزانا الأكسومي تقسمت إلى ممالك صغيرة ومشيخات مهدت الطريق أمام البعثات التبشيرية المسيحية وتكونت ثلاث ممالك مسيحية هي نوباتيا وعاصمتها فرص، والمقرة وعاصمتها دنقلا القديمة وعلوة وعاصمتها سنار. وقد استمرت هذه الممالك لأكثر من ستة قرون في حالة تعايش وسلام مع القبائل بالداخل ومع العرب بعد اتفاقية البقط. وتمثل هذه الفترة مرحلة ثقافية جديدة بدا فيها التوحيد بدين سماوي وما يمثله من كنائس وشعائر جديدة وعمارة وفنون ، خاصة فنون الخزف والرسوم الجدارية. وعندما بدأت التحالفات العربية تقوى ظهرت الممالك الإسلامية، مستقطبة أعدادا من الفقهاء والعلماء ورجال الطرق الصوفية والذين يعود إليهم الفضل في أسلمة السودان وفي خلق سودان اليوم المسلم الممزوج بالصوفية، المتحدث معظم سكانه باللغة العربية .هذه الممالك الإسلامية ورثت ما يمكن ان نسميه بالثقافات التراكمية والتي توضح التعايش بين الثقافات المتنوعة سلما وحربا. ونواصل
|
|
|
|
|
|
|
|
|