|
غنوا للمقابر قبل أن تغنوا للسلام!! : ممدوح المهيني
|
السياسي يعلق قلماً رمادي الحبر في جيب قميصه. وأكثر لعبة يعشقها ويجيدها في معمل الحياة هي لعبة القص واللزق وهو يكره الألوان الزيتية الفاقعة بعكس الفنان الحقيقي الذي لا يوجد في علبة ألوانه إلا الألوان الفاقعة التي لا يتعامل معها بالريشة بل يسكبها لتندلق على سطح الحياة فاضحة كاشفة لمواقفه من دون مداورة أو تمويه.
السياسي يتعامل مع الإنسان عبر أكثر من عدسة، عدسات سياسية واقتصادية واجتماعية ودبلوماسية.. أنه يذهب للمؤتمرات ويحضر الاجتماعات وترن في أذنه أصوات الأوامر الحادة وتحذيرات التنازلات وفي حقيبته قائمة بالاشتراطات وخريطة الأماكن الملغمة التي يحذر الدوس عليها. لذلك يبدو قاسي القلب ويهرول في حديثه عندما يصل الأمر عند القضاياالإنسانية.
أما الفنان فعمله لا يغادر فضاء الإنسان، يغني لعشقه ويبكي لحزنه ويتألم لجوعه ويرقص لطيشه.
والفنان سريع النسيان ينسى مشكلاته الأسرية وأزماته الاقتصادية ويظل يغني للإنسان بمعناه الكوني الكبير متجرداً من أي تقوقعات وتحزبات وتقسيمات وانتماءات.
وعندما يذهب الفنان لحفلة أو مسرحية فإنه يذوب في عمله ولا يتطلع بعيون دبلوماسية إلى وجوه الحاضرين ليرصد من عقد حاجبية أو مط شفتيه.
إنه يدخل في عجلة الحقيقة التي يريد أن يدحرجها أمام المشاهدين ولا يفكر إن كانت دهست في طريقها مناطق محذورة في نظر تيارات أو أحزاب أو معسكرات مختلفة.
الفنانون العرب أكثر تسيساً من السياسيين وأكثر قدرة على وزن الكلام ويقذفون مواقفهم وهي مرقطة بجميع الألوان لذلك يخرج الجميع وهو راضون ويصفقون ويظل الفنان هو الخاسر الوحيد.
إنه يخرج بجسد مجوف لا تملأه جميع كلمات الاطراء التي تدهن أذنه وهو يعلم أن هذا الاطراء لم يتم إلا بعد ما أجرى مقايضة دقيقة جداً. إنه يوقف جميع أرصدته الإنسانية والأخلاقية من أجل أن ترتفع أرصدته المالية.
السياسيون الذين دانوا المقابر الجماعية التي اكتشفت في العراق تخلوا عن القلم الرمادي الذي يكتبون به آراءهم وخطاباتهم. إن الأمر لم يعد موضوعاً سياسياً بل القضية كانت مجازر وحشية لا يستطيع أن يقوم بها قطيع من الذئاب المسعورة.
إن الدماء والجماجم و الأجساد المقطعة لا ينفع معها الحديث الدبلوماسي و المخاتل. أن الخطابات الدبلوماسية التي تتلى على أجساد الأطفال والنساء لهي جريمة تعادل جرم القتل. الفنان العراقي كاظم الساهر لم يشر ولو بشكل بسيط إلى ادانة هذه الجرائم الهمجية.
استطاع أن يرتدي جلد الثعلب وأخذ يطلق في جميع حواراته إجابات عامة لا تفيد بأي شيء ولا تعلن عن أي موقف، فقط كلام عن بغداد الجميلة، بغداد الجريحة وليس ثمة حديث عن بغداد المبذورة بالجماجم المهشمة. رغدة ما زالت حزينة على سقوط النظام السابق ولم تخدش ضميرها كل الجرائد وكل آلات التعذيب.
لماذا تصمت السيدة فيروز عن الاعتراض بأي ادانة بحق البشر الذين غنت لهم ولأوجاعهم وصفقوا لها وطاردوها ليحضروا حفلاتها ثم أتتهم في الليل شياطين بوليسية كدستهم في باصات تحركت بهم إلى آخر نزهة برية لهم في الكون.
لماذا صمت ابنها زياد الرحباني الذي يحلم بأن يواسي بين الفلاح ورئيس الدولة على جميع صرخات الموت وانات التعذيب في المعتقلات التي ما زالت تطوف في سماء بغداد والبصرة والمحلويل.
عندما اعترضا جورج مايكل و مايكل مور على الحرب على العراق ووجها نقد شديد لرئيس بلديهما بلير وبوش كانت الأخلاق تحركهم وأحاسيسهم الإنسانية النقية من أي تعصب تجعلهم يصرخون بأصوات عالية معترضة على أي قطرة دم بريئة تراق من أجل جشع السياسة. مؤخراً في بيروت غنى كاظم مع المغنية الإنجليزية سارة برايتمان أغنية عن السلام.
إنه يجب أن نكشف أن السلام الذي يغنيه الفنانون هو سلام مزيف وملطلخ بالدماء، كيف يكون هناك غناء حقيقي للسلام وأقدام الفنانين تتعثر بالعظام ولا ينطقون بحرف معترض باكي.؟ وهل يمكن لو غنوا للسلام والهواء معبأ برائحة الدم أن يتم التفريق بعد ذلك بين الحرب والظلم والقهر والمجازر وبين السلام الذي سيغطي كل هذه المآسي؟
وهل يمكن الثقة بفنانين يغنون للسلام بأصوات ممزقة وهم الذين لم يبدوا أي أسف ولم تفر من أعينهم أي دمعة على الآلاف الجثث التي لم تدفن بطريقة كريمة ولم يصرخوا باكين ومعترضين بل وشامتين الهجمية والوحشية التي ضخمت آلات فرم البطاطا لتصبح صالحة لفرم البشر؟!! غنوا للأرواح المظلومة التي تحوم في السماء، غنوا لصرخات الرعب التي سبقت أصوات الطلقات التي يلتهمها صمت الصحراء، غنوا للمقابر، للأظافر التي نبشتها، غنوا لوجوه العجائز التي تخشبت حزناً على أبنائها الذين قتلوا أمام أعينها، غنوا لبقايا اللحم التي لفظتها أسماك القرش في قيعان البحار المظلمة غنوا لكل ذلك وبعد ذلك غنوا للسلام!!.
نقلا عن موقع http://www.shakoomakoo.com/
|
|
|
|
|
|