|
الصلاة الوسطى والمجتمع الصالح والعالم الجديد
|
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : ( حافظوا على الصلوات ، والصلاة الوسطى ، وقوموا لله قانتين ) صدق الله العظيم ولقد فسر المفسرون من السلف (الصلاة الوسطى) بأنها صلاة العصر ، ومنهم من قال أنها صلاة الفجر ، إلخ إلخ ، ولا تثريب على هؤلاء المفسرين ، في تقديري ، لأنهم إنما يفسرون حسب حكم وقتهم .. فإذا جئنا إلى الفهم السليم للقرآن ، والذي لم يكن شرحه لعامة الناس متاحاً ، ولا ممكناً ، ولا مأذوناً ، إلاّ في العصر الحديث ، نجد أن صلاة العصر ، وصلاة الفجر ، وكافة الصلوات المعروفة ، مشمولة جميعاً في قوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات ) .. وأما قوله تعالى : ( والصلاة الوسطى ) فيشير إلى أمر آخر ، فماهو ؟؟ .. أو بعبارة أخرى : ما هي الصلاة الوسطى ؟؟ بالرجوع إلى أقوال الأستاذ محمود محمد طه ، في كتبه ، وفي محاضراته ، حسب فهمي المتواضع لها ، نجد أن هناك حضرتان : حضرة الإحرام ، وحضرة السلام ، فأما حضرة الإحرام فهي الصلاة المعروفة ، وتبدأ بتكبيرة الإحرام ، وتنتهي بعبارة ( السلام عليكم ) .. أي أنها تبدأ بالإحرام وتنتهي بالسلام .. وأما حضرة السلام فهي الفترة بين الصلاتين ، وتبدأ بعبارة ( السلام عليكم ) التي انتهت بها الصلاة السابقة ، وتنتهي بتكبيرة الإحرام للصلاة المقبلة .. أي أنها تبدأ بالسلام وتنتهي بالإحرام .. فهي الفترة بين كل صلاة وأخرى ، وتلك هي الحياة اليومية .. فحضرة السلام تشمل الحياة كلها ، في الفترة بين الصلوات .. فما هي واجبات حضرة السلام ؟؟ .. واجبات هذه الحضرة مشمولة في الحديث النبوي الشريف : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) على أن نفهم الحديث على الوجه الصحيح بحيث يكون معناه أن المسلم ، بالمعنى الخاص ، هو من سلم المسلمون ، بالمعنى العام ، من لسانه ويده .. فمن هو المسلم بالمعنى الخاص ومن هم المسلمون بالمعنى العام ؟؟ . المسلمون بالمعنى العام هم جميع الكائنات ـ الأحياء والأشياء ـ قال تعالى في ذلك : ( أفغير دين الله يبغون ؟؟ وله أسلم من في السموات والأرض ، طوعاً وكرهاً ، وإليه يُرجَعون ) .. فالخلق جميعاً مسلمون لله تعالى ، وذلك بمعنى خضوعهم للإرادة الإلهية المهيمنة ، والتي سيرت العناصر تسييراً مباشراً ، وذلك بالقهر الإرادي المباشر للعناصر .. ثم سيرت الكائنات الحية ، ممن دون البشر ، تسييراً شبه مباشر ، وذلك عن طريق إرادة الحياة .. ثم سيرت البشر ، تسييراً غير مباشر ، وذلك عن طريق إرادة الحرية .. فالخلق إذاً مسلمون لله تعالى ، بخضوعهم لإرادته كرهاً ، وذلك هو اسلام الأجساد ، وهو الموصوف بعبارة ( كرهاً ) في الآية السابقة .. وهناك من هو مسلم بالمعنى الخاص للإسلام ، وهو تسليم الإنسان العارف بالله للإرادة الإلهية طوعاً ، وهو مدرك وعالم باسلامه لله ، وذلك هو إسلام العقول ، وهو الموصوف بعبارة ( طوعاً ) في الآية السابقة .. والمسلمون طوعاً حتى اليوم هم أقلية من الناس .. والإسلام الطوعي هو دين الله المشار إليه بعبارة ( أفغير دين الله يبغون ؟؟) من الآية السابقة .. وهو الإستسلام الراضي بالله رباً .. وفي هذا الإسلام الطوعي ، وهو إسلام العقول كما أسلفنا ، يجي قوله تعالى : ( ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله ، وهو محسن ، وأتبع ملة ابراهيم حنيفاً ، وأتخذ الله ابراهيم خليلا ) .. وروح هذه الآية في عبارة : ( وهو محسن ) لأنها تعني : وهو مدرك ، أو قل : وهو عالم ، بإسلام وجهه لله .. وذلك هو الإسلام الأعلى ، في مقابلة الإسلام الأدنى .. والإسلام الأدنى هو الإسلام الإبتدائي الذي به يتم الدخول في ملة الإسلام ، وهو أداء الأركان الخمسة المعروفة ، وهو بمثابة بداية من بدايات الطريق نحو الإسلام الأعلى ، وهذا الأخير هو الإستسلام لله ، والسير خلفه ، مع الرضا به رباً ، رحيماً ، ودوداً ، مدبراً لشئوننا ، وأولى بنا من أنفسنا .. ومن حقائق الدين أن قوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) .. وقوله تعالى : ( ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين ) .. يشيران بالأصالة إلى الإسلام الأعلى ، الذي يعني الإستسلام الراضي بالله رباً ، لأنه الإسلام القيم المعتبر عند الله ، ولا يشيران إلى الإسلام الإبتدائي ، إلاّ في معنى ما هو وسيلة إلى الإسلام الأعلى .. والإسلام الأعلى ، بمعنى الإستسلام لله تعالى ، هو دين الفطرة ، وهو الدين القيم ، الذي قال تعالى عنه : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ) صدق الله العظيم . ولنعد الآن إلى الصلاة الوسطى ، فقد ذكرنا فيما سلف أعلاه أن حضرة السلام واجباتها أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك ، وقلنا أن المسلمين هم جميع المخلوقات ـ الأحياء والأشياء ـ وذلك في القمة .. وأما في مستوى أدنى فالمسلمون هم جميع الأحياء ، من بشر وحيوان ونبات .. فواجبك في حضرة السلام أن يسلم كل الأحياء من لسانك ويدك .. فكيف يكون ذلك ؟؟ .. فأما البشر فإن واجبك أن تعيش معهم في سلام ، بمختلف ألوانهم وأديانهم وأجناسهم .. وذلك بأن تحسن التعامل معهم ، على قاعدة الحديث النبوي : ( الدين المعاملة ) ، وسوف نتكلم في شرح المعاملة ، في جوانبها الثلاثة ، في وقت لاحق بإذن الله .. وأما الحيوانات فيجب الرفق بها ، وإحسان التعامل معها .. فلا يجب مثلاً قتل النمل ، كما يحدث كثيراً ، بحجة تواجده بكثرة مزعجة من حولنا ، وإنما يجب مكافحة تواجده ، عن طريق النظافة ، وإزالة بقايا الأطعمة التي تدعوه للظهور ، وكذلك الشأن بالنسبة للذباب ، ولسائر الحشرات .. ولا يجب السماح للأطفال بقتل النمل ، أو إساءة التعامل مع القطط ، أو غيرهما من الحيوانات ، وإنما يجب تعليم الأطفال وتعويدهم على إحسان التعامل مع الحيوانات .. وأما النباتات فيجب أيضاً إحسان التعامل معها ، وعدم نزع أغصانها أو أوراقها ، بغير حق ، وبغير داع ، وإذا كانت من النباتات المثمرة ، فيجب أخذ ثمرتها في رفق ، دونما عنف ، ويجب أيضاً حمل الأطفال على إحسان التعامل مع النباتات . فحضرة السلام إذن هي ، في قمتها ، أن تعيش في سلام مع الأحياء والأشياء .. وسأحاول في وقت لاحق أن أتكلم عن إحسان التعامل مع الأشياء ، ومن أمثلته عدم إغلاق الباب في عنف ، ولكن الذي يهمني هنا هو المستوى الأدنى من حضرة السلام ، وهو إحسان التعامل مع الأحياء ، من بشر وحيوان ونبات ، مما سلف الحديث عنه .. فحضرة السلام إذن هي المعاملة التي ورد عنها الحديث النبوي : ( الدين المعاملة ) فهو لم يقل : الدين العبادة ، وإنما قال : ( الدين المعاملة ) .. وذلك لأن العبادة وسيلة ، والمعاملة ثمرة .. المعاملة هي ثمرة العبادة .. فبقدر ما تكون المعاملة حسنة ، بقدر ما تدل على صحة العبادة .. فلا يمكن تجويد المعاملة إلاّ بتجويد العبادة .. والعبادة هي الصلوات ، وهي حضرة الإحرام ، والمعاملة هي حضرة السلام ، وهي هي الصلاة الوسطى ، وقد سميت وسطى لأنها تقع دائماً بين صلاتين كما سلف البيان .. والدعوة إلى المنهاج النبوي ، في العبادة والمعاملة ، هي دعوة إلى تقليد النبي الكريم في تجويد العبادة ـ الصلوات ـ بالصورة التي تؤدي إلى تقليده في تجويد المعاملة ـ الصلاة الوسطى ـ كما هو مشروح في كتيب (طريق محمد) للأستاذ محمود .. وللمعاملة الحسنة مع الناس ثلاثة جوانب هي : كف الأذى عن الناس ، وتحمل الأذى الصادر منهم ، وتوصيل الخير لهم ، وكل ذلك في محبة وفي إيثار .. وسأتكلم في مواصلة هذا الحديث ، فيما بعد ، في شرح جوانب المعاملة الثلاثة ، شرحاً وافياً ، كما أرجو أن أتكلم أيضاً عن علاقة الصلاة الوسطى بالمجتمع الصالح ، وهو المجتمع الذي تتحقق فيه المساويات الثلاث ، وهي : (1) المساواة السياسية ( الديمقراطية ) .. و(2) المساواة الإقتصادية ( الإشتراكية ) .. و(3) المساواة الإجتماعية ، وهي المساواة بين الرجال والنساء ، في القيمة الإجتماعية ، وأمام القانون .. والمجتمع الصالح هو الذي ينجب الأفراد الأحرار .. والحرية الفردية تبدأ بالحرية الفردية المقيدة ، وهي أن يفكر الفرد كما يريد ، وأن يقول كما يفكر ، وأن يعمل كما يقول ، على أن يتحمل مسئولية قوله وعمله أمام القانون الدستوري ، والقانون الدستوري هو القانون الذي يوفق بين حاجة الفرد إلى الحرية ، وحاجة الجماعة إلى العدالة .. ثم ترتقي الحرية الفردية ، بفضل الله ، ثم بفضل الحركة الفردية في المنهاج النبوي ، من ناحية ، والحركة الجماعية في المجتمع الصالح ، من ناحية أخرى ، إلى مستوى الحرية الفردية المطلقة ، وهي أن يفكر الفرد كما يريد ، وأن يقول كما يفكر ، وأن يعمل كما يقول ، ثم لا يكون قوله ولا عمله إلاّ خيراً وبراً بالأحياء وبالأشياء .. وبكل ذلك يتحقق العالم الجديد ، الذي قال عنه الأستاذ محمود : ( نحن نبشر بعالم جديد ، وندعو إلى سبيل تحقيقه ، ونزعم أنا نعرف ذلك السبيل معرفة عملية .. أما ذلك العالم فهو عالم يسكنه رجال ونساء ، أحرار ، قد برئت صدورهم من الغل والحقد والحسد ، وسلمت عقولهم من السخف والخرافات ، فهم في جميع أقطار هذا الكوكب متسالمون متآخون متحابون ، قد وظفوا أنفسهم لخلق الجمال في أنفسهم ، وفيما حولهم من الأحياء والأشياء ، فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب ، تسموا بهم الحياة فيه سمتاً فوق سمت ، حتى تصبح وكأنها الروضة المونقة ، تتفتح كل يوم عن جديد من الزهر ، وجديد من الثمر ) إنتهى .. ونواصل بإذن الله
|
|
|
|
|
|
|
|
|