|
ولعل قائلاً يقول: (Re: Nabil Sharaf Aldin)
|
ولعل قائلاً يقول: وما مناسبة الحديث عن الحب الآن وقد انقضى عيده ومضى إلى حال سبيله بعد أن احتفل به العالم شرقاً وغرباً؟ فأقول: ومتى اختار الحب مناسبة كي يطرق أبواب القلوب ويطلب الاذن بالدخول؟ ألا ترى أنه يخطف الابصار كوميض البرق فلا يعرف المرء كيف يأتيه ومن أي جهة يأتي ومتى يأتي؟ ها هو جميل بن معمر يقبل بإبله يوماً على غير موعد سوى ذلك الذي رسمه له القدر, فيوردها وادياً يقال له بغيض, ويشاء القدر أن ترد الماء في تلك اللحظة فتاة صغيرة ذات حسن وجمال يقال لها بثينة, فتمرّ على فصال لجميل باركةَ ـ والفصال هي أولاد الناقة ـ فتنفِّرها فيسبّها جميل وكان لايزال فتى صغير السن فتسبه هي أيضاً.. ويقدح الحب شرارته الأولى فيضيء وميضه سماء قلبه, ويحب جميل سباب بثينة ويعلق بها.. وفي ذلك يقول: وأول ما قادَ المودةَ بيننا بوادي بغيضٍ يا بُثَيْنُ سِبَابُ وقلنا لها قولاً فجاءتْ بمثِلهِ لكلِّ كلامٍ يا بُثَيْنُ جوابُ ثم تبدأ ملحمة من ملاحم الحب إذ يجافي النوم عيني جميل, وتظل صورة تلك الصبية الحسناء تطارد خياله وتتسلل إلى مضجعه فتحرمه لذة المنام, ويعرف مكابدة الغرام, حتى إذا ما استطاع أن يحرِّك فيها أثر اللقاء الاول ويفوز منها بوعد بلقاء ثانٍ حالت حراسة أهلها لها دون تحقيقه بعد أن فشا سرها, فيظن أنها قد أخلفت عن قصد موعدها معه فيقول: صادتْ فؤاديَ يا بُثَيْنُ حِبَالُكُمْ يومَ الحَجونِ وأخطأتْكِ حَبَائلي فأطعتِ فيَّ عواذلاً وهجرتِنيِ وعصيتُ فيكِ وقد جهدنَ عواذلي لكنّ المحبّ لا يعدم وسيلة لايجاد العذر لمحبوبه, كأني به يبحث عن السلوان لنفسه وبث الامل فيها حتى لا تتقطع به حبال الرجاء فيركن إلى جبال اليأس.. وها هو شاعرنا الغارق في هوى بثينة يقول: وما أنسَ مِ الاشياءِ لا أنسَ قولَها وقد قَرَّبَتْ نِضْوي: أمصرَ تريدُ؟ ولا قولَها: لولا العيونُ التي ترى لزرتُك فاعذُرْني فَدَتْكَ جُدُوْدُ وتظل معاناة جميل قائمة إذ كثيراً ما قلّت الحيلة وعزّت الوسيلة إلى لقاء بثينة, وتظل شكواه حاضرة في شعره لكثرة ما حيل بينه وبينها, فليس أذكى للشوق والحنين من الحرمان, إذ لا يزيد انقطاع الوصل نار المحب إلاّ تأججا, فما هو أقصى ما يرجوه جميل من بثينة؟ يقول في غير طمع ظاهر: وإني لأرضى من بثينةَ بالذي لو ابصرهُ الواشي لقرّتْ بلابِلُهْ بلا, وبأنْ لا استطيعُ, وبالمُنَى وبالأملِ المرجِّو قد خابَ آمِلُهْ وبالنظرةِ العَجْلى, وبالحولِ تنقضي أواخِرُهُ لا نلتقي وأوائِلُهْ فهل يخطر على بال مخلوق أن يكون ذلك أقصى ما يتمناه عاشق من معشوقه؟ حتى أنه ليروى أن والد بثينة وأخاها كانا يستمعان إليهما في هذه الجلسة ليفاجئاهما بما يباعد بينهما, فلما وصل جميل إلى البيت الاخير التفت الفتى إلى أبيه وقال له: ليلتق بها في كل حين مازال هذا هو حبهما ومازال هذا هو حديث اللقاء. ولكن هل تخفف اللقيا من حرارة الشوق ولوعة الحب؟ يجيب جميل: إذا ما دَنَتْ زِدْتُ اشتياقاً وإنْ نأتْ جزعتُ لنأيِ الدارِ منها وللبُعْدِ هذا الحب زانه عفاف لم يُعْرَف له مثيل, يقول عباس بن سهل الساعدي: لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل فانه يعتلّ, نعوده؟ فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه, فنظر إليّ وقال: يا ابن سهل, ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط, ولم يأت بفاحشة, ولم يقتل النفس, ولم يسرق, يشهد أن لا إله إلا الله؟ قلت: أظنه قد نجا وأرجو له الجنة؟ فمن هذا الرجل؟ قال: أنا, قلت: ما أحسبك سلمت وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة, قال: لا نالتني شفاعة محمدٍ إنْ كنت وضعت يدي عليها لريبة. فلا غرابة إذن أن نستمع إلى بثينة وقد بلغها خبر جميل تقول: وإنّ سُلُوّي عن جميلٍ لساعةٌ من الدهرِ ما حانت ولا حان حينُها سواءٌ علينا يا جميلُ بنَ مَعْمَرٍ إذا مِتَّ بأساءُ الحياةِ ولينُها
|
|
|
|
|
|