|
حوارية مسدارية:من شاعر البطانة الصادق أب آمنة: السفير جمال محمد إبراهيم
|
حوارية مسدارية:
من شاعر البطانة الصادق أب آمنة
السفير جمال محمد إبراهيم
[email protected] 1-
زرت أرض البطانة في منتصف السبعينات ، برفقة الباحث عالم الإجتماع النرويجي قونار سوربو . نزلنا ضيوفا على أهل قرية " ريرةالجديدة " . أسبغ علينا أهلونا هناك ، كرما عربيا بدويا حاتميا كنت أجد معه عسرا في إقناع " الخواجة " الذي أرافقه ، أن وجودنا و إقامتنا مع هؤلاء القوم لا تشكل عبئا يذكر عليهم ، بل هو في نظرهم أمر تفرضه قيم راسخة ، و عادات أصيلة تجعل إكرام الضيف ، من أي بقعة جاء ، " خواجة" كان أو "ود بلد " ، من الأمور التي لا تقبل المجادلة أو المساومة . لم يكن كرما فحسب ، بل هو كسب لعادات جديدة كان لزاما علينا أن نكيف نفسينا ، أنا و "سوربو" على تحملها ، و ربما احتمالها . كنت أسترق النظر ل"سوربو" النرويجي و هو يتلقى كوب الحليب الرابع و ربما الخامس ، في صباح باكر قبل بدء عملنا . و هكذا غرقنا في بحر كرم أهلنا الشكرية أياما طويلة ، أنجزنا عملنا و لكن كسبنا ود هؤلاء القوم و نلنا حظوة لدى قيادة القرية فكان ذلك من أسباب فلاحنا في عملنا . .
كان عملنا يتصل بالتعرف على سمات التغيير و اتجاهات التحول المتوقع في مجتمع أحدث معه تهجير النوبيين من الشمال إلى سهل البطانة ، هزة عظيمة في السائد من النظم الإجتماعية و سبل المعيشة . مشروع إقتصادي مقيم في بيئة بداوة و ترحال . يناقض نظام الرعي عند أهلنا الشكرية ، نظاما جديدا يقوم على حرفة الزراعة المقيمة ، أعتمدت للحلفاويين في مشروع خشم القربة ، والذي صاحبه قيام مركز حضري جديد ، تطور ليصبح مدينة جديدة هي " حلفا الجديدة " . كان عملنا يتصل بالتعرف على مؤشرات هذا التضاد بين ثقافتين ، إحداهما رعوية و الأحرى زراعية . أقرأ معي ما كتب "قونار سوربو " ، في رسالته الجامعية التي قدمها في جامعة بيرجن :
" لقد تميزت السنوات الأولى بالنسبة للحلفاويين بالخوف و التردد و ضعف الثقة . و كان النوبيون يحسبون الرشايدة و البجا ، جماعات منغلقة غير قابلة للتطور . إنهم بدو في نظرهم ، يمتشقون السيوف و المدى و ينهبون البهائم بليل ، و يخادعون النوبيين المقيمين الذين يستأجرونهم للعمل في حواشاتهم ضمن المشروع " . . و يمضي "سوربو" ليقول ، إن أوامرًا قد صدرت من بعد تمنع الرحل من امتشاق الأسلحة البيضاء عند دخولهم القرى النوبية ، و أن تلك هي ذات النظرة التى يرى بها النوبيون عرب الشكرية المسالمين، الذين يساكنونهم السهل ، و هو في الأصل مقام تقليدي للشكرية .
2-
تلك خلفية لا بد منها ، حتى أبين لك عزيزي القاريء ، كيف قابلت الشاعرالراحل البدوي المجيد الصادق حمد الحلال ، أو الصادق أب آمنة . كنت قد قرأت قبلا ما كتب عنه البروفسور حريز و الأستاذ الطيب محمد الطيب فأوفيا . لكن كان الرجل بحر من الشعر البدوي ، منساب لا ينضب . .
كان للشاعر الصادق حضور قوي ، و نفس شعري مبهر . لم يكن في كامل أرض الشكرية من يجاريه ذلك الزمان الذي أحدثك عنه . رجل فارع الطول ، دقيق الملامح ، منشرح الأسارير . هاديء مثل نسمة تأتيك بعد نهار مطير ، لكنه يخفي توترا يعتمل في دواخله مما لا يخفى على من يجالسه لساعات . . مثلما فعلت أنا و الباحث النرويجي " سوربو " . القلق الذي يفيض من وجه الصادق حمد الحلال ، هو قلق الفنان ترهقهإلى جانب الحساسية المفرطة ، المعاناة يكابدها في بيئة تترصد الأصول و الأنساب ترصدا مهلكا . لا أسترسل في هذا الجانب بل أتركه لسانحة أخرى، حين تتوفر لي بعض المراجع لتوثيق محكم .
3-
أقدم لك فيما يلي عزيزي القاريء حوارية مسدارية ، ألفها الشاعر البدوي الصادق حمد الحلال (أب آمنة) . ترى في هذه القطعة المقدرة الفائقة لشاعرنا البدوي ، على المشاخصة المسرحية لتصوير التناقض البنيوي بين بداوة صرفة أساسها الرعي ، وحضر مقيم على نشاط زراعي . تقليد راسخ ووافد بدع ، إن شئت وصفا أدق . يدور الحوار المسداري بين "مزارع" و "غنامي". . و الشعر من السهل المفهوم و لا يحتاج في تقديري لشرح أو حواشي . .
المزارع : وطاتك صايفة و اتلتلون كرعيك
وربطوك بالسلب والآخرة من فوق ليك
تقطف في الدلو و خام الحروت بيديك
مرقوك العصر متل القدود عينيك
الغنامي: الحواشة جابتلك نجيلتن حارة
من أكل الدقيق كرشت و بطنك جارة
طباك الفلس زهجان وروحك كارة
من صقط الترع تقطر دمعتك خارة
المزارع: صرفولي القطن قبل القمح و الفول
يا صاحب الدبيب لا يمني شن بتقول ؟
جربانك كرتب و بالصرار مشغول
قايل خلاص رزق الشمش ما بزول ؟
الغنامي: رجع فوق النعاج ، أم الفرود و التوم
عزل بهمي ، دفر غنمي، و شبع لي نوم
إت تابع الصرف ما حددولك يوم
عمال القطن تابعاك نبيشة و لوم
المزارع: قال لي" صايم طول نهارك تطوي في الحنتوت
فوق كيله و ربع لامن خريفك يفوت "
جربانك كرتب و في الصرار بتصوت
يوم يا صاحبي ، بتنقدك دبيبة تموت
الغنامي: بالكوريك تسدد ، منبلي و حرقان
واقف طول نهارك و القمح غرقان
لميت الطلب ، جيت لام سراب شرقان
إت ساعة الخلاص من العجم عرقان
المزارع: مكاوش في القشوش القفرة و المتلية
من حر الصقط كرعيك شقوقهن مية
عرفناك في الجلب بتجمع المالية
يا جان الغنم ، وين الزكاة الفرضية
الغنامي: الليل و النهار راكب الحمار ما بلين
تجمع في ام سراب متل الجمل متطين
آلآم الفلس ، فوقك مؤثر بين
من حش النجيل، ضهرك عضامو تزين
المزارع: لبس عالي و مرق من بيتي زولا شاهر
فوق العسنة و البكارة ، ماني مساهر
الليل كلو تطرد في الحمير و تناهر
عيب دقني إن لبس في عمرو هدمًا طاهر
الغنامي: إتناشر شهر فوق أم سراب مسجون
موية الترعة سوتلك تلاتة بطون
طباك الفلس ، تسأل تقول مجنون
أنا خايفك تموت من القطن مديون
الغنامي (مخاطبا محصول القطن ):
يا قطن أم سراب أنا منك أعمل كيف ؟
بيني و بينك الخصمة و حرابة السيف
خميت ناسي تب خليتني قاعد ضيف
كمان عدمتني البسقي النعاج بالصيف
القطن (يرد على الغنامي ):
قسم بالله كان تجري و تجيني كتير
أضربك ضربة واحدة تغطسك للجير
ماك عارفني عندي مفتشين و مدير؟
وماك عارفني سويت لزريبة غفير ؟
الغنامي: زريبتك هادي ختيتلها ختة عامر
الغبشة أم غفيرًا للمعيزة بسامر
شهيت الركوب فوق المحنة وضامر
لميت النجيل عاد داير تخرب العامر ؟
القطن : ماك عارفني وافر و النقاص تميتو
مطرود الحبش من الصبح لميتو
المسكين كسيتو هدوم و كبر بيتو
صارعت الفقر من ناس عطية رميتو
الغنامي: سنتك واحدة بس لا اتلتت لا اتنت
من حر الفلس زهجت جماعتك و جنت
حارسين المكاتب للمحال تتصنت
منا و جاي حكايتك يا رفيقي اتشنت
المزارع : القش إتملا و اتواقفنلو شروفهن
راعيهم متقز منهن ما بشوفهن
لاوي رقبتو في لوحة يمينو خروفهن
أماتو الكبار يجابدن في صوفهن
الغنامي: يا رب العباد تجي السنة البدرية
إتوالن سواري و تردف الضحوية
قيزان الجميلي يجيبن أب شوشية
بت أم سبحة تلعب فوقهن الصقرية
المزارع: نفسك ديمة من جيهة الكرم مسدودة
ماك ظالم زكاة الله العليك مفروضة
ضانك تصدفو السارية إن برد في فودة
تتعوض صفير زمبارتك المقدودة . .!
الغنامي: نفسك ديمة من حر الفلس موهومة
فوق ضهرك ديون العالمين مردومة
إت مالك مدنقر . . صفقتلك بومة ؟
و لا هموم ديون حواشتك المقسومة ؟
4-
كما ترى عزيزي القاري ، هذا شعر يماثل شعر المناكفة الذي يقع بين الأخوان و شاع في الأربعينات و الخمسينات ، من القرن الماضي ، بين شعراء " الكتيبة " مثل ابن عمر و محمود الفكي و كرف . . و أضرابهم . لكنا لمسنا في الذي سجلناه عن شاعرنا الراحل الصادق أب آمنة ، هذا التسامح المشع في أشعاره ، برغم ما أوجزت لك من تناقض حاد بين أسلوبين في الحياة الإقتصادية : الرعي و البداوة عند أهل البطانة ، و الزراعة المقيمة عند النوبيين الوافدين . .
أختم حديثي عن بعض أشعار الصادق أب آمنة ، بأن أنبه الدارسين للرجوع للشعر الشعبي البدوي ، و للمسادير في مظانها و ينابيعها ، و هي وافرة تكاد تفيض بما فيها من إبداع يصدر عن صدق و يعبر عن هموم المجتمعات السودانية ، تعبيرا أصيلا . ذلك جهد و جهاد ، نأمل أن يقوم به أهل الدراية و التخصص . إن في السودان تميز في كل شيء ، يبقى علينا أن نلتفت إليه نلقي الضوء الساطع عليه ، ففيه مؤشرات جد هامة تحدث عن " الشخصية السودانية ". . هذه التي تتناوشها الأسئلة و تتخطفها التنازعات . .
الخرطوم مايو 2005
Source: Sudanile May 22, 2005
|
|
|
|
|
|