|
الإلحاد لا يجب أن يكون جزء من برنامج الحزب
|
ينظر معظم مؤيدي الماركسية وخصومها إلى عبارة" الدين أفيون الشعوب " الشهيرة علي إنها خلاصة المفهوم الماركسي عن الظاهرة الدينية . علي أننا يجب أن نتذكر بادئ ذي بدء أن هذا التعبير ليس ماركسيا بشكل خاص ، فالعبارة نفسها يمكننا العثور عليها ، في سياقات مختلفة ، في كتابات كانط وهيردر وفيورباخ وبرونو باور وهاينريش هاينه......
ٌإن من شأن قراءة متأنية لمجمل فقرة ماركس التي يظهر فيها تعبير " الدين أفيون الشعوب " أن تبين أن كاتبها أكثر إدراكا لدرجات الألوان مما هو شائع عنه .فهو يأخذ في اعتباره الطابع المزدوج للدين : "إن الهم الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن هم واقعي واحتجاج علي هم واقعي . إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة ، هو قلب عالم لا قلب له ، مثلما هو روح وضع بلا روح . إنه أفيون الشعب " .
وإذا ما قرأنا مجمل البحث الذي ترد فيه هذه الفقرة - والذي يحمل عنوان " نحو نقد لفلسفة الحق الهيجلية " والمكتوب في عام 1844 - فسوف يتكشف لنا بوضوح أن رأى ماركس يدين للهيجلية الجديدة اليسارية ، التي اعتبرت الدين اغترابا للجوهر الإنساني ، بأكثر مما يدين لفلسفة التنوير التي ترجع إلي القرن الثامن عشر والتي أدانت الدين بوصفه مؤامرة إكليركية لا أكثر ولا اقل . والواقع أن ماركس عندما كتب الفقرة الأنفة كان لا يزال تلميذا لفيورباخ، هيج يليا جديدا . ومن ثم فإن تحليله للدين كان " قبل ماركسي " لا يتميز بأية إحالة طبقية علي انه مع ذلك جدليا لأنه قد استوعب الطابع المتناقض للظاهرة الدينية : فهي في بعض الأحيان تمثل إضفاء للشرعية علي المجتمع القائم وهي في بعض الأحيان تمثل احتجاجا عليه . ولم تبدأ الدراسة الماركسية المحددة للدين بوصفه علاقة اجتماعية وتاريخية إلا فيما بعد - خاصة مع مخطوط " الأيديولوجية الألمانية ( 1846) .
وقد تضمنت تلك الدراسة تحليلا للدين بوصفه أحد الأشكال الكثيرة للإيديولوجية ، الإنتاج الروحي لشعب ما ،إنتاج الأفكار والتمثيلات والوعي - والتي تعتبر كلها بالضرورة مشروطة بالإنتاج المادي والعلاقات الاجتماعية المتناسبة معه ، علي أن ماركس ، منذ تلك اللحظة فصاعدا ، لم يول اهتماما كبيرا للدين بصفته هذه ، أي بصفته كونا ثقافيا /أيديولوجيا نوعيا للمعني .
..... وانجلز أبدي فرديريك اهتماما بالظاهرة الدينية وبدورها التاريخي يفوق اهتمام ماركس بهما بكثير . وتتمثل مساهمة انجلز الرئيسية التي قدمها إلى الدراسة الماركسية للأديان في تحليله لعلاقة التمثيلات الدينية بالصراع الطبقي . وفيما وراء المناظرة الفلسفية ( المادية ضد المثالية ) حاول فهم وتفسير التجليات الاجتماعية الملموسة للأديان . فالمسيحية لم تبدو في نظره ( مثلما كانت تبدو في نظر فيورباخ ) بوصفها "جوهرا " منفصلا عن الزمن ، بل هي تبدو بوصفها شكلا ثقافيا يتعرض لتحولات في العصور التاريخية المختلفة : فهي تبدو في البداية بوصفها ديانة للعبيد ، ثم بوصفها أيديولوجية ملائمة للهيراركية الإقطاعية واخيرا بوصفها أيديولوجية تتميز بالتكيف مع المجتمع البورجوازي .
وهي تظهر من ثم بوصفها فضاء رمزيا تتنازع عليه قوي اجتماعية متناحرة : اللاهوت الإقطاعي والبروتستانتية والبورجوازية والهرطقات الشعبية . وفي بعض الأحيان كان تحليله يزل في اتجاه تفسير نفعي ، ذرائعي ، بشكل ضيق للحركات الدينية : ".... وان كل طبقة من الطبقات المختلفة تستخدم الدين الملائم لها ... ولا أهمية تذكر لما إذا كان هؤلاء السادة يؤمنون بالأديان التي يتبناها كل منهم أم لا " ويبدو أن انجلز لا يري في صور الإيمان المختلفة غير" الستار الديني" للمصالح الطبقية .
لكن انجلز بفضل منهجه الذي يؤكد علي الصراع الطبقي ن قد أدرك - خلافا لفلاسفة التنوير - أن النزاع بين المادية والدين لا يتطابق دائما مع الصراع بين الثورة والرجعية . فنحن نجد ، علي سبيل المثال ، في إنجلترا في القرن الثامن عشر ، أن المادية ممثلة في شخص هوبز قد دافعت عن الملكية المطلقة في حين أن الشيع البروتستانتية قد استخدمت الدين كراية لها في النضال الثوري ضد آل ستيوارت .
وبالشكل نفسه ،بدلا من اعتبار الكنيسة كلا متجانسا من الناحية الاجتماعية نقدم تحليلا رائعا يبين كيف أن الكنيسة قد انقسمت في بعض المنعطفات التاريخية بحسب تركيبها الطبقي . وهكذا فخلال زمن الإصلاح ،كان علي أحد الجانبين كبار رجال الدين ، القمة الإقطاعية للهيراركية، وكان علي الجانب الآخر صغار رجال الدين ، الذين جاء من بين صفوفهم إيديولوجيو الإصلاح وإيديولوجيو الحركة الفلاحية الثورية ز ومع كون انجلز ماديا " ملحدا " وعدوا لدودا للدين ، فانه قد أدرك ، شأنه في ذلك شأن ماركس الشاب ، الطابع المزدوج للظاهرة الدينية : دورها في إضفاء الشرعية علي النظام القائم ، ولكن أيضا ، تبعا للظروف الاجتماعية ، دورها الإنتقادي والاحتجاجي ، بل والثوري .
وعلاوة علي ذلك فإن معظم الدراسات الملموسة التي كتبها قد ركزت علي هذا الجانب الثاني : حيث تركزت ، بالدرجة الأولي ، علي المسيحية البدائية،
ديانة الفقراء والمنبوذين والمهانين والمضطهدين والمقهورين .
فقد جاء المسيحيون الأوائل من ادني مستويات المجتمع : العبيد ، الأحرار الذين حرموا من حقوقهم ، وصغار الفلاحين الذين نزحوا تحت نير الديون بل إن إنجلز قد مضي إلى حد رسم تواز مثير بين هذه المسيحية البدائية والاشتراكية الحديثة : ( أ ) إن الحركتين الكبيرتين ليستا من عمل زعماء وأنبياء- مع أن الأنبياء ليسوا بالمرة قليلين في أي منهما -بل هما حركتان جماهيريتان . ( ب )إن كليهما حركات مضطهدين ، يعانون من القهر والمنتمون إليهما يتعرضون للتشريد والملاحقة من جانب السلطات الحاكمة .
( ج ) أن كليهما يدعوان إلى تحرر وشيك من العبودية والبؤس . وسعيا إلى زخرفة مقارنته ، نجد أن إنجلز يتجه ، بشكل مثير إلى حد ما ، إلي الاستشهاد بقول مأثور للمؤرخ الفرنسي رينان : " إذا أردتم تكوين فكرة عما كانت عليه حال الجماعات المسيحية الأولي ، انظروا إلي شعبة محلية لرابطة العمال الأممية " ويري انجلز أن الفارق بين الحركتين يتمثل في أن المسيحيين الأوائل قد نقلوا الخلاص إلي الآخرة بينما تتصوره الاشتراكية في هذا العالم الدنيوي . ولكن هل يعتبر هذا الفارق واضحا بالدرجة التي يبدو بها للوهلة الأولي ؟
يبدو أنه قد اصبح مطموسا في دراسة إنجلز للحركة المسيحية الكبرى الثانية - " حرب الفلاحين في ألمانيا " - فتوماس مونزر، لاهوتي وقائد الفلاحين الثوريين والعوام الهراطقة في القرن السادس عشر كان يريد تجسيدا فوريا علي الأرض لمملكة الرب ، مملكة الأنبياء الألفية السعيدة . ويري انجلز أن مملكة الرب كانت بالنسبة لمونزر مجتمعا لا يعرف الفوارق الطبقية ولا الملكية الخاصة ولا سلطة دولة مستقلة عن أفراد ذلك المجتمع وغريبة عنه . علي أن انجلز كان ما يزال ميالا إلى اختزال الدين إلي مستوي حيلة : فقد تحدث عن " صيغ " مونزر " الكلامية " المسيحية وعن " ستاره " الإنجيلي ويبدو انه قد غاب عن باله البعد الديني المحدد للنزعة الألفية المونزرية ، قوتها الروحية والأدبية ،وعمقها الصوفي المعيش معايشة صادقة . وأيا كان الأمر ، فإن انجلز ، بتحليله الظاهرة الدينية من منظور الصراع الطبقي ، قد ابرز القوة الاحتجاجية للدين وشق الطريق لنهج جديد - متميز عن كل من الفلسفة التنويرية التي ترجع إلي القرن الثامن عشر والهيجلية الجديدة الألمانية - لتناول العلاقة بين الدين والمجتمع . ومعظم الدراسات الماركسية في القرن العشرين عن الدين تقتصر إما علي تفسير أو تطوير للأفكار التي عرضها ماركس وانجلز أو علي تطبيقها علي واقع محدد .
ولنا عوده
|
|
|
|
|
|