عادة أبتدر صباحات ذلك الزمن البهيج قبل الشروق.. برؤيتة واقفاً عند زاوية مبنى البوستة.. طويلاً مهيباً.. شاهق السواد.. يخالط سواد لونه زرقة ندية.. لا أحد يعلم من أين يأتي.. كثيرون يقولون أنه ينبت هكذا.. من اللّا مكان.. فمهما أبكرت تجده هناك دائماً.. بيده حزمة من الفلسكاب وطوابع البريد.. وعلى استعداد مقابل «شلن» فضيّ جعل سيارتك تتلألأ نظافة.. وعندما أقف بإنتظار حافلة المدرسة.. أمد بصري خلسة.. اتأمل تلك النقوش التي تكسو وجهه وذراعيه.. وأعجب كم هي دقيقة ومتقنة وعلى عكس المتوقع تزيد في جماله ووسامته.. كنت أجده مدهشاً.. ببنطاله القصير وقميصه الابيض المفتوح دائماً ليفاخر برسم العذراء على قميصه الداخلي.. وذلك الصليب العاجيّ الدقيق يتدلي على صدره.. وعند عودتي ظهراً ألمح ظهره منكفئاً علي تمطير العماري في الرواق المقابل للبريد.. أما المساءات فتلك مفردة لصالة السينما الوطنية.. كنا أبناء الحي خصوصاً نحن الصغار نحصل على أفضل المقاعد.. والحماية.. كان يعرفنا جميعا إن لم يكن بالإسم فبالسمات.. مضى زمان وفارقنا ذلك الحيّ وغاب عن ذاكرتي خيال دينج اليومي.. في كلية الفنون.. إعتدنا أن نحضر إلى قاعة التشريح نهارات السبت من كل أسبوع.. ذات صباح من تلك الإصباحات المألوفة.. كنت أول الواردين.. سألني المحاضر أن أعين على تحضير المكان.. كنت تعودت مداعبة الموت واللعب بانسجته.. حد أن الأدرينالين ما عاد يفعل فعله في إثارة الحواس.. في الضوء الشحيح لا أدري ما جعلني أنحني متأملاً ذلك الساكن تحت السائل الكثيف.. رغم كراهتي لرائحة الفورمالين.. مددت يدي ألامس النتوءات في ذلك الوجه القديم.. ثم خرجت ولم أعد أبدا..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
طيفور
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست