ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-12-2024, 02:44 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-27-2004, 11:33 PM

Amjed
<aAmjed
تاريخ التسجيل: 11-04-2002
مجموع المشاركات: 4430

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل (Re: Ehab Eltayeb)

    3

    اللعبة الكبيرة

    سيرة السراب





    فالسيد زين العابدين محمد الحسن ـ أي السيد المدير ـ كان مدرساً لم تك أحلامه تتعدى أحلام المدرسين المخلصين. ولأنه كان في يوم ما شخصاً، يمكن أن يقال عليه، (طيباً) كبقية خلق الله. ولا علاقة له بما يعرف بالمسائل (العامة)؛ فقد كانت كلماته وإكليشيهاته ـ المجد والسؤدد وعماد المستقبل ـ التي كان يرددها على مسامع طلابه على مر السنين ليست سوى كلمات وجمل ذات دلالات شاعرية. وقد كان كل ما يتخيله من سعادة في مستقبله، هو أنه، بعد أن ينزل المعاش، يعود إلى كسلا ـ مسقط رأسه. وأن يساعده أبناؤها في بناء بيت له في أي حي شعبي ـ شريطة أن يحمل اسم الميرغنية! حتى إذا جاء يوم الحشر، وكانت (القوائم) بالمربعات، أو بالأحياء، حُشر في زمرة الأولياء الصالحين. وعلى أن يكون البيت بجوار الزاوية، إن تعذر المسجد؛ ليصلي فيها الفجر حاضراً، ثم يعود إلى البيت لتعد له الست الشاي والقهوة البجاوية ليعدل كيفه الصباحي، وينتظر حتى تعد له الفطور. وبعد الفطور، يطوي عمامته، ويتعطر بالكلونيا أو المسك. ويضع على كتفه شاله الذي أهدته إليه إحدى بناته بمناسبة زواجها. ويحمل عكازته ضارباً باتجاه السوق.

    يغشى أولاً كشك الجرائد، ثم يدلف إلى رفيق الصبا، وصهره المحجوب، الذي يجلس أمام دكانه الكبير، فيأتي له المحجوب بقهوة الضحى ـ البجاوية أيضاً. فيرشف منها ويطالع الجرائد. ثم يتبادل مع المحجوب الأحكام على (الأشياء) و(الزمان)، ثم يعيد إليه قراءة المقال أو الخبر الذي ورد فيه اسمه مصحوباً بـ(أستاذنا الجليل) أو (المربي القدير). أو يجد اسم الدكتور فلان، أو المهندس علان، فيعلق بسعادة: "تصور! أنا درست الود دة في مدرسة كذا، في مدينة كذا!". ويبالغ قليلاً "والله أنا كنت متأكد إنو حيكون كدة ..". ويرمي بضحكته إلى الفضاء، ثم يستغفر الله بعدها.

    وفي آخر النهار، بعد أن يصلي الظهر في المسجد الكبير، يعود إلى البيت ببعض الفواكه ـ الموز غالباً. وبعد الغداء، إن لم تكن عليه زيارة مريض ما أو (فاتحة) في عزاء ما، يحمل كرسيه ويجلس في (ضل العصر)؛ ليعيد قراءة المقال أو الخبر ـ أياً كان ـ على جيرانه ممن هم في عمره ويلقي بالتهديدات إلي الصبية بأن يأخذوا الكرة ويلعبوا بعيداً وإلا فإنه سيقوم بمصادرتها وجلدهم ـ دون أن ينفذ التهديد. ثم يواظب على أداء صلاة المغرب في الزاوية وما تيسر من عشاء.

    لكن تغيرات خطيرة حدثت في شخصية (أستاذ زين) بعد ذلك (اليوم)! اليوم الذي كُلِّف فيه، بصفته أستاذ العربي، أن يلقي كلمة الترحيب بـ(المسؤول). فاستحفز أستاذ زين كل خبراته في تقعيرات اللغة والفصاحة التي صقلتها وعثاء عشرين عاماً من إزالة العجمات عن ألسنة طلابه، ومعاناته مع حروف الظاء، الذال، والضاد، وأحياناً القاف والغين. فكان أن أعجب به (المسؤول) أيما إعجاب! بالرغم من أن ما قاله (أستاذ زين) من إطراءات وتقريظات ـ التي ظنها المسؤول معبرة عن حقيقته ـ ليست، في الواقع، سوى مهارات بلاغية لم يفكر قائلها أبداً في مقاصدها!

    وبعد شهور، لما ظهرت كشوفات الترقيات، كان على رأسها (أستاذ زين) قافزاً فوق بعض عقبات اللوائح بجرة قلم (الاستثنائية)، ليتم نقله إلى (المدينة) مديراً للمدرسة الشرقية. وخلال السنوات الأخيرة، انتقلت البلاغة من دهاليز المدرسة إلى دوائر (المنظمات الفئوية). ومع مرور الأيام، بدأت تتبدل شخصية (أستاذ زين) الذي أصبح (السيد المدير). وبدأ مسلسل (الإنفتاح الأحلامي)! فصار لما كان يسمى بالمستقبل ملامح أكثر تحديداً. أما المجد والسؤدد ـ هذان الرفيقان القديمان ـ فقد تخليا عن هلاميتهما السابقة.

    بدأ عم زين العزيز، وهو جالس على طاولة (المنظمات الفئوية)، يرى وجوهاً أخرى غير التي كان يتصورها عن (المسؤولين)! فمن قال أن هؤلاء المسؤلين هم أشخاص أكثر منه تأهيلاً؟؟ ثم صار يلقي ـ وهو عائد من (هناك) ـ نظرة على التميز الظاهر لبيت المدير، الجير على الأقل، ويقارب المسألة في ذهنه مع بيوت بقية المدرسين من تحت وبيوت المسؤولين من فوق! ثم أن عربة المدرسة التي بات يتم استغلالها لتفسيح الست والبنات هناك ـ حيث يعبر الآخرون راجلين ـ هي مجرد لاندروفر. ثم أن عماد، الإبن الأصغر، يتشاجر مع صلاح، الإبن الأكبر، حول هذه العربة الوحيدة.

    بدأت تتحول صور الجرائد المستقبلية إلى لافتات مثل التي بدأت تنتشر تلك الأيام في المدن الكبيرة ـ الخرطوم خاصة، (الدكتور: عماد الدين زين العابدين.. زمالة الإية كدة الملكية)! (شركة الإية كدة: مهندس/ صلاح الدين زين العابدين..)! في مقابل هذه النزعة الإنفتاحية، كان ظلها في الإتجاه المعاكس؛ فسلمى يجب أن تصبح زوجة الدكتور (فلان). ونازك زوجة المهندس (فلان)؛ لذلك لا بد أن تكدا في المذاكرة (لتتأهلا) لهذا الأمر الجل. وأهم شئ أن تبتعدا عن البصل، وخاصة (المعفن) منه. وقد زاد الطين بلة ظهور أستاذ عبد الجليل الذي أكسب كل شئ (مشروعيته).

    لكن أخطر تحولين حدثا في شخصية أستاذ زي هو أنه أولاً قد نمت لدية نزعة الـinspection المدفوعة بالـsuspicion ـ أي الشك المنهجي! فصار يستقصي كل ما يقال بحثاً عما يمكن أن يسربه أعداء (الثورة). الذين صاروا أعداؤه الحقيقيون، الذين يهددون مشاريعه وأحلامه الجديدة. وهذا هو السبب الذي ساقه للمرور على حيطان المدرسة وأدبخانات الطلبة، لا ستكشاف ألاعيب البصل المعفن. وما يمكن أن يسربه الأعداء من هناك! إذ يقتضي الحرز تأمين كافة الجوانب كما تعلّم في طاولة (المنظمة الفئوية) ليوقع نفسه في مهزلة أولاد قرف تلك.

    ولكن ما لم يكن يتصوره أبداً هو أن (البصل العفن)، الذي يطارده في حيطان المراحيض، قد تسلل إلى عقر داره!!

    وفي سبيل مواجهة الموقف.

    برزت الخصلة الثانية التي اكتسبها الذي كان (أستاذ زين): فأول ما فعله بعد وصوله إلى موقعه الجديد في كسلا كأمين للمنظمات الفئوية هو (تأمين الجبهة الداخلية). وفي يومي الإرتياح من وعثاء السفر، كان يبحث عن (الخطة الجهنمية).

    تم (الاعتقال التحفظي) للمنقولات الخاصة بالبنات، ومنع خروج أي شئ منها إلا بأيدي الست وأمام ناظريه، إلا (الأشياء) التي يجب ألا يراها. فيدير وجهه باتجاه الحائط! وبعد أن اكتملت عناصر التخطيط. بدأت مراحل التنفيذ. فنادى الست وسألها:

    ـ شلتي الحاجات المامفروض أشوفها كلها؟

    ـ أيوه .. بس إنت عايز تسوي شنو؟

    ـ ما دخلك، ما إنتي كنتي لوح؟! جُرّى الباب دة وراك

    فخرجت الست وجرت الباب وراءها

    قام السيد أمين المنظمات الفئوية بإخراج مجهره للبحث عن (الجراثيم) بدأ أولاً بحقيبة سلمى، فأحصي ورتب التالي:

    (+) ثلاث جراثيم تسبب الأمراض المزمنة:

    ماجدلوين

    روميو وجلوييت

    بحيرة عصافير الجنة.

    (++) فيروسات أخرى بهيئة رسائل ورسومات، وكروت بوستال مكتوب عليها أسماء فتيات من بينهن حسنى بنت أستاذ عباس. قال لنفسه: "وما أدراك أن حسنى هي حسنى؟! فقد تكون هذه توقيعات مزورة"!

    قلب الحقيبة وهزها جيداً بعد أن استكشف كل جيوبها، ثم قذف بها بعيداً، استدار باتجاه ما اسماه (الكرنتينة)! أي حقيبة نازك، ليجد فيها ما يصعق العقل:

    ثلاث وسبعون رسالة، لم يخف إعجابه ببلاغتها والخط الذي كتبت به. وفعل بها ما فعله بأختها. لملم المعروضات أمامه، وفتح الباب ثم نادى الست وأمرها أن تأخذ (حطام الذكريات) إلى أصحابه.

    في الليل، وهو مستلقٍ على سريره، قرأ (علم الجراثيم)، فاقتنع إقتناعاً تاماً أن هذا الولد مجنون. فما أتى به لم تأت به الأُوَلُ.

    كانت هناك جفون ساهرة في صحاري اليأس بعد أن تعب الخوف وجفت ينابيع الدموع.

    "مافي أمل" قالت سلمى.

    أما نون، فلزمت الصمت، وحقدت على الكوكب التي لم تتدخل.. وقد كانت تفتش في طريقه توصلها إلى ضفاف المانج "هل ينفع القاش بديلاً؟" وإذا نفع فهو الآن مصوح بلا ماء .. شهور أخرى ستمر حتى يصبح القاش (مانجاً).. وكل الطرائق الأخرى ليست قدر الرجاء!

    لامت نفسها على أنها لم تقفز ـ في تلك اللحظة ـ من العربة .فـ"بالتاكيد كان الكوكب ستتدخل، فهو كان يسبح وأنا تخاذلت.. أنا أستاهل" قالت لنفسها.

    مساء اليوم التالي، دخل الذي كان (السيد المدير) ضاحكاً مستبشراً!!

    ـ إزيكم يا بنات.. خلاص إرتحتو من السفر؟

    كانت لهجته غريبة ولا تتناسب مع الموقف. فجاءات الإجابة مقتضبة:

    ـ أيوة (بدون يا بابا التي بدأت تنتشر في تلك الأيام بدلاً عن "يابا")!

    ـ شوفوا يا بناتي، إنتو لسة في بداية طريق (المستقبل) وأنا عايزكم تبقوا فوق.. ولا عندك راي غير كدة يا نازك؟

    ـ لا يا بابا ..

    ـ أنا (متأكد) من كدة، وعشان كدة، انا قلت إنتو براكم تبقوا بنات كويسات.

    أخذ من على حجره ظرفين ومد لكل صاحبة ظرف ظرفها قائلاً:

    "شوفوا جوه الظروف دي في شنو؟"

    كادت سلمى أن تفرح، ولكنها كتمت إحساسها ولم تفعل نازك شيئاً.

    ـ آها يا سلمى مش دي حاجاتك؟ فيها حاجة ناقصة؟

    ـ لا يا بابا

    ـ وإنتي اشتريتي الكتب دي من وين؟ قالها بلطافة.

    وبسب الثقة الثابتة، أجابت سلمى بصدق:

    ـ ديل حقين نازك... أنا قريتم لكين لما شنطتا ما شالت ختيتهم ليها في شنطتي.

    "وإنتي كمان مشاركة في الجريمة" قال ذلك في نفسه وأظهر:

    ـ عاقلة.. يعني الحاجات دي كلها بتاعة نازك؟

    فأجابت نازك

    ـ أيوة يا بابا.

    ـ خلاص يا سلمى أديها حاجاتها.

    نفذت سلمى الأمر، ثم بدأت محاضرة المجد والسؤدد.. وكيفية بلوغهما بتجاوز الصغائر ليصل إلى هدفه: فآخر ما تفتقت عنه عبقرية الذي كان (أستاذ زين)، الذي لم يكن يتجاوز علم الحساب والعقاب عنده كلمة (يا لوح) أو السوط، هو تلفيق مشاعر الناس!

    ـ وإنتي بكدة أكيد قررتي تخلصي من الحاجات دي.. هاكي الكبريتة دي أحرقيهم، وبكدة تكون الحكاية خلصت (!) أنا سعيد لأنك بنت واعية.

    أرادت سلمى أن تقول (لا) ولكنها لم تستطع. أما نازك فلم تنظر إلى ما في (ظروفها)، فهي كانت مشغولة بالتفكير في موسم فيضان القاش، وقد حددت قرارها الذي لا رجعة فيه.

    أخذت الكبريت ووضعت الظروف: الجراثيم في السلة أمام الشهود، وأضرمت النار، وفي داخل الغرفة! ومع كل ذكرى تقلِّب المحروقات حتى (ينجض) القلب الذي تخاذل يومذاك!

    ومع آخر ومضة في (المحرقة) أختلطت دموع الدخان الذي لوث الغرفة بدموع وداع (الأشياء الجميلة العزيزة).

    قام السيد زين العابدين مودعاً هو الآخر:

    "خلاص. بكرة السواق حيجي يوديكم المدارس"..

    وراء القضبان الحديدية ـ هذه المرة بدلاً من النملية ـ فتحت نازك زجاج النافذة تستعيد ذاكرة (شباك النبي). وما زالت في الجو رائحة دخان المحرقة. نظرت إلى الشارع الخلفي. كان يبدو مثل سراب المسافات الطويلة التي قطعوها في الأيام الفائتة. استعادت أصداء الألم والفرح القديم. جاءت سلمى وإلتصقت بها من لخلف وتشممت ضفيرتها الخلفية قائلة:

    ـ نازك.. أنا حزينة أكثر منك.. أهو إنتي على الأقل عندك حاجة قاعدة جواكي، يمكن بكرة تلاقيها.. بس أمسكيها وأصلو ما تفرطي فيها لآخر يوم في حياتك..

    ـ تفتكري يا سلمى؟

    ـ أيوة.. بس أنا ما كنت قايلة الدنيا دي قاسية كدة! أهو إنتي الكنتي بتعزيني بالكتاب وببكرة، بقيت أنا أعزيك؟!!؟

    ـ لكين تفتكري يا سلمى حتى لو جات الحاجات دي تاني حتكون زي الحاجات الهسي إحنا فاقدنها؟

    ـ يلا خلاص يا ستي.. أراح نصلح كتبنا.. عشان إنتي عارفه بكرة حتبدا القوانين الجديدة ..

    واتجهت سلمى إلى المنضدة ورتبت كتبها.. وكان حديثها عن (التمسك) قد فتح نافذة أمل صغيرة، بدأت تتسع قليلا قليلاً إلى أن أطل الشعاع الذي لم يكن في الحسبان:

    ـ الله يا سلمى ربنا دة كريم وعادل. يا ما إنت كريم يا رب!!

    أحضان وقبل. واختلطت دموع فرح حقيقي ظل لأيام تحت وطأة الخوف والياس والخذلان. فها هما تتفرسان (الكتاب) والصورة بداخله!

    ـ ديل لقيتيهم وين؟

    ـ والله ياسلمى. لقيتم في كتاب الدين

    وكان السيد الـinspector ، المفتش، قد فتش جميع الكتب والدفاتر المدرسية ورقة ورقة بحثاً عن جرثومة (كدة ولا كدة)، ولكنه (فطَّ) كتاب الدين إذ لا يعقل أن تكون فيه (جراثيم)!!

    وهكذا صارت تتم مطالعة الكتاب في الزيارات الأسبوعية لقبة (سيدي الحسن). وعلى مرأى من الست الوالدة الأمية على أساس أنه كتاب أدعية! وهي لم تشك بعد أن لاحظت انتظامهما في الصلاة وبرنامج المذاكرة اليومي. هذا بالإضافة لتعاطفها مع نصف الحكاية.

    ومن داخل تلك الفسحة الصغيرة، كانت دوافع الاجتهاد في المذاكرة تتحفز مع ترديدات سلمى:

    ـ إنتي لازم تجتهدي يا نازك. تتذكري قافلة الطلبة بتاعين الجامعة في (المدينة)؟

    ـ أيوة ..كيف ما بتذكر؟!

    ـ شفتي البنات بقعدوا مع الأولاد كيف؟ ويتونسوا كيف؟ يا سلاآآم، سنة واحدة بس وأمرق من السجن دة.

    ـ لكين أنا يا سلمى.. شوفي الباقي لي كم؟

    ـ ما تخافي يا ستي.. أنا لمن أمشي الجامعة أكيد في الإجازة خآخدك معاي ونتفسح ونزور صاحباتي وأصاحبي .. و

    ـ تعرفي يا سلمى أنا بتمنى شنو؟ بس أنا وزهرة وأنهار وكل صاحباتي، وجو وكل أصحابو ننجح ونكون في جامعة واحدة (ولم تك نون تعرف أن مثل هذه الفانتازيا هي التي أودت بأستاذ عساكر وآخرين إلى الآخرة).

    ـ خلاص ذاكرى كويس...





    ****



    س­1 : أكتب/أكتبي عن قصة أجمل كتاب قرأتَه/قرأتِه.

    "آهـ يا جو .. تلقاك هسي بديت القصة.."

    وانهمكت نون في حل إمتحان اللغة العربية.

    وفي تلك الساعة من نهار أبريل الحارق، كان (قطار الميجا) يمخر عباب بحر السراب، متهادياً باتجاه الخرطوم، وحاملاً على (سطحه) أكبر البصلات المعفنة!

    ــ أسمأ يا أخونا.. هاكي هِدِم دي ختي في راسك.. وللاّهي في قتر دي ناس كتير بدمموا وبموتوا! هر دة وللاهي بجيبي أبو فرار.

    ـ شكرا يا أخ ..

    ـ أخوكي أبدللاهي إساخا (عبد الله إسحق) من (كُتُم). وإسم كريم منو؟

    ـ جو ..آآ .. أقصد النور عثمان .. من (المدينة).

    ـ سايق الإسم .. وإتي ماشي وين؟

    ـ الخرطوم..

    ـ وإندكم أهل في خرتوم؟

    ـ أيوة.. في أولاد خالنا ساكنين هناك...

    ـ وهم ساكنين وين في خرتوم؟

    ـ والله ما عارف.‍

    ـ إتي تلقيهم كِكّيف!؟ خرتوم دي مهلّة كبير!!

    ـ والله ما عارف ‍‍بس أنا ماشي ..

    ـ وتشتخل شنو؟

    ـ والله أنا خليت المدرسة.

    ـ ليه شنو؟ ‍

    ـ والله بس مشاكل.

    ـ إتي بكون ماشي جيش. وللاهي أنا زاتو قلت نمشي نقأُد ما ناس آدماي فـ(إشش) ونبيأ مآهم ترمس. وبأدين كن لقينا تريقة ندخلو جيش.

    وفي لب الحكي، عرف جو بحكاية الصديق الجديد عبد الله إسحاق. وأحلامه في العودة من (البَحَرْ) ليتزوج (فطين)...

    أطلت هناك جزيرة وسط السراب.

    "أمسكي شنتة بتائك كويس.. جماءة هنا ديل سرّاقين. قتر خلاس وِسْلَت كوستي. هو بقأد هنا زمن تويل".

    صييج .. دق دق... دق دق..

    وفرمل القطار في المحطة.

    هبط الركاب، وقبلهم المسطحين خوفاً من مداهمات الشرطة.

    ...

    "لا تحملوا بعالم سعيد

    فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد

    وخلف كل ثائر بموت أحزان بلا جدوى

    ودمعة سدى .."

    شخبتة على حائط البول. بائعات الطعمية، تجار السمك، البسكويت، نوافير المياه، سيقان الجميلات المسافرات وهن يتشطفن، وهاهو النيل! أو ما يسمى بالنيل، عادي ولا علاقة له بأساطير الكتب المدرسية! إنه مثل خور المدينة في أيام الخريف! ولا شيء آخر! رائحة الشواء تقطع المصارين.

    "نور.. نور، تآلي نمشي ناكل".

    وأبلعك أبلعك.. هدأ نداء المصارين، فخرج نداء الرأس!

    ـ شاي .. شاي ..

    ـ تآلي بتاء شاهي ـ نادى أبدللاهي إساخا وأمر: "كبي إتنين".

    أشطفك.. أشطفك. وكان جو مع كل شفطة يتلصص إلى يد الشاب الجالس على الحجر بجوارهم. وتطل من النفس دناءاتها: "يا رب يرمي السيجارة.. يا رب يجدعها". لاحظ أبدللاهي إساخا قلق صديقه فسأله:

    ـ إتي تشرب سجار؟

    ـ أيوة!!

    ـ لكين سجار دة ما قالوا هرام؟

    ـ والله تقول شنو؟ إنتو هناك مش قاعدين تشربوا مريسة؟

    ـ ولكين مريسة لمّاه مع سجار شنو!؟

    ـ أنا عايز أقول يعني زي ما الناس عندكم بشربوا مريسة، أنا بشرب سجاير!

    ـ واللهي إندنا أخونا كدة في خرتوم بشرب سجار..

    وأخيراً فتح الله على جو، وجاء بائع السجائر، فقام أبدللاهي إساخا بارتكاب ثاني الحرامات واشترى علبة سجائر كاملة وأعطاها لجو..

    وبعد أن شفط (كم نفس كدة) استيقظت نون التي كانت نائمة تحت وطأة الجوع والخرم. ثم ظهر وراءها طابور الوجوه الأليفة والحنين! ظهر أستاذ عساكر في ملامح المدينة وناسها.

    قام جو بعد السيجارة الثانية وساح هياماً في طرقات كوستي. صارت كل ذرة تقول "أستاذ عساكر؟ لقد مر من هنا يوماً" وبيوت المرابيع التي تشبه نوافذها (شباك النبي) هل وقفت وراءها نون أخرى ذات يوم تناجي أستاذ عساكر؟

    ساح.. ودخن.. ودار ولف ودار..

    ولما صفر قطار الميجا وتحرك، وجد أبدللاهي إساخا نفسه وحيداً بين حقيبتين، بداخل إحداهما أكبر (كرنينة) للوبائيات، قال إساخا لنفسه "ربما تسلق عربة أخرى!". وفي ربك، ما زال الأمل قائماً ومع جبل موية وجبل عشطان، تقاصر الأمل. وفي (سنار التقاطع) اختفى. وبكل أمانة القروي ووفاء (الغرَّابة) الذي يفوق وفاء الكلاب لأصحابها، قام أبدللاهي إساخا بالأحتفاظ بالحقيبة إلى أن التقيا بعد زمان طويل.

    في كوستي، اكتشف جو حقيقة أن بعض الأماكن يمكن أن يعيش فيها الإنسان قبل أن تطأها قدماه! فما كانت كوستي غريبة عليه بعد الحكايات الطويلة التي حكاها له على إسماعيل الكضاب. وفي المحطة لم يجد صعوبة في تحديد المنزل الذي كان يسكنه على إسماعيل ذات يوم. كان يمر عليه ويدخل في أحلام يقظة.. وأحياناً يرى نفسه داخلاً على على إسماعيل، وهو في الواقع يدفن عقاب سيجارة وهو راقد على معقد المحطة الذي صار (المنزل).

    كان جو يذهب في الصباح إلى المينا، وعتلك عتلك (حق السجائر)، وأحياناً زيادة، ثم إلى رواكيب السمك مستعيناً بحكمة رينقو: "لم نسمع أن أحداً مات لأنه أكل ما خلّفه الآخرون، بل مات الذين لم يجدوا هذه المخلفات"! وتخلى جو قليلاً قليلاً عن أنفة القرويين. كان يمر في المساء على السينما عله يلتقي بأبي طويلة صدفة، أو أي واحد. لكن شماسة كوستي كانوا أكثر عنفاً. فلما رأوه غريباً، ظنوا أنه من (ال########ين بتاعين القبض) يحاول الأندساس بينهم، بعد أن اكتشفت المدينة في أيام الأحداث أن أحد شماشتها لم يكن سوى مخبراً متخفياً يدبج التقارير عنها! فأوسعوه ضرباً ومزقوا قميصه، إلى أن عثر على فنلة لا بأس بها في قمامة حي السوق، كان جو قد تجول في كل الأماكن المشوبة بالذكريات المستعارة. المدرسة التي درس فيها على إسماعيل؛ كل المدارس التي درس أو درَّس فيها أستاذ عساكر، الأماكن التي يشتبه في أنهما مرا بها. وكان قبل فسحة الفطور يذهب ويجلس تحت الشجرة المقابلة لباب مدرسة البنات، يتفرس وجوههن ويقارن:

    "هذه تشبه زهرة!"

    "يآهـ .. دي أنهار عديل!"

    "ودي عزة.. بس لو لبست نظارة سودة!"

    "ودي .. آآخ.."

    ويدفن رأسه بين ركبتيه ويسبح في حلم يقظة طويل..

    ذات يوم، جاء وجلس في نفس المكان، ولم يمر أحد! قال في نفسه "الليلة إجازة ولا شنو؟" لتأتيه الإجابة بعد ساعات، أن الامتحانات انتهت. وأغلقت المدارس أبوابها إلى بداية العام الدراسي الجديد. ولم يبق ما يسند البقاء طويلاً، فعاد جو إلى المحطة في انتظار أول قطار ميجا قادم.



    ****



    لولولولو .. إششش..

    صاري لي كدة مالك؟ هسة تلقاك (كبَّست) الإمتحانات، وفي الإنشا ـ لق لق لق ـ بجيب قدر نمرك. ما حتقدر تفوتني. قايل نفسك براك بتعرف إنشا؟؟

    دخلت سلمى ووجدت نون تكلم نفسها!

    ـ يا بت جنّيتي ولاّ شنو!؟

    أدخلت الصورة بين نهديها. ولما تأكدت من أنها سلمى:

    ـ أنا بكلم جو!

    ـ إنتي عايزة يطبوا علينا تاني؟ وكمان المرة دي زايدة. أووف.

    كان صلاح زين العابدين قد عاد قبل أيام من الجامعة. ولكن هذه المرة كان ملتحياً! لم تك لحيته هي المشكلة، وإنما تلك الأوامر التي صرن يتلقينها وهن خارجات أو داخلات:

    "غطي رأسك .."!!

    "طولي الإسكيرت دة"!!

    ثم بعدها:

    "هاكي الكتاب دة أقريه يا سلمى".

    ويرجع الكتاب ليأتي الأمر بآخر!

    ولكن الله كان يستجيب لدعواتهما، فقد عاد (دكتور) عماد زين العابدين الذي يدرس الطب في مصر لقضاء إجازته، هو الآخر، فدخلت الأفراح إلى البيت الجديد.

    كن يسترقن السمع إلى المجادلات التي تدور في الديوان بعد الغداء بين صلاح وعماد؛

    ـ الله يهديك يا عماد.. يا خي ربنا قال: (...).

    ـ أيوة. ربنا قال، بس مش بالطريقة بتاعتكم دي.. ثم تعال ياخي إنتو لحدى هسي ما عندكم نظرية محددة تحلو بيها المشاكل بتاعة الخلق دي!؟

    ـ القال ليك منو؟ أنت بس ما متفقه. ثم ياخي "ما فرطنا في الكتاب من شيء".

    ـ أيوة. بس دة مامعناه إنو أنا أقرا الكتاب دة وأشيل السماعة بتاعتي وأمشي المستشفى أعالج الناس!!

    ـ يا خي دي تفاصيل. المهم (الاتجاه).

    ـ طيب أنتو هسي في الجامعة بتقروا التفاصيل ولاّ الإتجاه؟

    ـ إحنا بنقرا التفاصيل والإتجاه.

    ـ طيب التفاصيل دي عملها الإتجاه بتاعكم؟

    ـ ما ضروري ..

    ـ لا ضروري

    ما ضروري.. ضروري .. ما ضروري ...

    "خلاص يا أولاد!"

    ويتدخل السيد زين العابدين لفض المشاجرة الكلامية.



    ***





    هناك مع (ست الجبايب) عرف عماد زين جزءاً من الحكاية. وفي ظهر الخميس طرق باب (حجرة الأحلام المسجونة):

    ـ كو كو كو ..

    ـ ككك كرك.. ككك ككك. ششش. إتفضل!

    ودخل عماد زين:

    ـ كيف يا ستات؟

    ـ ستات مرة واحدة كدة يا عمدة؟! قالت سلمى.

    ـ كيف يا نانا؟ أهو إنتي بقيتي ما شاء الله... والله لو ما حظنا الكعب كان الواحد بقى ود جيرانكم وراح حابيك طوالي..

    ـ الله الله على الكلام الجميل دة.. إنت الظاهر مصر دي علمتك حاجات كثيرة.. وبعدين إحنا ما بننفع ولا شنو؟ قالت سلمى.

    ـ أنا بتكلم عن الحب بس؟ لكين لمن تجي سيرة العرس، البعد الحب، حيجيكي الدور.. إنتي ما سمعتي المثل البقول "ثنوي عام حاجة تمام.. ثنوي عالي عرس طوالي"!؟

    ـ لا، كان كدة خلاص.. لكين باين عليك بقيت ود كدة (...)!

    ـ وإنتي يا نانا.. مالك مكشرة كدة؟ الظاهر الكتمة مأثرة عليك. ياخي السجن دة إنتو متحملنو كيف؟ لكين أنا عندي ليكم مفأجاة (إنما أيه).

    ـ أها.. قول.. قول!!

    ـ شوفوا يا جماعة، الاقتراح كالآتي: أنا أقنعت الست بلاش حكاية الزيارة دي الليلة.. أنا آخدكم إنتو الإتنين وبس..

    ـ والله . والله؟

    ـ أسمعوا باقي الحكاية.. أنا حآخدكم ونمشي العصرية، وقدلة كدة على القاش.. ونشوف لحظة غروب الشمس..

    ـ اللـــــه!! قالت، وقفزت نازك واحتضنته، آآخ يا عمدة، الله يخليك.. أنا نفسي في كدة من زمان... بس ..

    ـ مافيش بس ولا حاجة.. وبعدين لسة أصبري شوية.. أنا بعد المناظر الجميلة دي عندي ليكم مفاجأة تانية (أنقروا تطلع إيه)؟

    ـ تطلع إيه؟ تطلع إيه؟

    ـ لو ما عرفتوها أنا حأبطلها..

    ـ لا... لا عليك الله..

    وفي الليل الهادي، في (منتزه المدينة)، وحول منضدة طرفية، جلس ثلاثتهم. وبينهم (كبابي الشاي).

    ـ عليك الله يا سلمى شربتي شاي جميل زي دة قبل كدة؟

    ـ لا.. لا ما أظن.. لا، متأكدة.

    ـ وإنتي يا نانا؟

    ـ والله يا عمدة أنا أول مرة أحس إني سعيدة كدة.

    ـ لا ما بكون أول مرة.. إتذكري.

    ـ أووم...

    ـ خلاص يا ستي .. عرفتها ..

    طبعاً يا جماعة أنا عرفت الحصل لنانا..

    ـ وعرفت من وين؟ سألتا بصوت واحد.

    ـ مش مهم من وين، لكن يا نانا دة حال الدنيا كدة "يوم تفرِّح ويوم تبكِّي". أنا معاك ومش معترض على أي حاجة إنت عملتيها.. لأني في يوم من الأيام حصلت لي حكاية قريبة زي بتاعتك دي، تتذكروا هدى بت أستاذ منصور الكانوا معانا في الدويم؟

    ـ أيوة ..أيوة!!

    ـ تتذكروا يوم نقلوهم؟ طبعاً وكت داك إنتو ما بتكونو جايبين خبر. طبعاً يا نانا أخوك كان حابّي هدى (موت). ولمن نقلوهم، وطبعا أخوك مشى البحر وكان عايز ينتحر لكين ربك ستر. وأهو زي ما شايفين أنا قاعد قدامكم.

    ـ وهسي نسيتها؟

    ـ طبعاً لا، دي حاجة تتنسي؟؟ ياخي لحدِّي هسي لو شفت لي واحدة بتشبهها قلبي يوقع! ‍‍لكين يا ها الظروف.. وطبعاً هي هسي احتمال تكون اتزوجت..

    ـ مش معقول!! قالت نازك.

    ـ أنا بقول احتمال

    ـ وهي كانت بتحبك؟

    ـ أيوة ..طبعاً

    ـ طيب ليه ما ...

    ـ شوفي يا نانا أنا الحاجة البعرفها، الما بقروها في كتاب، إنو الحب دة بجي كدة، لكين بعد داك يحصل شنو. دي مافي قانون يحددها.. المهم الواحد يكون صادق مع حاجاتو الجُّواهو ..

    "عشان كدجة إنت جميل" قالت سلمى في منولوجها الداخلي..

    ـ شوفوا يا جماعة.. أوع تفتكروا إني عامل العزومة دي وبدردق فيكم..

    ـ حتى لو كدة.. إحنا محتاجنك يا عمدة جبنا.. قالت نازك.

    ـ شوفي يا ستي.. وأنا في أي مكان والله بفكر فيكم، وبحلم أنكم تكونوا سعيدين.

    ـ اللــــه يا عمدة! إنت كلامك حلو.. لكين صلاح ما زيك ليه؟

    ـ أيوة. ذكريتيني. أنا شايف صلاح اليومين ديل بجرجر فيكم للجماعة بتاعتهم. على أي حال إذا إنتو مقتنعين إنتو أحرار.. بس في حاجات كثيرة أحسن تعرفوها. أنا غايتو ما عندي كتب ولا حاجة. لكين أهو السوق وصاحباتكم وأصحاباكم لو في، طبعاً أنا ما عندي إعتراض يكون عندكم أصحاب..

    ـ عمدة إنتو إجازتكم طويلة؟

    ـ خلاص حبيتيني يا نانا؟؟

    ـ إنت عارف يا عمدة أنا بحبك من زمان.

    ـ الله الله. عشان الكلمة الحلوة دي أنا حأعمل ليكم مفاجأة كل خميس. أما حكاية (الحرس الجمهوري) دي خلوها علي.. ومن هسي أقول ليكم مفاجأة الخميس الجاي.. لأني عارفكم ما حتصبروا. شوفوا، بعد ما ترجعوا من زيارة (سيدي الحسن) ـ طبعاً ما فيش قاش، يعني الحاجة كمان نديها فسحة وما تكون أنانيين ـ وبعد داك أنا حآخدكم ونمشي السينما..

    ـ عمدة.. أنا بحلم.. والله أن بحلم!!

    ـ أقعدي يا نانا.. إحنا في مكان عام، ولمن نرجع (السجن) نططي زي ما إنتي عايزة.. شفتي (السجن) بقى مهم كيف!؟

    ... وبعدين ما فيش داعي للعربية... أنا بقول يعني حكاية (العنظزة) بعربات الحكومة دي ما حلوة.. أنا بقترح نمشي برجلينا لحدي السينما..

    ـ والله أنا نفسي في كدة من زمان ـ قالت نازك.. وأضافت سلمى:

    ـ أنا بكره العربية دي..

    ـ لكين أعملوا حسابكم إذا واحد شاغلكم أنا حأشاكل ..

    ـ بس ممكن تتعوق يا عمدة!

    ـ لا هي حتكون شكلة (كلامية)، لزوم تقاليد يعني، ما هو إنتو لازم تمشوا في الشارع (ويشاغلوكم وكدة) عشان تحسوا إنكم بنات مش داواليب.. أنا آسف على دواليب دي.. والله ما قصدي..

    ـ لا تتأسف ولا حاجة. إحنا فعلاً دواليب ـ قالت سلمى.

    ـ لا يا ستي.. لا دواليب ولا حاجة.. كل ما في الأمر إنو الحاج والحاجة ديل خايفين عليكم بس بطريقتهم القديمة.. لكين الزمن لازم يغير الحاجات..

    ـ بس صلاح بعاملنا كدة ليه؟

    ـ أها دي تبقى مشكلة بينكم وبين صلاح ـ تحلوها بطريقتكم.. وعلى رأي المثل: "أي زول بالفي راسو يعرف خلاصو..".

    ****







    "لو كنت أعرف الطريق، لعدت إلى بيتي.." كانت تلك آخر جملة نطق بها البطل وهو يقود سيارته في طريق طويل يتعرج بين المروج الخضراء في نهاية الفيلم. ظلت الجملة تتردد في خيال جو وهو (مندس) وسط الشحاذين والمتشردين، مستلقياً على كرتونة جلبها من السور المجاور للسينما. وكان يمر في خاطره قطار الأيام، بعد أن هبط من قطار الميجا ذات مساء، والخرطوم تتلألأ أنجمها الكهربائية، وتتطاول وتتعالى مبانيها فوق رؤوس المارة. لم يك يحمل ـ يومذاك ـ من الدنيا إلا ذكريات نون، وأحلام أستاذ عساكر، وحماقات أولاد قرف ووصايا رينقو، بالإضافة لخبرة لا تقل عن أسبوعين بين المينا والسينما، والتجول بين الأطلال في كوستي، ثم ها هو يأكل بقايا الخرطوميين الأقل كرماً. ويشرب بقايا علب السايدر التي يرميها السكارى المترفين من نوافذ عرباتهم في طريق (الكابانا). كان يذهب في الصباح إلى سوق الخضار، فيناديه تجار الملجة: "شيَّالة"، فيجري. "شيل القفة دي" فيشيلها. وقفة قفتين، وتدخل الأوراق السحرية الجيب. أحياناً يغسل العربات. وفي المساء يشتري سجائر وتسالي، ويذهب إلى السينما ويحلم بلقاء رينقو أو أبدللاّهي أساخا أو أي واحد. وهكذا إلى أن إلتقى ذات يوم بمندوكورو في السينما:

    ـ عليك الله يا شاب تذكرة واحدة معاك..

    ـ كويس..

    احتج الشاب الذي يقف وراءه:

    ـ شوف يا جماعة، الصف بالله.. والله هسي نخربها.

    ـ تخربها في شنو!؟

    ـ الزول الإنت زاقيهو معاك دة!؟

    ـ زاقيهو بتاع شنو؟

    ـ إيوة ..اقيهو.. دة بقول ليك تذكرة معاك؟

    ـ وما يقول ياخي إنت مالك!؟

    ـ مالي كيف!؟ أنحنا واقفين هنا طراطير؟! تدخلوا لينا في الناس؟

    ـ ياخي تذاكر السينما ماشة تكمل!؟

    ـ وتتلاءم كمان!؟ أنا حاقطع قدامك.

    ـ يا زول زح كدة!

    ـ ما بزح.. إنت خول ولاّ شنو؟

    ـ خول إنت..

    طاخ.. طاخ.. ووجد جو نفسه (مفلوقاً).. فقال مندوكورو:

    ـ خلاص سينما دة خليناه، أراح نوديك المستشفى..

    فتدخل الشاب الواقف بالقرب منهم:

    "شوف.. أحسن تمشي تشتري شاش من الإجزخانة البجاي دي وتربط ليهو راسو وخلاص، هسي تمشي المستشفى يعملوا معاكم تحقيقات و(أورنيك تمانية) و(فانحي ما نجي).."

    وبسبب هذه الحادثة، صار لجو بيت في عمارة البنك الجديدة (تحت التشطيب)، وأهل إسمهم (مندكورو). وفي صباح اليوم التالي حدث مندوكورو المقاول:

    ـ في واحد أخونا عايز شغل..

    ـ طلبة يعني؟

    ـ أيوة.. يا هو دة..

    ـ أسمع. وإنت الفلقك منو؟

    ـ إتشاكلنا مع واحد..

    ـ يعني إنت بتاع مشاكل؟

    وتدخل مندوكورو(حارس العمارة والمنقولات) الثقة:

    ـ لا دة زول كويس.. بس أنا قلت ليهو جيب لي معاك تذكرة في السسينما وحصل مشاكل..

    ـ خلاص أمشي وديهو لمعلم (أرارا)..

    ومن حي لحي، ومن عمارة لعمارة، مرت الأيام. إلى أن جاء يوم هطلت فيه أمطار سبتمبر غزيرة، وتحولت الخرطوم إلى بركة ماء! كانت الحافلة تقف بجوار مدخل الموقف والركاب يتزاحمون:

    "ترمس.. ترمس.."

    ـ عبد الله .. عبد الله

    ـ أوو ....نور!! وين يا راجل؟ دي أمل تأملو؟ ياخي شنتة بتائك لسة قائد إندي .. أنا نكوسيك كل يوم!!

    ـ يا خي شكراً ليك.

    وأخيراً ستعود الذكريات الجميلة؛ رسائل نون، ورائحتها..

    " اللـــه.." تأوه جو ثم سأل إساخا:

    ـ وإنت ساكن وين؟

    ـ حاج يوسف ..

    ـ لا حول ولا قوة إلا بالله!!

    ....

    ....

    وفي الطريق إلى الحاج يوسف:

    ـ آها قلت لي كيف أخبار البلد والأهل؟ إنشاء الله بترسل ليهم؟؟

    ـ وللاهي زروف هنا كأب .. ولهدي هسة دي ما لمينا شخل واهد.. يا هو كلّو بقت تكمل في أكل وشراب. بس جنيه ولا مية وخمسين كدة نرسلو لجماءة في بلد لما يكون في قتر ماشي.. وإتي ساكن وين؟

    ـ تعرف عمارة البنك الجديدة الكبيرة ديك؟

    ـ أها.. أها.. أها!! كيف ما نأرفو؟! أنينا نلِفُّو واتا دة كلو.. مش مهل فيهو (كراكة) تويل دة؟

    ـ أيوة بس.. الله يفتح عليك. أنا ساكن هناك..

    ومن يومها، صار أبدللاهي إساخا يستغل ساعات تسيب سائقي البكاسي (للترطيب) في عمارة البنك في ساعات الذروة ليسلك ترمسه هناك. وبالمرة يلتقي بالصديق جو ليقرأ له الرسائل.

    فبعد شهور طويلة من الغياب، هاهي الأوراق التي لمستها الأنامل الرقيقة.. والحروف التي خطتها ـ خاصة حرف الكاف ذو الإلتواءة الصغيرة المميزة ـ والورود المرسومة باللون البنفسجي. وكل أنفاس نون تعود ومعها أشجان الحنين.

    في نوفمبر. بدأ مسلسل (أوراق الشتاء). يذكيه ما تم اكتسابه من التجربة وما تمت مطالعته في الكتب والمجلات.

    في الحادي عشر من ديسمبر، كان جو كعادته يقلب الصفحة الثانية من جريدة الأيام. ليطالع أسفلها حيث "أين تسهر هذا المساء". وبعد أن حدد فيلم اليوم (الهندي الجبار)، مرر بصره على بقية الجريدة على سبيل تزجية الفراغ، ليرى الصورة والعنوان:

    "أمين المنظمات الفئوية والجماهيرية بمديرية كسلا يؤكد وقوف الجماهير مع الثورة"!!

    ثم:

    "كسلا تعد العدة لاستقبال السيد الرئيس القائد.."!

    أثارت صورة الصهر الإنفعال فدق قلبه ولكن خطر له سؤال حول شكل الموقع الجديد لهذا الصهر! ثم علاقته بكل الذي يجري؟ ثم أنتبه لأول مرة إلى المفارقة في الإكليشيهات الجرائدية: فطالما كل رئيس هو قائد بالضرورة، فلماذا الإصرار على (القائد) هذه في حكاية (الرئيس القائد)؟! هذا عوضاً عن أنه لم يسمع أن رئيساً آخر يقال له (الرئيس القائد)!!

    في الليل، عاد الحلم القديم.. نون في مكتمل الفضيحة! ولكنها هذه المرة على بوابة عربة تسير عبر الجسر.. وهو يجري.. ويجري.. ويجري. وفجأة دخلت اليد التنينية في المشهد، كورت الضفيرة الخلفية، وأدارات الوجه وحشرته داخل العربة!! كانت العربة كبيرة بحجم القطار!!

    ثم صفير ... ثم:

    ـ جو.. جو.. جو ...

    ـ نو.. نو... نو..

    ـ جو.. جو..

    ـ نو.. نو..

    ـ جو..

    ـ نو..



    استيقظ وظلت أوتاره مشدودة إلى إن دق المؤذن المايك.. وانتظر أن يسمع صوت عم عبده، ولكن هيهت!

    في ما تلا من أيام، تكاثف الجهد في العمل.. وقد تحدث معلم أرارا مع المقاول وحاججه في أن جو صار (معلماً)، وبالتالي ضرورة زيادة مرتبه (اليومية). ولما رآه المقاول وهو في حال:

    أنشرك.. أنشرك

    أوزنك.. أوزنك

    وسمِّرك.. سمّرك، اقتنع بإمكانياته في العمل. بيد أنه لم يزده إلا خمسين قرشاً!! ولما تثيره (رحلات الكد) من توادد، فقد عرف معلم أرارا بالقصة من أولها إلى آخرها.. وحين أسرَّ له جو فكرة الذهاب إلى كسلا ـ تحمس جداً.. وقرر أن يعملا أوفرتايم. وصارا يقضيان النهار بطوله مع صداقة الخشب والمسامير دون كلل أو ملل. وفي نهاية الأسبوع قام معلم أرارا بجمع المرتبين بأوفرتايمهما ووضعهما على كف جو وأغمض له أصابعه عليهما وقال: "الله معاك يا بطل".



    ****





    الثامن والعشرين من ديسمبر.

    ذلكم هو جيل توتيل شامخاً وراء ضباب المسافات. تمنى جو أن يجد صورة كبيرة لـ(نون)، على شاكلة الدعايات المضيئة، على بوابة المدينة! ليستفتح بها القادمون ذكرياتهم مع كسلا (بلد الجمال).

    هبط وكان يحمل معه كتاب (عادة النوارس) وبكتة (أوراق الشتاء)، وكل الحكايات منذ لحظة صحوه وهروبه من المستشفى ـ بما فيها حكاية بيت زوبا!

    قال: "اكيد نون حتكون في المدرسة الحكومية الثانوية". ولما سأل المارة دلوه على المدرسة.

    حمل جراثيمه وذهب إلى هناك. جلس (أيضاً) متكئاً على جذع شجرة السيسبان العتيقة، المقابلة لبوابة المدرسة في الجانب الآخر من الميدان. وظل منتظراً.. ومنتظراً. بدأت أسراب العصافير تفر.. وتفر..

    مر أخر سرب ولم تظهر العصفورة! التي كانت قد وصلت إلى بيتهم في جوف العربة المدججة النوافذ، التي وقفت أما بوابة المدرسة لدقائق ثم غادرت قبيل هطول أول سرب على (باب الرجاء).

    عاد جو إلى إلى السوق. وتجول بلا فكرة محددة. ومن أحاديث عابرة بين مجموعة من التجار، عرف أن السيد أمين المنظمات الفئوية قد غادر صباح اليوم إلى الخرطوم قائداً لوفد المديرية للمشاركة في احتفالات الخرطوم بالاستقلال.

    قال جو "برضو أحسن.."، وجلس أما (بتاع الورنيش). وفتح معه حواراً مستغلاً خبرته مع أمثال هؤلاء إلى أن استطاع أن يلقي بالسؤال:

    ـ تعرف وين بيت أستاذ زين العابدين؟

    ـ زين العابدين دة منو؟

    ـ بتاع الاتحاد الإشتراكي؟

    ـ واللاهي مكتب بتاء إتحاد إشتراكي دة هناك -----<..

    ـ لا أنا عايز أستاذ زين العابدين..

    وتدخل صبي الورنيشش الآخر:

    ـ يا خي دة داقس ساي.. أستاذ زين العابدين دة في زول ما بعرفو!؟ مش دة الزول الكلاّم؟ لمن الرئيس جا؟

    ـ أيوة.. بس يا هو ذاتو.. تعرف لي بيتو وين؟

    ـ أيوة.. شفت اللفة الجنب البيت الأبيض داك؟

    ـ أيوة..

    ـ بس تخش بيها، تلقى شارع تمسكو وتمشي طوالي..

    ـ أيوة.

    ـ تلقى بيوت سمحة كدة.. أول واحد أبيض وشبابيكو زي عندها حديد ظهري كدة

    ـ أيوة..

    ـ بس دة ياهو بيتو.

    عصر ذلك اليوم، مر جو على ذلك الشارع (كبائع عِدّة لحوح)، ولعشرات المرات.. على أمل أن تمنحه الصدفة طلة واحدة.. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. عاد إلى السوق، شرب شاياً على المقهى الطرفي، ودخن، ثم أعاد الكرة مع حلول الليل.. كانت النوافذ مغلقة على الحجرات المضاءة. وكانت نازك تحكي لسلمى عن الإحساس الغريب الذي ساروها وهما عائدتان من المدرسة ـ بعد أن أطالت وجودها في الحمام وهي تمسح حلمة نهدها بصورة جو وتستعيد خيال الأفاعيل القديمة. كان جو يدور ويدور. إلى أن خرج جمهور السينما. فحمل جراثيمه وذهب إلى المستشفى، ونام هناك مع مرافقي المرضى، لتصبح المستشفى بيته في تلك الأيام!

    استيقظ مع شقشقات عصافير الفجر، وحمل اشياءه وذهب إلى جذع الشجرة السيسبانة العتيقة، فأطلت سيدة القلب في أحلام اليقظة. كانت على مرمى الوضوح. أجمل وأشهى، فتسربت شياطين التخذيل!

    رأى جو نفسه أصغر من الذي في رأس نون أو رؤوس البنات! ودخل في منولوجه الشخصي؛ "تشوفك كدة؟ دي حتتصدم.. لا.. لا خليك واثق. هي مش بتحبك؟ خلاص.. ما أحتمال تكون حبت واحد تاني؟ لا لا حرام عليك.. نون مش ممكن تعمل كدة "! وتمنى جو أن يرى أولاد قرف بجواره. وظل كذلك. ومر اليوم كما الأمس!

    وفي المساء، ترك التجول وجلس على سور المستشفى يطالع (عادة النوارس)، ولسبب غير معروف، أحس بأنه مجروح، وأن نون هي التي جرحته!! وكانت نون هناك تحكي لسلمى نفس الإحساس الذي أصبح يساورها في طريق العودة من المدرسة!

    ولما ظل طوال الليل يعزي نفسه، فقد استيقظ متاخراً فهرع إلى الشجرة وظل منتظراً. جاء أطفال وصاحوا :

    "المجنون المجنون"!

    فنهرهم أحد المارة ناصحاً:

    "دة هسع بقوم يفلقكم وماتلقوا البداويكم".

    أدرك جو خطورة المسألة، وهو عائد إلى المستشفى نظر إلى صورته في زجاج بترينة أحد الصياغ، فاقتنع بأن الأطفال على حق. عاد وأصلح بعضاً مما أفسدته تلك الأيام ونظر إلى عينيه فأعادتا إليه ثقته في نفسه. وفي عصر ذلك اليوم قرر معاودة الكرات والتجوال ـ عسى ولعله. وهو خارج من الستشفى، صادف أن كان البواب يفتح الباب لعربة مغلقة النوافذ، فانتحى جو جانباً، فمرت العربة، وذهب هو في سبيله للطواف حول الكعبة الجديدة. ومن وراء زجاج النافذة لمحت سلمى (الشبح)! ولما نزلت من العربة لتتأكد، لم تجد شيئاً، فقد اختفى الشبح وراء المباني المجاورة. عادت وغطت تصرفها بكذبة صغيرة. وبعد أن أنتهت الزيارة لـ(حاجة عرفة) زوجة المحجوب، استدارت العربة إلى البيت. مع مغرب الشمس توقفت أمام بوابة المنزل. كان جو يراقب الموقف. ولما نزلت سلمى، عزف قلبه سيمفونية (يوم المطر). تلتها الست، فتلعق القلب بالكواكب. ثم لا شيء! أحتضن أوراقه وهو يفكر بغيظ في كل اللحظات التي كان تقف فيها هذه العربة اللعينة أمام بوابة المدرسة صباحاً ونهاراً تصادر أحلامه وهو لا يدري!!

    ...

    ـ نازك، كو كو كو، نقرت سلمى باب الحمام.

    ارتبكت نون وهي تمسد حلمة نهدها بصورة جو الذي غيبته الليلي وهو حاضر في كل تفاصيل الحس!

    ـ مالك؟ يعني أصلو الواحد ما يعمل حاجة براحتو؟

    ـ أمرقي بسرعة.. عندي ليك خبر مهم..

    ـ عماد رسل جواب؟

    ـ لا.. حاجة أهم من كدة!! فارتجلت ما تبقى من حمامها وخرجت:

    ـ سلمى .. عليك الله في شنو؟

    ـ أنا ما متاكدة. بس أن حأحكي ليكي الحاجة الشفتها..

    ـ أحكي، أحكي يا سلمى شفتي شنو؟

    بأمانة كاتب العرضحالات، حكت سلمى الحكاية..

    ـ أكيد دة جو. أكيد هو... إنت مش كنتي بتقولي لي مجنونة.

    مش إحساسي طلع صاح؟ آهـ يا جو إنت هنا وبتعاني!

    وفي لحظة البكاء الشفيف:

    ـ وفي المستشفى دة بكون عيان يا سلمى.. إنت عيان يا جو وأنا ما قادرة أعمل أي حاجة..

    وانتحبت نون..

    ـ ما يمكن يكون ما هو؟؟ والله أنا غلطانة الحكيت ليك...

    ـ عليك الله تعالي أحكي لي تاني يا سلمى.. دة أكيد هو.. لازم هو...

    وبينما كان جو جالساً في طرف السوق يزدرد (الفول المصلح)، ويضع زيادة ملح بين الفينة والفينة، ويقلب في ذهنة تكتيكات الغد، كانت نون قد رفضت ـ بإصرار ـ العشاء ولبن المساء ولم تذق شيئاً وهي تفكر في شيء واحد هو هذا (الجائع) (المريض)، وإلا "لماذا يذهب إلى المستشفى إذن؟؟".

    كان الصباح حاسماً، فما يليه إجازة ولا خروج. ولما جاء عم بشير السائق مبكراً كعادته، لم يواجه بمحركة في ذلك الصباح، بل أن نازك هي التي فتحت له الباب!

    ـ شنو الليلة بدري كدة؟

    ـ بس يا عم بشير عليك الله تغشِّينا المستشفى عشان أشوف خالتي عرفة. إنت عارف أنا أمبارح ما مشيت ليها.

    ـ أمرك يا ستي.

    وعلى مرمى من باب المستشفى:

    ـ خلاص يا عم بشير، إنتظرنا هنا ندخل ونجيك بسرعة.

    وترجلتا أمام الباب فقالت نون:

    ـ إنتي ياسلمى متأكدة إنو كان واقف هنا؟ ووقفت في نفس المكان الذي حددته سلمى تتشرب روحه!

    ـ اللـــــه!! أكيد كان هو، أكيد.

    ـ خلاص يا نازك.. أراح نكمل الزيارة عشان إنتي عارفة!

    ولما عبرت العربة الفسحة باتجاه بوابة المدرسة، كان الشبح واقفاً بجوار شجرة السيسبان العتيقة.

    ـ الله يا سلمى!

    ودخلت نون في نوبة بكاء وهي تؤشر باتجاه السيسبانة. فقرصتها سلمى منبهة لوجود عم بشير.

    ـ في شنو يا بنات؟؟

    واستعدل مرآة العربة ونظر إليهما:

    ـ مالك يا نازك؟

    ـ لا، ما في حاجة يا عم بشير. بس أنا زعّلتها ـ ردت سلمىِ.

    ولما لم تكن الإجابة مقنعة تماماً، أنزلهما ثم قاد العربة وهو ينظر من المرآة، فرآهما تتمحركان أمام بوابة المدرسة، فأوقف العربة وراء أول منعطف وبدأ يراقب الموقف:

    كانت نازك قد توترت كل ذرة فيها. وبالرغم من رغبتها في معانقة جو على مرأى من الكواكب إلا أن الخوف عاد مرة آخرى وتدخل. فترجت سلمى أن تذهب إليه بدلاً عنها ـ لأنها لو ذهبت ستحدث أشياء خطيرة!

    وقفت نون أمام بوابة المدرسة إلى أن نبهها البواب أن ذلك ممنوع ولما استدرك أنها بنت السيد زين العابدين، تجاوز اللوائح وفتح معها حوارات جانبية وطلب منها أن (تكلم) والدها ليساعده في عملية تصديقات الأكشاك الجديدة!

    ـ جو!! أزيك ..

    ـ إزيك يا سلمى.. مشتاقين.

    ـ والله بالأكثر .. إنت جيت هنا من متين؟

    ـ والله يومين كدة.. وليه نون مش عايزة تسلم علينا ولاّ شنو!؟

    ـ لا إنت عارف الحكاية صعبة شوية عليها وأنا ما قادرة أقل ليك نازك بتحبك قدر شنو.

    ـ طيب أنا ألاقيها كيف؟؟

    ـ والله ما عارفه. ولا أقول ليك بكرة نحاول نقنع ماما نمشي قبة سيدي الحسن ونتلاقى هناك.

    ـ خلاص هاك..

    ـ ديل شنو؟ بس بشوفونا؟

    ـ ما بس ولا حاجة، هاك.

    وفي ذلك المساء. كان احتفال رأس السنة ذو شنة ورنة. وعادت إلى الليالي بعض مذاقاتها القديمة؛ نازك تبلل الأوراق بدموعها وسلمى تحرس الباب تحسباً لأي (طارق)!

    وفي العام الجديد، أمام باب الزيارة، كان الزحام؛ الست غارقة في دعاء ما قبل الدخول. وقف جو ـ الذي أحرقته شموس العالم ولم يبق من وسامته إلا بريق عينيه الخطر ـ وهو (يمثّل) مع الداعين. قامت سلمى بتغطية الموقف. ووقفت وراء نون الواقفة وراء جو. بجست نون نهدها الأيمن على الضلع السادس من ظهره، أحس جو بالدفء والرجفة. وزادت الشهقتان المتزامنتان الإلتصاق! مد جو يده ووجد يدها متدلية مرتجفة دافئة، ضغط عليها واستعاد ذاكرة المطر!

    دخل الداخلون إلى الزيارة، ودخلت رسالة بين نهدي نون وأخرى في جيب جو!!





    ****







    في السادس من كانون ثاني، عاد السيد زين العابدين من رحلته الظافرة بعد الظهر. وبدأ يخلع حمالة بنطاله التي أصبحت من لوازمه الشخصية، بعد أن نبتت له كرش لا تحتملها التفصيلات القديمة، وقد صار له شدقين أملسين يمسدهما دائماً وهو يلقي بشكوكه إلى وجوه محدثيه! كانت الست (فاطمة بت البجاوية، بت "بت الحبشية" التي اختطفتها وجلبتها المليشيات المهدية) تساعده في لملمة أطرفه في انتظار المشروبات التي ستقدم إليه بعد قليل.

    دخل في الموضوع مباشرة:

    "تعرفي يا ست؟ دي رحلة ناجحة مية المية. تتصوري! الواحد أخيراً قدر يختكم (على عتبة المجد والسؤدد) تعرفي! أول كشف يطلع في أراضي الخرطوم الجديدة إحنا نمرة ثمانية طوالي! ووين؟ في حي الروضة الجديد، درجة أولى ممتازة مع كبار المسئولين؟؟!"

    وهو يجغم الحاجة الباردة، واصل:

    ـ طبعاً كدة أول درجة من السلم إتختت، بس باقي حبة إجتهاد كدة والطوابق تقوم.

    فقاطعته الست:

    ـ لاكين دة ما داير ليهو صرف كتير؟ وإنت عارف أنحنا ما عندنا البسوي قدر دة؟!

    وكعادة النساء الطيبات أضافت:

    ـ أنحنا هسع غير دهبي دة ما عندنا حاجة لكين شيلو أمشي أصرفو وبعدين ربنا يفرجها ببركة سيدي الحسن.

    ـ لا.. أنا بعرف بدبر. تصوري أحسن حاجة الواحد عملها بعد (الكشف) دة إني لاقيت (ود الدالابي)، بعيد عنك، دة تاجر كبير في الخرطوم. وعملنا يعني إتفاقيات كدة تمشي الأمور "إن شاء الله".

    الوقع أن السيد زين العابدين قد استطاع خلال عام أن يضع أساساً متيناً للخطوات التي بدأها. ففي آخر زيارة قام به (الرئيس القائد)، وباسم الاحتفالات والاستقبالات كان ما تم (تجنيبه) ـ وما تثبت الأوراق الرسمية عدم وجوده ـ عشرات الآلاف من الجنيهات. هذا بالإضافة لنصيبه من سكر (التومين) ـ الدعم ـ بعد أن يقوم صهره المحجوب بتصريفه!

    ثم أن هناك مشروعات (الثورة) لبناء مدراس، ومؤسسة الرعاية الإجتماعية ومسجد. وكل ذلك تحت إشرافه الشخصي. وقد كان متحمساً لحكاية المسجد هذه، خاصة وأنه قد صار يُكثر من الصلاة! فمنذ أن بدأت حكاية التجنيب هذه، صار (أستاذ زين) القديم يظهر مرة بعد مرة مثيراً بعض القلاقل الداخلية اللسيد زين العابدين الفئوي. ولكن كمبيوتره الشخصي الـ(personal computer ) الكائن في دماغة قد وجد له الحل! فصار يترجم الآية "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" إلى "إن الصلاة تمحو الفحشاء والمنكر"! ومع مرور الأيام قام هذا الكمبيوتر بعمل أبحاث (علمية) في مجال الفقه، أثبت فيها إستثناء التجنيب من دائرة الفحشاء والمنكر!

    ولكن عم بشير، قد أفسد على السيد زين العابدين بهجة مسائه، و هو يقدم إليه التقرير المفصل لأيام الغياب مشفوعاً بملاحظات مثل:

    "أكيد المتشرد دة في جماعة وراهو. وأكيد هم المرسلينو.."

    فعادت ترن بقوة حكاية البصل المعفن في ذهنه.

    في اليوم التالي، وفي الإجتماع التنويري الخاص برحلة الخرطوم، وفي بند مواضيع أخرى؛ كان للسيد زين العابدين الفئوي (شرف) إختراع وسائل الدفاع المبكر، مردداً:

    "أنا لي فترة كدة ملاحظ إنو المتشردين بدأوا يكتروا في المدينة وأنا عندي إقتراح نقوم بحملة كدة (لتفريغ المدينة من المتبطلين). القادرين منهم على العمل طبعاً تسوقهم الشرطة لمناطق الإنتاج، والبقية نضيفهم لأعباء الرعاية الإجتماعية. وبكدة يكون عندنا (أدلة مادية) نقدر نستقطب بيها الدعم".

    قال ذلك ثم ضحك!! فوافق المجتمعون على اقتراحه بالإجماع! قد كان اليوم الذي بعد عسيراً على السابلة. لما تعرضوا له مما سمى بـ(حملة تفريغ المدينة من المتبطلين)!

    ولكن السيد زين العابدين قد أصيب بالخيبة وهو يطالع كشف المقبوض عليهم من (الدوريات)، فجو كان قد غادر المدينة مكتفياً ببركات سيدي الحسن (أب قبةً لبنية) عائداً إلي الخرطوم، بمشروع جديد بحجم الوعد الذي تضمنته رسالة نون باللقاء في الجامعة. على إن يصله راتبه من الرسائل كاملاً غير منقوص.



    ****



    الصيف... الصيف

    الخرطوم تتأفف من رياح الأطلسي التي قطعت الوهاد الطويلة لتنفث مطراً كاذباً. وما زال أبدللاهي إساخا يتجول في شوراعها "ترمس.. ترمس .."، ويمني النفس ـ في ذلك اليوم ـ بحصيلة جيدة من جيوب (الجماهير) التي تتقاطر صوب الإستاد لمشاهدة مشاجرة هلال مريخ. كان جو وقتها قد أكمل الاستحمام على ضفة النيل الأزرق. وتسكع في شارع النيل وهو يحلم أحلام اليقظة كلما رأي صورة زيدان إبراهيم ملصقة على حائط تجرجر المارة لاستعادة ذكريات العمر الحلوة.

    كان عائداً من هناك. ولما عبر شارع الجمهورية كاد يطير من الفرح وقد لامس أذنه صوت غازل فيه أهازيج الضحى المدرسي:

    "جو... يا حبيبي!"

    كان على إسماعيل الكضاب بكامل تفاصيله يتجدع في شوارع الخرطوم!!

    ـ ما بصدق!! أبو الكضاضيب في شوارع (أم قدوداً ألف)؟

    وقد فهمها على إسماعيل (التافه) بخباثته قائلاً:

    ـ ما خرّمتوها إنتو.

    ثم أضاف:

    ـ لاكين أنا المابصدق، يا خي كيف؟ كدي أول حاجة طمِّنا يا جرقاس أخبار العصافير شنو؟

    وبعدين ما ياهو إنت سمين لسة، وعندك سكاكات تلحق قطر مش لا ندروفر!!

    وضحكا وتسالما طويلاً. ثم ساقه جو إلى الوكر.

    ـ آها كيف باقي القِرِف والقِرفات؟

    ـ يا خي إنت راجل (أي كلام)! جواب ما ترسلوا؟ ولاّ الطاقة كلها كملت مع جوابات النونات؟

    ـ يا خي الواحد .. إلاخليها ساكت. بس كدة قول لي.

    ـ طبعاً قرف كلهم بقوا أولاد ثانوي. إلا صاحبك بطيخة! تصور أبو البطاطيخ عمل ليهو عمة ومادّي ليك كرشو، وراح قاعد في دكان أبوه يقيس في القماش!!

    ـ وأبو الشرابيت؟؟

    ـ لا.. دة أنا جايييك ليهو لكين تصور أخوك ما لحقك!!

    ـ كيف؟!

    ـ تعرف! العصفورة .. اللــــه.. أموت أنا. ما (في الليلة ديك!)

    ـ الله! معقول زهر تعمل كدة؟ أكيد إنت السبب، بحركاتك تكون طفشتها؟!

    ـ يا زول حركات شنو؟ تصور بعد الإمتحانات ما صدقنا أخدنا لينا (قدوم قدومين) كدة، وقلنا يا خي نتلاقى بعد النتائج. أنقر النتائج طلعت إيه؟ جانا الخبر شايلو نكير وقال يا مؤمن وين صلاتك؟ وضربة ساطور. تصور زهرة لمَّ فيها واحد قريبها كدة مقطوع الطاري وراح مقصقص (البتلات)! تصور أخوك قرب ينتحر إلا ربك ستر! لكين في النهاية نعمل شنو؟ "يا هو حال الدنيا حالها". لكين المغسة إنو السبب كله ال######## الإسمو ود العمدة! تصور! مشى إتّعرص لأهلها بحكاية يوم الحفلة ديك!! وإنت عارف إنو أهلها ديل عاملين فيها (شيوخ)، قالوا "كمان جابت ليها قلة أدب!؟"، وراحوا معرِّسنها لقريبها التافة ده..

    ـ لاكين والله دة خبر محزن!! ليه؟ ليه كدة يا دنيا ليه!؟

    ـ المحزن في الأمر إنو الراجل دة راح موديها ليك (حِلّة) كدة في الخلا إسمها إيه قال! تصور زهرة في حلة إسمها (جريبانة)!! وكل الغنا داك راح في الآكولة الفي قلبي أنا!

    ـ والله مؤسف.. لكين بمناسة الغنا دي. كيف سيف وندى؟

    ـ ياخي ديل الفضلو لينا. وشغالين يغنوا لسة!

    ـ وعزة كيف؟

    ـ تخيل عزة دي أنا اتحيرت فيها! تصور من اليوم الإنت مشيت فيهو، كل ما تلاقينا تقعد تبكي إنت البت دي كنت غاشِّيها من ورانا ولاّ شنو؟

    ـ يا خي دي بت عندها إحساس.

    ـ المهم هي هسي في كلية المعلمات. أما صاحبك شطة طبعاً بقى لاعب كبير، سجلوه ناس فريق الرعد. وكان هداف الدوري في المدينة. وبالمناسبة دي إنت شكلك حتفوتنا هلال مريخ!

    ـ ياخي خلينا في هلال مريخنا نحنا. آها بالله كيف أبو خمسين؟

    ـ لا حوله! ما قلت ليك!! ياخي الراجل دة لموا ليك فيهو جماعة بتاعين دقون كدة، تخيل أبوخمسين بقى واعظ!!

    ـ يا زول خليهو، ما مشكلة. أها قول لي أخبار شربات؟

    ـ أبو الشرابيت. أنقر دة هسي يكون وين؟ أكيد مشرور وقاعد يتلفت زي قروي في المدينة. دة جاء العاصمة وكان مفروض نتلاقى قدام الأستاد ونخش الكورة.

    طبعاً إنت عارفو مريخابي متعصب.

    ـ طيب أراح نمشي ليهو..

    ـ ياخي سيبو دة هسي يكون زهج وهسي تلقاه في المسطبة الجنوبية.. طبعاً إنت عارف أخوك هلالابي واي واحد فينا سليط اللسان وعشان ما في واحد فينا ياخد علقة طبعاً كان كل زول يشوف مراحو وين في الإستاد.. المهم هو هسي قاعد مع جماعة قرايبو كدة في كوبر. نقوم بكرة نهبر عليهو.



    وبعد مطالعة إوراق الأحلام. وقصص الرحلات المكوكية. ظهرت حكاية الوكر المهجور وأخبار (شرف الوطن) في (حي فوق بتاع الخرطوم):

    ـ دة صاحبنا على إسماعيل ..

    ـ أهلاً بالشباب... وأكيد دة شربات؟

    ـ أيوة. أنا شربات.. لكين الله قادر! وإنتي من وين يا بت الناس؟

    نظرت إلى جو، فأمسك عصا الرد:

    ـ دة السؤال المامفروض يتسئل!

    فعقب عودة جو من رحلته المكوكية، كان يلتقي بأبدللاهي إساخا في أواخر النهارات على حافة أبو جنزير. يتكئان على الحائط المهشم ويحيكان عن الأحلام. ولم يفهم (مستر إساخا) ما يريده جو من الدنيا بالتحديد! فهو لا يعرف معاني كلمات مثل (ملح االأرض) و (المرافيء البعيدة) و(الوجود)، فيعلق:

    "وللاّهي أتِّي تكوسي هاجات كتير خلاص! إلا ربنا يوفِّخِيك؟!"

    ولكن إساخا كان محدداً في كل شيء وهو يملي رسائله إلى البلد، فيكتبها له جو بأقل مما تقتضي الأمانة؛ فبدلا من فتين يكتب فطين. وعبد الله إسحاق بدلاً عن أبدللاهي إساخا!؟ ثم بعد ذلك يذهبان إلى قطار الميجا ويرسلان الرسائل ومعها ما تيسر من حصاد.

    ولما يجيء رد الرسائل من كتم، يجلسان ويقرآنها حرفاً حرفاً. وأحياناً يذهبان إلى بيت أبدللاهي إساخا الكائن (بزقولنا بتاعة الحاج يوسف)، حيث أصبحت للخرطوم زعانف تتمدد كل يوم بأمثال أبدللاهي إساخا. وهناك يمتنع إساخا عن (الحرام) فيمضي جو لوحده إلى (معرض شرف الوطن) ويطفيء أحلام اليقظة التي يشعلها عطر نون الذي كان هو هو في يوم (النافذة) ويوم (الزيارة)! ولما يخرج، يمسح عرقه ويلقي بكلماته إلى السماء (آسف نون)! وذات يوم ذهب إلى هناك قبل حلول المساء، فوجد المعرض مزدحماً كأنه سوق أم دفسو. تأفف من الزحام، ثم استدرك قائلاً لنفسه: "ياخي دة بيت أبوك؟ يلاّ..". وبينما هو يمر خارجاً من (العكة)، مؤجلاً فكرته، فإذا بماء طست القاذورات ينقذف على بنطاله من وكر على حافة الزقاق!

    ـ دينِك!!

    ـ تسب لي أنا (دين) يا صعلوك!؟

    وخرجت صاحبة الوكر وهي ما تزال تستعدل (اللستكة).

    ـ أيوة بسب ليك.. إنتي الشارع دة بتاع أبوك؟!

    ـ أيوة بتاع أبوي يا تافه يا ود الشرموطة.. يا ..

    وتدخل المارة:

    ـ خلاص خلاص يا أخوانا باركوها ياخي طول بالك.. إنت عارف الجماعة ديل!‍؟

    وفي تلك اللحظة خرجت، من الوكر المجاور، جارة "السبابة" لتستطلع الأمر:

    ـ خلاص يا (جِنُّو) ما إنتي غلطانة. ما إنتي كشحتي فيهو الموية؟

    قالت ثم أضافت:

    ـ خلاص يا أخوانا أمسحا فيني..

    كان جو قد مات من الدهشة! وظن أن هناك مؤامرة كونية!‍ فكأنما (غافل الشيطان الرب) وقام باستنساخ نون على عجل كما يفعل مزورو العملة الذين ظهروا في تلك الأيام!‍ كانت حبة الشباب هذه المرة على الخد الأيمن المائل إلى القمحي.. والصوت زنكوغرافيا! ‍وذهب الغضب مع المنظر:

    ـ لا يا ستي ..لا بمسحا فيك ولا حاجة..

    ـ إتفضل.. من قبيل شايفاك بهنا.. ما عجتبك الحاجات ولا شنو؟

    ـ لا.. عجبني الوكر دة والعصفور الفيهو..

    ضحكت ثم قالت:

    ـ تعال.

    أخذته ودخلا:

    ـ إنتي اسمك مين؟

    ـ سوسو ..

    "إحنا من سمسة لسوسو!؟ الحاصل شنو!؟" قال جو لنفسه.

    ـ وإنت؟

    ـ جو

    ـ دة أسم ولا لقب ؟

    ـ لقب لكنه إسمي ..

    ـ والله حكاية! ‍ إنت أسمك بتاع المدرسة شنو؟

    ـ النور عثمان

    ـ خلاص يا جو ..

    ـ اللــــه! عليك الله قوليها تاني..

    ـ جو يا سيدي ..

    ـ ممكن أسالك؟ إنت من وين؟؟

    ـ إنت سيد العارفين. أسئلة زي دي هنا ما ..

    ـ خلاص يا ستي، آسف ـ أستدرك خطأ السؤال، ثم أدخل يده في جيبه وأخرج الجنية ومده إليها. أخذته وأدخلته بين نهديها ثم بدأت فيما هو معروف.

    ـ شوفي يا سوسو، أوعك تقولي الود دة كدة ولا كدة، أنا بس عايز تسمحي لي أشوف وشك وألمس الحبة دي.. ولما الزمن يخلص تقولي لي خلاص. أقوم أمش.

    ـ والله إنت حكايتك حكاية!! ‍ لكن برضو ماشي ..

    وأخرجت الجنيه وردته إليه!

    ـ لا والله خليهو معاك.

    ـ لا والله!

    ـ ولا والله.

    ثم:

    ـ آها يا سيدي. إتأمل!!

    "خان القدر سير اتجاه الأغنية

    ودور في المدى العريان!

    فلا نفع البكا العادي

    ولا البيغادي إستنو السنن!"

    ودخلت على أبدللاهي إساخا حكايات جديدة، ولكنه كان متسامحاً معها باعتبار أن الراجل يحق له (شرعاً) أربع أما هو، فيسكتفي بـ(فتين) ـ سؤاله الأبدي الوحيد! ومنذ ذلك اليوم صار يُدق إسفين العزاء إلى أن جاء أولاد قرف مرة أخرى وابتذلوا القضية الملتبسة وأعادوا ذاكرة النجم كاملة: "أدخل على الفرق وخلي الشبه لأسيادو"! هكذا أوعزوا له وقفلوا إلى مدارسهم راجعين، حاملين معهم وصايا إلى كل ما ومن هناك.



    ****





    اطمأن السيد زين العابدين إلى خلو المكان من الجراثيم لما رأي البنت وقد بدت أكثر اجتهاداً. ومنذ بداية العام الدراسي. ولكن هذا الإطمئنان له أصل آخر، فقد ثبت له أن بعضاً ممن كان يظهنم بصلاً معفناً لم يكونوا كذلك! فها هو إبنه صلاح وجماعته قد عادوا إلى الحظيرة يرفلون في أمن ووأمان! ثم ها هو صلاح ـ وبإشارة منه قد صار موظفاً (كبيراً) في الرعاية الإجتماعية. ولأنه قد زالت الشكوك حول عفونة الأبصال التي ينتمي إليها صلاح، فقد صار منزل السيد زين العابدين مكاناً علنياً لاجتماعات تتجدع فيها اللُّحى وبعض العمائم من الباب إلى آخر النافذة!! لكن أهم ما في المسألة، هو الخطوات العملاقة التي خطاها السيد زين العابدين تجاه (المجد والسؤدد)، فقد تورط ووقع في قبضة الشرطة بعض ممن يسمون أنفسهم بتجار البن ـ الذين هم في الواقع مهربي كل شيء. وفي وقت متأخر من ليلة ما، دق المحجوب باب صهره، الذي اضطر للذهاب إلى مكتبه ليلاً! وفي اليوم التالي، وجد السيد زين العابدين نفسه في وليمة أعدها أحد أصدقاء المحجوب في بيته (العامر). بعد الفزعة التي فزعهم إياها. كانت تلك العزومة (الاجتماع) بداية فعلية للدخول في (الطريقة)! حيث أخبره البنك بعد أيام بأن رصيده زاد نقطة على اليمين. ذلك عندما ذهب يستقصي وعود شيخ الطريقة.



    في العزومة الثانية، قدّم له شيخ الطريقة اقتراحاً منطقياً. وهو؛ بما أنهم بصدد تشييد مكاتب الرعاية الإجتماعية، فإنه يقترح إنشاء دور للرعاية (من فعل الخير) باعتبار أن المكاتب بلا دور أو مراكز خدمية أمر لا جدوى منه. وعلى إثر وجاهة الاقتراح وافق السيد زين العابدين على الفور. فبارك الشيخ ضربة البداية. وتبرع بمبلغ تكهرب له شعر السيد زين العابدين، بل وقبّضه الشيك في الحال.

    في الأيام التالية، وبعد أن أصدر توجيهاته، بدأ سيد زين في إعداد خطبه الرنانة، التي سيلقيها في زيارة أول مسئول. بل وطفحت في ذهنه فكرة دعوة السيد الوزير المختص، كجزء من الدعاية للمشروع. وستكون زيارة الوزير دفعاً لمسيرة الرصيد الذي صار إسمه (البركة)! وخاض السيد زين العابدين في أفكار شتى، حتى أنه رأى في أحلام اليقظة منزله ذو الطوابق الأربعة مشيداً وأمامة نخلتين من نخيل الزينة ومجموعة من أشجار المهوقني المسورة، حماية لها من (أغنام الخرطوم الضالة)!

    ولما تأكد شيخ الطريقة، بوسائله الخاصة، من ابتلاع الحوار للطعم، جاءه بالاقتراح (العديل)؛

    ـ شوف سيادتك، إنتو بدل ما تقعدوا تشحدوا من الناس البقت ما عندها شفقة دي.. إنتو ما تستثمروا إمكانياتكم ومقدَّراتكم؟!!

    فتعجب السيد زي العابدين الذي ما زالت عالقة به بعض روائح (براءة) (الأستاذ) قائلاً:

    ـ إنت عارف ياسيد، إحنا المبالغ المصدقة دي زي ما قلت ليك لحدي هسع ما وصلت المبلغ الإنت إتبرعت بيهو.. وفيك الخير و(البركة).

    ـ لا إنت ما فهمتني! أنا ما بقصد المبالغ المصدقة. أنا بقصد حاجة تانية..

    ـ حاجة تانية!!؟

    ـ أيوة يا سيد زين يا زعيم الفئويين.. خليك معاي.. إنتو مش عندكم سكر الدعم؟

    ـ أيوة.. والله فكرة.

    ـ وبعدين حق (الجماهير) وراجع ليها!

    وهكذا أضيفت إلى وسائل التجنيب طريقة أخرى أكثر مضاءاً!



    ****







    "والله ما عندنا غير العمارة الكنتو شغالين فيها مع معلم أرارا ديك. اليومين ديل فيها تشطيبات. ممكن تمشي تدعك السلالم بالحجر لحدي ما الواطه تجف، وبعدين تبدو في العمارة الجديدة.."

    قال المقاول ذلك لجو وهو يمد إليه الرسالة.

    لم يجد جو بداً من الذهاب إلى هناك.

    وبينما هو يصنفر السلالم بالحجر وشرائط الصنفرة. جاء عامر الديكوريست صاعداً ونصحه باستعمال (الجوينتيات) حتى لا يدمي يديه. صعد عامر ثم نزل حاملاً الجوينتيات ورماها لجو قائلاً:

    "إنتو تدعكوا وهم يمشوا فيها بالكعب العالي!"

    قال جو في نفسه: "إذا كانت ستمشي عليها نون، فيلكن". وكانت نون قد سربت إليه، في رسائلها، خبر عمارتهم الجديدة! ولكن تعليقات عامر أعادته إلى معترك الأسئلة الخطرة: "كيف يا ترى استطاع صهري العزيز أن يسير كل هذا الطريق؟". وفي آخر النهار، قدّم إليه (عامر ديكور) عرضاً بأن يترك هذا (الهباب) ـ كما قال ـ ويعمل معه مساعداً. فوافق جو على الفور.

    ومنذها، نشأت بينهما صحبة، تحولت إلى صداقة حميمة بعد أن اكتشف ديكور ما في هذا المساعد من (حس جمالي). وكان عامر هذا قد تخرج في كلية الفنون الجميلة من سنوات. ولما لم يجد أمامه مهنة غير(مدرس فنون) ـ التي لا يكفي مدخولها الملبس والطعام، صار يمارس أعمال الديكور ثم استقر عليها أخيراً. وبعد أيام من الرفقة والحكي، أعجب ديكور بشُلَّة أولاد قرف، وقدم طلباً للانضمام إليهم، فقام جو بتعيين نفسه لجنة، ونظر في الطلب، وقبله! ودفع ديكور رسوم الانضمام برسم لوحة (يد التنين التي تقبض على الضفيرة) على خلفية شمس كبيرة مشرقة. ثم قام، بمزاج، بنسخ صورة نون على لوحة كبيرة وزاد ابتسامتها وضوحاً وألبسها إطاراً ثم وضعها في غرفته في مواجهة الباب! وبسبب هذه الصورة بالذات، صارت أيام جو تنقسم بين وكر مندكورو وبيت عامر ديكور. يوم هنا ويوم هناك. إلى أن استقر أخيراً مع ديكور. فانتظم إيقاع حياته، وأمسك بطرف الطريق الذي كان هلاماً. يصحو في الصباح الباكر كعادته، يقبل ابتسامة نون ثم يجر (كرت اليوم) بالنيابة عن ديكور. فإن وجد الكرت أقل من (7) اضطر إلى جلب جك ماء بارد وصبه على رأس ديكور متحملاً كل الألفاظ النابية و(الدين المكعب)! فقد كانت لديكور هذا عادة غريبة، هي أنه لا ينام إلا وهو يضع (فردة كوتشينة) تحت وسادته! ولا يفتح عينيه إلا بعد أن يجر كرتاً، فإن وجده أقل من (7) قال:

    "ياخي الليلة قافلة معانا.."!!

    ويواصل نومته!!

    أما إذا كان الكرت (7) فما فوق قام مسرعاً إلى الحمام وخرج ليقبض الحظ قبل أن (يطير)!! إلى أن جاء جو وحطم له معاركة مع هذا الحظ!!

    وصارا يخرجان كل يوم يجمّلان العالم. في البداية، كان ديكور يُنظِّر لوحده. ولكن بعدها صار جو هو الآخر منظّراً ـ بعد أن سلك الطريقة الجديدة بسرعة فائقة.

    آخر النهار يغسلان عنهما وعثاء العمل ويذهبان إلى وسط المدينة ليتلقيا بأبدللاهي إساخا. يقرآن له الرسائل، ويتبرع هو لهما بكيسي ترمس. ثم يذهب جو إلى الكمبوني، وأبدللاهي إساخا إلى "ترمس ..ترمس.." ويبقى ديكور منتظراً لساعات يتامل وينظّر في (ديكور) المارة!

    في المساء. يخرج جو، فيذهبان إلى (سيدة الفرح). هناك يسكران بالبلدي. يمرحان ويتشاجران. ثم في آخر الليل يعبران الطرقات يترنحان سكراً وينشدان:

    لن ننسى أياماً مضت

    لن ننسى ذكراها

    ويقرأ ديكور أشعاراً مجهولة المؤلف يشتبه جو في أنه هو مؤلها. في أيام أخرى يحملان (عطرهما) إلى البيت: ديكور يرسم. ويفتح جو كتاباً ويقرأ:

    أحدب نو تردام ـ لهيغو

    عميد شابير ـ بلزاك

    عيون إلزا ، لأراجوان

    الجحيم لسارتر

    الغريب لكامو

    و...و... واستشعر عامر ديكور رغبة جو القديمة، فدله عل خشبات مسرح شكسبير، والمجنون صمويل بيكيت.

    صارت الدنيا تتسع في عيون جو أكثر فأكثر. و صار يقترب من (الفكرة). وانشرحت له معاني فنتازياه المشتركة مع أستاذ عساكر، وبدأت تثور مجادلات في السياسة! مدخلها ما أسماه جو بـ (الأرزاق) التي هبطت على صهره المستقبلي. ولكن ديكور بدد له حكاية الأرزاق هذه بالقلم والمسطرة. وعادت إلى جو الأسئلة الخطرة مرة أخرى:

    "يا ترى من صاحب هذه العمارة؟ وماذا يعمل؟"

    "وأين يا ترى يسكن الذين بنوها؟"

    ويجبيب: "أكيد هم مثلنا ..".

    "ولكن لماذا؟"

    "وما حقيقة هؤلاء النسوة اللاتي لا يمشين إلا على (البلاط) والسلالم المدعوكة؟"

    "ثم ما الذي يفعله بلّة وعبد الله في السوق العربي حتى يكون لهم كل هذا؟ فها هو عثمان سنين وسلالته يحفرون الأرض لقرون طويلة، وليست لهم إلا القطاطي؟!"

    "ثم أن أستاذ عساكر، كان يكد ليل نهار، ولم يسمع أحد أن له جزمة إحتياطي؟!"

    بدأ جو يشك في المثل القائل "من كد وجد .."! فها هو يكد، وديكور يكد، وأبدللاهي يكد ولكن لا شيء!! فصعدت الإشتراكية إلى الخشبة! غير أن جو لا يحب الأشتراكية! فهي لم تنزل يوماً عن كبريائها لتجلس بجواره في مقعد الدرس أو البص، وهو لم يجرؤ على عزومتها (للعشاء). فكل الذي حدث أنه يراها في الشوراع وقد فقدت تاءها المربوطة. كبقية الفتيات اللائي فقدن عذريتهن. ولكنها تسير دائماً بين (إثنين بودي قارد)! أمامها؛ واحد (تخين)، مفتول العضلات، و(كتال كُتلة) إسمه (الاتحاد)، والآخر؛ الذي يسير وراءها، هو النحيف كبقية خلق الله واسمه (السوداني). لكن جو بالرغم من ذلك بدأ يستقصي عن أصلها وفصلها. وفتح صفحة شجرة سلالتها:

    ماركس

    أنجلز

    لينين

    ستالين وبنجامين.

    عنفوف، قمعوف، تزييفوف .. إلخ

    فأعاد الكرة: "شيليني ختيني في بيت الله الملان غلة.." ووقع الاختيار على ماركس!! فتأمله جو ابتداءاً من جزمته إلى أن وصل إلى (الرأس الكبير)، وكل ذلك بمساعدات عامر ديكور. وهنا عرف جو لماذا يكره بلّه وعبدالله هذا الماركس بالذات! واقتنع بان حكاية "أفيون الشعوب" هذه إشاعة مغرضة. وقام بوضعه في لستة الأصدقاء جنباً إلى جنب مع عم عبده ورينقو وأستاذ عساكر ونون وأولاد قرف. صار يمشي في الطرقات وينظر بالنظارة التي أهداها إليه ماركس بمناسبة صداقتهما.. فداهمه الحنين إلى زعيم البلوتاريا عثمان سنين والمناضلة بت النور!

    كان جو يتسكع يوماً على شارع النيل وهو يقشر الفول السوداني. قال:

    "ساسافر.."





    ****





    شاءت الأقدار أن تفتح كوة الضوء للأيام وتبدد جزءً من العتمة. فبينما كانت نون في حمامها المسائي، بعد أيام الوحدة التي خلفتها سلمى، بتحقيق حلمها والذهاب إلى الجامعة، ولكن هناك وراء البحار، وأنطفاء شموع البهجة التي أوقدها عمدة في إجازته السنوية، بقيت لنون فقط ذكريات التعزي الطويلة.

    دقت الست باب الحمام في لحظة صعود الغيم:

    ـ نازك ..

    ـ أيوة.. يا ماما .. في شنو؟

    (نفس السؤال ، ولكن هذه المرة بدون احتجاجات معلنة)

    ـ أمرقي.. بسرعة.. جاتك ضيفة ..

    ‍‍ظنت نون أنها هادية بنت الجيران جاءت التأخذ كتاب (الممتاز).. ولكن صوتاً نديماً تسرب إلى الحمام .. حتى أنها لبست جونيلتها بالمقلوب.. وخرجت جارية.

    ـ اللــه! أنهار؟ ما بصدق!!؟

    وغاصت أنهار في البلل. وأصيب جو، في تلك اللحظة، بالقشعريرة وهو في الخرطوم!!

    وبينما كانت الست مشغولة مع الخادمة في إعداد شاي المساء، والسيد زين العابدين منهمك في خطط التجنيب قصيرة الأمد، وصلاح غارق في الأخرى بعيدة المدى، فقد جُنبت نون بعضاً من غلواء الحصار. وتداعت في ذلك المساء ذكريات الفرح الجميل. استعاد الزمان دورة من دوراته.. أطلت (المدينة) زهرة زهرة، وطوبة طوبة، وذرة ذرة..

    ـ أنهار! مش معقول!! وما شاء الله زدتي عسل!؟

    ـ أنا ولا إنتي يا نازك؟ أها إنتي أخبارك شنو؟

    ـ والله يا أنهار زي ما شايفة..

    ـ إنتي عارفة أنا قاصدة شنو.

    ـ والله يا أنهار تتصوري.. وجرت إلى دولابها. رفعت الخشبة إياها، تتصوري يا أنهار جاني هنا!! ألمسي يدي دي. ما حاسة بيهو؟

    ـ والله إنتي مجنونة. لكين برضو حظلك.. ما تتخيلي كل يوم أنا بتذكرك.. والبنات كلهم بتمنوا يكونو زيك .. أسكتي ساي!! ما شفتي يوم الشؤم داك البنات عملوا شنو!؟‍ تصدقي ما في واحدة ما بكت.. والله يا نازك بكينا وجقلبنا ليك جنس جقلبة!!

    ـ لكين أنا حزينة يا أنهار.. تتصوري جو خلاص خلى المدرسة!!

    ـ هو يعني دة حينقصوا شنو؟

    ـ لكين يا أنهار مستقبله!؟

    ـ مستقبله ولا مستقبلكم إنتي وهو؟

    ـ الله يا أنهار.. لكين ما مشكلة. يعني شوفي زي السجن دة هسي عامل للواحدة شنو؟ أنا قلت أقرا بدالو.. وأحقق معاهو كل أحلامو .. مش مهم إنشالله نعيش في خيمة صغيرة. أكيد حنكون سعيدين..

    ـ آيي أقعدي أسرحي لي..

    ـ أيوة يا أنهار .. ما قلتي لي، إنتي جيتي هنا متين؟

    ـ والله جينا لينا يومين كدة. طبعاً أبوي نقلوه هنا. وما تتصوري أنا فرحانة قدر شنو.. وأول ما وصلت سألت من بيتكم.

    ـ أها وباقي الأخبار شنو؟

    ـ يادوب جاية تسأليني؟

    وأدخلت أنهار يدها في حقيبتها وأخرجت رزمة الرسائل. قامت نون وتأكدت من إغلاق الباب ثم عادت:

    ـ اللـــه .. يا زهرة ودي لقيتيها كيف بعد الإتعمل فيها؟

    ـ والله سافرت ليها في حلتهم، تخيلي بقت حنانة وأسي عندها بت سمتها (نواندا) وقالت لو كان ولد، كان حتسميهو (جو)!

    ـ آخ يا زهرة ..آخ ..

    دة خط جليلة. ودة بتاع عزة. ودة خط منو؟

    ـ خط منو؟؟ نسيتي الجوابات الكان بتجي لزهرة؟

    ـ اللــــه .. على إسماعيل؟! بالله هو عامل كيف؟

    ـ والله كويس هو هسي في الثانوية.. والله كلهم مشتاقين ليك وبسلموا عليك كدة؟

    البوسة دي من زهرة ودي من جليلة ودي من عزة أما كدة (...) من علي إسماعيل. ووضعت سبابتيها جوار بعضهما

    وكدة (...) دي بتاعة عثمان شربات .. متذكراهو؟

    ـ كيف ما بتذكرو؟؟

    ـ آها أقول ليك.. كدة (...) وصالبت سباتيها..

    ـ تقصدي إنك حبيتيهو؟

    ـ أنا في الأيام الجاية حأوريك جواباتنا..

    ـ والله يا أنهار دي حاجة حلوة. أنا سعيدة. تعرفي يا أنهار، نحنا بعدين لازم نسكن جيران.. ما خلاص!!

    وضحكتا طويلاً.

    أُحضر الشاي، وُضع، ثم أُغلق الباب مرة أخرى.

    ـ إتفضلي .. تعرفي يا أنهار بعدين أنا الحأعمل ليهو شاي زي دة يإيدي دي .. تتصوري أكتر من سنة وأنا برسل ليهو (كل يوم) جواب وطبعاً ما في طريقة هو يرسل لي. تتصوري العذاب الأنا فيهو. بس أقعد أقرا في جواباتو القديمة. لكين شوفي بالله حلوة كيف؟ شوفي (أوراق الشتا)، تخيلي هو يقعد كل يوم، بعد ما يشقى في النهار، ويكتب لي!

    وبكت على كتف أنهار!

    ـ جو دة زول عظيم.. لكن خلاص هانت.. أنا أول رسالة لعثمان أديهو العنوان.. وهو يديهو لجو أو أنت رسلي ليهو عنواني، وتعالي شوفي يا ستي، من البوستة للإيد دي .. وضربتها على يدها.

    ـ لا ... دي.

    ومدت يدها الأخرى قائلة:

    ـ لأنها دي أخر واحدة لمستو.

    وهما تعيدان تفاصيل الأيام يوماً بعد يوم، كان جو قد وطأت قدماه أرض (المدينة). ولكن هذه المرة، كانت ذاكرة النسيان قد دبت! لم يشر إليه أحد وهو يسير على الطريق ـ كما كان يحدث في آخر أيامه فيها. وفي طرف السوق الشمالي الشرقي. ها هو بطيخة (بجلالة قدره) يجادل المشترين:

    "على الطلاق ما كدة .."

    ـ لا ما تحلف

    ـ علي الطلاق ولا راس مالو..

    طاخ .."يا كذاب!"

    ـ الله! مين؟ جو !!ياخي بتبالغ!! على الطلاق بتبالغ!!

    وأخذه في حضنه العريض..

    ـ تعال ياخي.. قال ثم نادى، يا ولد.. جيب موية.

    ـ شنو يا أبو البطايخ ياخي! إنت بقيت تاجر جد جد ولاشنو؟

    ـ الله زي ما شايف.. ياخي إمتحنا مرتين ودقينا الدلجة.. وقلنا نشوف شغلة تانية!

    ـ برضو كويس يا خي..

    ـ كويس شنو؟ بالله واحد زيك يخلي المدرسة!! يا خي دة إنت كان تعمل الذرة!

    ـ ما تبالغ يا أبو البطاطيخ.. لكن بالمناسبة دي، بالله كيف أستاذ الذرة؟

    ـ والله كويس، ما كلمتك، ما بقى مدير! لكين نقلوه (الأبيض). والله ذكرتنا أيام زمان.. تصور! شغلنا بتاع المسرحية داك نفعنا ليك جنس نفع! يا خي أخوك بقى عندو زبائن زي المطر!!

    ـ والله كويس آهو في نفع؟! وأخبار قرف كيف؟

    ـ لا خليها ساي.. ديل طبعاً كلهم في المدرسة. وقاعدين يمروا علينا بالمساء..

    طبعاً إنت بايت معانا الليلة

    "يا ولد .تعال هنا.."

    ولما جاء الصبي قال بطيخة:

    "دة أبشلخة"

    ثم أمره:

    "أسمع يا أبشلخة، شيل العجلة دي أمشي المدرسة الثنوية قول لشربات يسوق الجماعة ويجو بسرعة.."

    فأخذ أبشلخة الدراجة وطار.

    ـ تعرف! أبشخلة دة كان واحد من الشماشة. قمنا شغّلناهو معانا. يا خي دة ود ذكي ونشيط خلاص يا خي بذكرني برينقو (الله يرحمه).

    ـ والله كويس لسة ما نيست

    ـ أنسى؟‍‍؟‍ أنسى شنو يا خي دي حاجة تتنسي؟

    ولما أبلغ أبشلخة على إسماعيل الذي كان ينفض شراباته على سور الداخلية، قذفها ثم دخل إلي العنبر صائحاً:

    ـ بالله يا جماعة جدعوا الكتب والكراسات دي. أبو البطاطيخ الليلة عندو (وليمة كاربة)..

    وكانت تلك الوسيلة الوحيدة لهزيمة جحافل المحركة. فارتدوا بناطيلهم كيفما اتفق ثم هرعوا إلى السوق.

    ...

    ـ الله الله شوف القاعد دة!‍ دة جو‍؟ قال شربات.

    فهجموا عليه، ولم ينقذه من (الغمت) إلا مصطفى بطيخة بمتره الخشبي ..

    وها هم أولاد قرف يلتقون مرة أخرى، ما عدا سيد شطة الذي كان في معسكر الفريق لمباراتهم (الهامة) في الدوري ـ التي تغيب بسببها حتى عن المدرسة.

    ـ وشنو يا أبو خمسين الدقينة دي؟ سأل جو على سبيل المشاغلة.

    ـ ياخي ربنا هدانا .. والله يهدي الجميع.

    فتدخل فريني:

    ـ أبو خمسين دة لموا فيهو الجماعة وجابوا فينا قون. ما قدرنا نعادله!

    ـ يا زول خير.. المباراة الجاية جنجيب فيهم قون.

    ـ ياخي دة عامل لينا فيها إمام جامع. قال شربات. فرد عليه أبوخمسين:

    ـ الله يهديك يا شربات..

    ـ الله يهدينا ياخي، بس عليك الله بطِّل تطيِّر لينا نومة الصباح تاني.

    ـ خلاص يا (شيخ)، بس بعدين لما يسألوك يوم القيامة، تقول نومة الصباح حلوة؟

    ـ بسالوني أنا براي؟ ما في حاجات كتيييييرة بسألوا فيها!؟

    تدخل علي إسماعيل الكضاب:

    ـ خلاص ياجماعة بطِّلوا خلونا نشوف أخبار جو.

    وانهمر شلال الحكي. وقُلِّبت أوراق الزمان وتفاصيل التفاصيل إلى أن تحركت أحشاء شربات فقال:

    ـ إنت يا آبو البطاطيخ وين العزومة؟

    ـ عزومة بتاعة شنو؟ ‍

    ـ على إسماعيل ما قال عندك عزومة؟‍

    ـ أسمع.. أنا أبوكم!؟ والله يا هو سمنتو من فتاتنا!!

    ـ ومال إنت عايزنا نسمن من وين؟ ولا إنت عايز تكون سمين براك؟

    تدخل فريني:

    ـ والله دي غلتطتك. إنت القال ليك تبقى تاجر منو؟

    ـ تصور يا جو، ديل مفلسننا! ‍ لكين أصبروا لي. على الطلاق تدفعوها على داير المليم. لو ما هسي يوم القيامة. والله ياخولات ما أخليها ليكم أصلو.

    وضحك جو من تهديدات بطيخة الجوفاء، ثم أستدرك بطيخة أن الوقت أصبح ملائماً بعد أن أخذ أبشلخة الزيادات إلى البيت. فأمر أبشلخة بحراسة الدكان: "جيب لي المفاتيج بعدين"‍

    وعقب الغداء الدسم، خرج أولاد قرف إلى زيارة الأطلال والاستمتاع بالذكريات. وأشع الفرح من جديد على (المدينة).

    أضطر أبو خمسين أن يشايعهم في دخول الإستاد في الشوط الثاني لمشاهدة ترقيصات سيد شطة الممتعة وأهدافه الحاسمة..

    آيي ..آيي آيي آيي ..

    آيي ..آيي آيي آيي آيي..

    وأشعل أولاد قرف حماسة التشجيع في الإستاد.

    قام سيد شطة بعمل ترقيصة وباص الكرة على الجانب الشمالي الغربي من الملعب. ووقف ليلقي عليهم التحية، فحملوا جو ولوحوا به. ففرك سيد شطة عينية هو هذه المرة. ولما تأكد من هوية العلم المرفوع، ترك الملعب وسط دهشة الجمهور، وفي مصارعة عنيفة ألقى بجو أرضاً وبدأ العناق الحميم! الأمر الذي استدعى تدخل شرطة الملعب لفض المشاجرة، التي تكشف أنها لعب في لعب! ولكن النتيجة كانت أن أخذ سيد شطة كرتاً أصفر من حكم المباراة!!‍

    وفي الليل، في ديوان بطيخة، عرف جو أن على إسماعيل قد أصبح مدرس الرياضيات البديل ‍ بعد أن فشلت المدرسة في استجلاب مدرس رياضيات!!

    الأمر الذي ساق البقية أن يختاروا المساق (الأدبي). لكن على إسماعيل الكضاب أصر على المضي لتحقيق حلمه في أن يصبح مهندساً حقيقاً بدلاً من هندسة ألاعيب وتكيتكات أولاد قرف. وكان هذا دليلاً على الفوضى التي باتت تنعم بها المدرسة، خاصة بعد ذهاب أستاذ الذرة. فأصبح، بالتالي، لا غضاضة من بقية الفوضات.

    في صباح اليوم التالي، ذهبوا إلى زيارة فتحية أخت جو، ودخلوا المدرسة الأميرية ـ هذه المرة ـ كفاتحين وليس متلصصين من وراء الأسوار (بلا حجج مقنعة) كما كان يحدث في أيام مضت.

    وبعد فتحية، قالوا يا دجاج بت النور جاء أجلك، فامتطوا صهوة لوري حاج عمر إلى أم شقايق، محتقبين معهم (جوز كوتشينة).

    وهناك أقاموا معسكراً للهرج والمرج. وهرسوا عظام دجاج القرية كلها وليس دجاج بت النور وحده. ورقصوا في ساحات القرية ووقعوا في غرام القرويات بنات خالات علي إسماعيل وجو.

    وقد كانت المجادلات حول الأسعار سبباً حقيقياً لنشوء صداقة بين الحاج عثمان سنين وبطيخة (كبير التجار). وقد كانت بت النور سعيدة كأم عريس، إلا أنه بقى (شيء) في نفس عثمان سنين؛ فهو كان يرجو أن يحقق جو أمله بأن يصبح (ظابط) كبير مثل (المسؤلين)، الذين تذهب القرية بدلاليكها لإستقبالهم في زياراتهم التي كانوا يقومون بها مرة بعد مرة، ليلقوا بالوعود للناس. أو على الأقل أن يصبح مثل خاله عبد الرحمن النور. وبرزت سيرة (أولاد خاله) ووالدتهم. ولكن جو رد بأنه لم يلتق بهم. ولم يبحث عنهم. فلامه حاج عثمان على ذلك "فهم أهلك!". ولكن بت النور رأت صحة موقف إبنها باعتبار أن هؤلاء قد تخلوا عنهم. فأكثر من عشرين سنة مرت "لا المره ولا أولادها" زاروهم بالرغم من أنها تكبدت المشاق وزارتهم مرتين. إلا أن جو اقتنع بخطأ موقفه. ووعد بأن يبحث عنهم عقب عودته بعد أن عرف ـ بصفة غير مؤكدة ـ أنهم يسكنون بحري القديمة.

    بعد عشرة أيام، عاد أولاد قرف إلى المدينة، قضى جو يومين أحلى ما فيهما لحظة التجول في المساء وعبور الجسر، وأحزن ما فيهما اختفاء آثار قبور رينقو ورفاقه!! ‍

    وطبعاً عرف جو بحكاية شربات مع أنهار. وصعق وهو يستمع إلى خبر إنتقال أنهار إلى ديار الحبيب!

    وقبل أن تصل رسائل أنهار إلى شربات وأن يستلم جو الرسالة المفرحة، وبتكتكة من أولاد قرف ـ بعد أن استعادوا بعضاً من تفاصيلهم الماضية ـ كان شخص يقف بجوار أشلاك البوليس:

    ـ إنتي أنهار بشرى.. مش كدة؟

    ـ أيوة.. أهلاً وسهلاًّ!

    ـ يا ستي أنا جاي من (المدينة)، وجايب ليك الجوابات دي.

    ووصلت أنهار إلى بيتهم وهي تحمل معها باكتة أوراق الشتاءات وإيقاعات المطر. ورسالة بحجم الكراس.

    وواصلت حدائق العمر روانقها في المساءات الرحيبة. فبعد كل جولة عبر صفحتين من من المذاكرة، تتفتح أيام وأيام. وتختم جولة المذاكرة برسائل ملؤها الأرواح ونبضات القلوب. تتكفل أنهار بالبقية.





    ****





    كانت الرحلة إلى الخرطوم في هذا الموسم/الاستقلال، رحلة عمل بحق وحقيقة، وقّع فيها السيد زين العابدين عقداً مع المقاول، بعد أن سلمه مبالغاً محترماً، وشيكات مؤجلة، والتقى بود الدالابي الذي قذف هو الأخر بالمضرب الثاني:

    ـ قلت لي بتبني بيتك؟

    ـ أيوة ياخي (الحمد لله) الخطوة الأولى حتبدأ الأسبوع الجاي ـ قالها بفرح ـ وبعدين كبرنا ياخي، والأولاد كبروا كمان ولازم الواحد يأمن مستقبلهم..

    ـ أيوة صاح. لكن يا خي حكاية السكر دي أنا عندي ليها فكرة، فبدل ما تكلفوا أنفسكم ترحيل وكدة وإنت عارف الترحيل اليومين ديل بقى بالشيء الفلاني، أنا بقترح يعني تستفيدوا من حق الترحيل دة..

    مسح السيد زين العابدين صدغة بشيء من الحنكة ثم رد قائلاً:

    ـ كمِّل اقتراحك.

    ـ أنا بقول يعني إنتو تطلّعوا لينا الأوراق. وإحنا بعد داك نتصرف فيها بطريقتنا. وإنت عارف الباقي طبعا‍ً..

    ـ مفهوم.. مفهوم.

    ـ الله يفتحها عليك.. وبكدة كمان مستقبل الأولاد يبقى (أكتر) من مضمون .. وضحك

    ـ والله صدقت.

    ...

    وبعد كم أسبوع، إستلم ود الدالابي (الأوراق)، وعبرها، وبطريقته الخاصة (إياها)، صار سكر(الشرق) بالإضافة لسكر (الجنوب)، وسكر (الغرب) سكاكر (قومية)! "لا نفرق بين أحد .."!!‍ وزادت أرقام التجنيب أصفاراً أخرى!!

    لكن شيخ الطريقة هناك رأي أن الأمر بدأ يفلت منه فحرك أياديه الخفية:

    كان السيد زي العابدين، في آخر النهار، جالساً في مكتبه يقلب صفحات المسقبل والأرقام في خياله، فدخل عليه ضابط المجلس:

    ـ ياه.. السيد الزعيم‍ والله أبهة! والله إنت تنفع وزير..

    ـ وزير إيه يا رجل؟.. إتفضل.. كيف (الأحوال)؟

    ـ والله سيادتك خير.. بس في حبة مشاكل كدة (مستعصية).

    ـ مشاكل؟ مشاكل شنو؟

    ـ يعني سيادتك إحنا راجعنا الحسابات.. ولقينا المسألة يعني، وإنت عارف المحافظة على النزاهة ومقدَّرات البلد واجبة.. وبعدين إنت عارف أعداء الثورة كايسين ليهم حاجة كدة ولا كدة!

    ـ طيب إنتو ما تتصرفوا؟ زي ما كنتو!!

    ـ بس المرة دي الحكاية صعبة شوية..

    ـ خلاص يا سيد ما في مشكلة. أنا حأتصرف.

    وفي اليوم التالي. أقام السيد زين العابدين (وليمة) في منزله. وقد فهم شيوخ الطريقة، بالطبع، دوافع الوليمة. وبعد أن تجشأوا وهم يرشفون القهوة البجاوية، دخل سيد زين العابدين في الموضوع مباشرة:

    ـ شوف يا شيخ حصلت بعض المشاكل كدة، وطبعاً إنتو ملاحظين إنو السكر اليومين ديل ما قاعد يجي ..

    ـ ملاحظين .. ملاحظين ‍

    ـ في الحقيقة أنا عملت صفقات كدة مع ود الدالابي في الخرطوم، للمصلحة العامة يعني ..

    ـ خلاص خلاص يا أبو الفئويات.. والله إنت بقيت راجل خطر ـ هيئ هيئ هيئ .. ضحك شيخ الطريقة.

    ـ يا جماعة ما تآخذوني..

    ـ لا. مفيش مؤاخذة ولا حاجة.. إنت بس غلطان ياخي!! كنت تكلمنا، لكين إعتبر المشكلة محلولة.

    ولما زاره الضابط فيما بعد، أكد له أن "كلو تمام التمام". وبمناسبة الحل هذه، كانت العزومة هذه المرة في بيت الضابط بعد أن تم التأكد من تبدد آخر ذرة كان يلوح بها (تاريخ أستاذ زين القديم).

    سافر شيخ الطريقة إلى الخرطوم وعاد بالضربة القاضية. وكانت في مكتب السيد (أمين المنظمات الفئوية والجماهيرية):

    ـ آها كيف أخبار الرعاية الإجتماعية؟

    ـ والله لسة، بس إحنا بصد وضع حجر الأساس ورسلنا للسيد الوزير عشان (يشرّف) المناسبة وإنت عارف.. يعني (إعلام) للمسألة .. و..

    ـ والله كويس.. فكرتني بمناسبة الإعلام دي.. أنا اليومين ديل ما شايف صلاح ابنك؟

    ـ لا نسيت أكلمك.. دة جماعتو لقوا ليهو وظيفة في البنك بتاعهم الجديد في الخرطوم.

    ـ والله عال العال.. أهي الحكاية بقت ماشة "على قدم وساق" زي ما بقولوا!

    ـ والله ربنا يا هو مزود علينا الخير و(البركة).. قلنا كويس يمشي الخرطوم. وبالمرة يشرف على البيت طبعاً أنا كلمتك إنو المقاول بدأ.. والحكاية مرقت من الأرض، وماشة لي فوق.

    ـ ماشاء الله .. ما شاء الله. والله ربنا يزيد (البركات)!

    وبمناسبة المباني دي أنا جاييك لحاجة مهمة: لكين قبلها أقول ليك حكاية الرعاية دي ما تخلو معاها الجامع والمدرسة والإجزخانة كمان؟

    ولما يجي الوزير بنضرب "عصفورين بحجر واحد"؟ ولا إنتو ناوين لمناسبات تانية براها؟ لزوم التجنيب وكدة؟ أها أها أها ضحك.

    ـ والله يمكن ..

    ـ شوف يا سيد أبو الفئويات. إنت بعد دة خليك من حكاية الحفلات والزيارات والاستقبالات دي، دي خليها لناس المجلس وأدخل في التقيل..

    قالها بجرأة الواثق، فرد عليه السيد زين العابدين:

    ـ يلاّ ورينا إقتراحاتك النيرة.. أنا عارف إنو عندك إقتراح ـ قالها بمرح.

    ـ أيوة. شوف يا سيدي ـ وأصلح عمامته ـ أنا بعد ما لاقيت ود الدالابي، أخدت منو محاضرة مفيدة جداً جداً، دة راجل داهية!!‍‍‍

    شوف يا سيدي إحنا بالإضافة لحكاية السكر دي عايزين (ندعم) الحكاية بحاجات تانية، مضمونة مية المية. وما فيها أي كدة ولا كدة. لا حسابات لا مراجعات ولا يحزنون.‍‍

    وهنا تشوق السيد زين العابدين وبدأ إدار لعابه يزيد..

    ـ شفقتنا يا أخي!

    ـ شوف سيدي. الحكاية بسيطة وقدر دة ـ ولوح بقلمه ثم واصل وهو يرمي بضحكته المرعبة:

    ـ إحنا حنبدأ بالرعاية الإجتماعية والجامع.. إنت طبعاً عارف هم بحتاجو يعني أسمنتي وسيخ وكدة؟

    ـ أيوة ..

    ـ والسيخ دة بيجيبوهو من برة؟‍

    ـ أيوة ...أيوة‍‍‍!!

    ـ والأسمنت دة عايز تصديقات؟؟

    ـ أيوة!!

    ـ خلاص، إنت مع السيد الظابط تجهزوا التصديقات وطلبات الإعفاءات من الجمارك، والباقي علينا.. وطبعاً ود الدالابي عندو ناسو في (الميناء) و (المكاتب)، وبكدة:

    ـ "الجُّوة جوة.. والبرة جوة"

    ـ "الجوة وين؟"

    ـ جُّوة!

    ـ والبرة وين؟

    ـ جُّوة!

    وهكذا، ذهبت "البنسلين يا تمرجي" إلى سلة مهملات التاريخ، بعد أن زينت حفلات الأعراس لأجيال وأجيال!!



    ***



    ـ بالله إتنين ترمس..

    إلتفت ابدللاهي إساخا ممنياً النفس بتسليك ما تبقى من ترمسه ليجد نفسه صائحاً:

    ـ أووه!! ود أُسمان!!‍ الله يسلميك ..ألله يخليك ...

    ـ كيف الحال ياخي

    ـ كويسين.. وكيف جماءة في البلد؟

    ـ والله بسلموا عليك، وبت النور مرسلة ليك كيس فول ونبق ولالوب كمان.

    ـ الله يبارك فيها. ألله يدخليها جنة..

    ـ إنشاء الله الحكاية مشت كويس في اليومين الفاتو ديل؟

    ـ وللاهي خايتو.. ألله كريم ألى مساكين.

    وحكي جو تاريخ الرحلة من أولها إلى آخرها.. ثم "شرّك" لإساخا:

    ـ أها. أخبار الجوابات شنو؟

    ـ وللاهي كان كنت آرف نلاقيك سُدفة كان جبت جواب مآي .. إشان تقرا لي.

    ـ طيب ما كان تديهو لأي واحد يقراهو ليك؟

    ـ لا .. جواب دة لازم تقريه إتِّي.

    ـ برضو ماشي.. هسي تقلاك داير تموت عشان تعرف فيهو شنو؟

    ـ وللاهي أنا قلبي تدق (بت بت بت) لاكين الهمدو للاهي..

    ومضت السيرة في الأهل والأقارب.. وأخيراً جاءت الإجابة على سؤال إساخا القديم، فعرف، بعد سنوات، أن أهل جو (المزعومين) في الخرطوم، يسكنون بحري القديمة!

    وبعد أيام، حفّت لجو، فذهب يبحث عن أقربائه.. تجول في بحري القديمة ولفها شارعاً شارعاً إلى أن عثر أخيراً على المنزل، قال الواصف:

    ـ شايف الباب اللّبني الواسع داك؟

    ـ أيوة.

    ـ بس دة ياهو بيت أستاذة منيرة وأولادها.

    (وكان البيت أبهة تماماً)، فتساءل جو:

    "ما نوع أقربائي يا سيد ماركس؟"

    فجاءته الإجابة:

    "والله أعتقد أنهم البرجوازية الإعتباطية"!

    !!!

    كو.. كو.. كو، نقر جو الباب.

    فجو لم يتعود بعد على الأجراس الكهربائية!

    ظهرت الخادمة:

    ـ أيوة؟!

    ـ دة بيت ناس ماجد عبد الرحمن؟

    ـ أيوة. بس ماجد في الجامعة!

    ـ وبجي متين؟

    ـ والله مرات دة بجي في نص الأسبوع.. بس هو قاعد في الداخلية. لكين يوم الخميس دايماً بجي.

    ـ طيب في منو في البيت؟

    ـ في (ستي) سهى.

    (أحتج جو في داخله على "ستي" هذه)!

    ـ خلاص، قولي ليها في واحد قريبكم عايزك.

    دخلت الخادمة وتركته واقفاً عل الباب! ولكنه قدّر موقفها، فهي تعرف كل أقرباء (أسيادها). وسمع حوارها مع الست سهى.

    ـ في واحد كدة قال قريبكم؟!

    ـ وإنتي يا مغفلة قرايبنا ما بتعرفيهم؟

    (قام جو بضم الخادمة إلي لستة قرف)!

    ـ والله هو قال كدة!!

    ـ أمشي قولي ليهو.. ولا خليك كدة أشوف حكايتو!!

    وخرجت من الحجرة وهي لم تكمل هندامها. بدت لها ملامحه غريبة، لكنها ـ بالرغم من ذلك ـ ذكرتها بـ(شيء)!

    ـ أهلاً وسهلاً.. إتفضل ..

    ـ الله يسلمك. شكرا.

    وفي الطريق إلى الديوان صاحت الست سهى:

    "يا عوضية ..جيبي (موية)"

    ـ أنا جو.. آ.. أقصد جومو.. أنا...

    ـ إنت منو؟!

    ـ أنا ود عمتك بت النور أخت أبوك.

    ـ والله!! أهلاً وسهلاً.

    ولما قامت لتنظر إلى صورة والدها المؤطرة، المعلقة على الجدران، قارن هو بينها وبين فتحية ولكنه لم يجد مجالاً لذلك. عاد من مقارنتها وعادت هي من مقارنته:

    ـ أهلاً وسهلاً.. وإنت جيت هنا متين؟

    ـ والله أنا طولت هنا، لكين قبل فترة كدة كنت في البلد. والأهل يسلموا عليكم.

    ـ الله يسلمن.. وإنت هنا ساكن وين؟

    ـ والله قاعد مع واحد صاحبنا في الديم ـ قال، ثم أضاف ـ وماجد قالوا في الجامعة؟

    ـ أيوة.. هو في كلية الصيدلة..

    ـ ووين خالتي منيرة؟

    ـ والله بتجي هسي، بس عن إذنك.. أنا كنت مارقة، عندي مشوار.. إنت إنتظر، ماما بتجي هسي، ونادت:

    ـ عوضية ..جيبي (عصير) للضيف.

    ـ أسمعي. الظاهر أنا جيت في وكت ما مناسب! أنا أمشي وأجي مرة تانية؟

    ـ لا ما فيش حاجة. انتظر ماما بتجي بعد شوية.

    وخرجت وتركته جالساً مثل الفأر. يتأمل وينظر في (ديكور) الديوان! ويقلب في ذهنه (نظرية الأهل)، فقال لنفسه "هذه مسألة هلامية، وبت النور عندها حق. فهذه البنت فعلاً غريبة" وظل يطارد أفكاراً يحاول أن يتصور فيها كيف يفكر فيهم هؤلاء الأهل.. و... و... إلى أن جاءت الست منيرة وتكررت نفس الأسئلة. ومضى في النهاية بانطباعه الأول.

    أما هناك ـ في كلية الصيدلة ـ فكانت المسألة مختلفة، فقد كان ماجد عبد الرحمن أكثر حميمية:

    ـ يا إبن عمتي.

    ـ يا إبن خالي.

    ـ والله أنا كنت مفكر أزوركم بمجرد ما أتخرج.. ما تتصور أنا مشتاق لـ(الريف ) كيف؟؟

    وكان ماجد عبد الرحمن منجذباً فعلاً للحكايات التي كانت تحكي له عن (الريف) وأهله (الطيبين). والمسألة طبعاً ذات دوافع (سياحية) في الأساس! وها هو يجد (الدليل السياحي) في إبطه!

    وبعد لقاء لقاءين فتحت الصحبة نوافذ الحكي، وصار لجو بيت (فاره) يعمل (خيانات) ويترك ديكور وحيداً ـ خاصة في أيام الخميسات والجمعات. وكانت المجادلات أحياناً تطول في الجامعة، فيذهب جو مع ماجد إلى الداخلية.. وهناك في (حسيب والرازي ) ظهرت السياسة مرة أخرى: ففي ليلة، وبعد الواحدة والنصف صباحاً لما خف إزعاج الطلبة وقلت الحركة بين الغرف؛

    "هاك يا إبن عمتي أقرا دة" ..












                  

العنوان الكاتب Date
ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-23-04, 05:16 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل فتحي الصديق03-23-04, 08:35 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-23-04, 10:19 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل mutwakil toum03-24-04, 07:41 AM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 08:28 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل ابو فاطمه03-24-04, 07:45 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل فتحي الصديق03-24-04, 12:39 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 11:44 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Mohamed Bang03-24-04, 09:13 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل tariq03-24-04, 10:30 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Mohamed Bang03-24-04, 10:59 PM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-25-04, 03:57 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Nada Amin03-24-04, 10:56 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 11:39 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-25-04, 04:43 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل عبدالسلام الخبير03-25-04, 06:30 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل zozo03-25-04, 09:53 AM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-25-04, 05:03 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 00:47 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 01:15 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 01:24 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل ابو فاطمه03-26-04, 08:35 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-26-04, 05:30 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل عبدالسلام الخبير03-27-04, 04:20 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-27-04, 05:18 AM
  السلام عليكم توما03-27-04, 10:19 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:08 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:17 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:33 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:38 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:42 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-28-04, 06:58 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-29-04, 05:10 PM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-30-04, 03:29 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de