حاوِلْ أن تفكر معي؛ رجلان يقفان أمامك، أحدهما مسافر إلى مدينة “مدني”، والآخر إلى مدينة “واشنطون”.. كيف تستطيع التمييز بينهما؟ كيف تعرف من الهيئة وظرفِ الحال أن هذا المسافر في طريقه إلى مدني والآخر إلى أمريكا؟، بالطبع؛ الإجابة سهلة، فالتمييز بينهما يعتمد على الجهة المقصودة، ليس في كونها جهة داخلية أو خارجية فحسب، بل في مطلوبات )مسافة وزمن( السفر.. فالمسافر إلى “مدنى” لا تشكِّل له رحلة الساعتين بالحافلة همًّا يقتضي ملبسا معيَّنا أو زادا أو حمل ملابس إضافية أو أية متعلقات وترتيبات تتطلبها سفرية طويلة إلى مدينةٍ في أقاصي الدنيا بأمريكا. حسنا؛ باستخدام نفس النظرية والتشابه analogy دعونا ننظر لحالنا الوطني الراهن، من شكل الدولة والحكومة والظروف والملابسات التي تحيط بالمشهد السياسي الراهن، هل نحن مسافرون إلى “مدني” أم “واشنطون”؟ أخشى أن تكون الإجابة.. “البشاقرة!” السودان بلد )غير عادي( من حيث إمكانياته وقدراته وموارده الظاهرة والباطنة، فلا يمكن أن يُدار “عاديًّا”.. بالوزارات ذاتها، والمؤسسات ذاتها، بل وحتى الحلول ذاتها.. نحن في حاجة لاستلهام تجارب دول طفرت بكل قوة وانتقلت من مصاف الدول النامية إلى فائقة النمو في غضون سنوات قليلة.. القاسم المشترك بينها أنها خرجت عن المسار العادي وركبت “الطريق السريع”. استغرقنا حوالي خمسة أشهر لنصل إلى اتفاق مع المجلس العسكري لتدشين هياكل السلطة الانتقالية، والآن نلتهم في الأيام والأسابيع في انتظار ولادة متعسِّرة لأول حكومة بعد انتصار ثورة ديسمبر المجيدة.. هل نحن في الطريق إلى “مدني” أم “واشنطون” بمقياس السرعة والإنجاز؟ الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء ينتظر قوى الحرية والتغيير لتتوافق معه على “التشكيلة”.. حسنا لا اعتراض، لكن هل “التشكيلة” هي كل “الحكومة”؟ بعبارة أخرى أين بقية المؤسسات الحتمية التي لا علاقة لها “بالتشكيلة” ويجب أن تؤسس على أفضل حال إن كنا ننوي فعلا السفر إلى “واشنطون”؟ على سبيل المثال، عندما قال “حمدوك” لزميلنا الأستاذ فيصل محمد صالح في حوارهما الرائع على شاشة قناة النيل الأزرق السبت 24 أغسطس 2019، إن السودان في حاجة لـ)8( مليار دولار خلال السنوات الانتقاليات القادمات.. ألا يجدُر أن نسأل من أين استقى “حمدوك” حسابات هذا الرقم؟ ما هو مصدر المعلومات؟ ونحن جميعنا نعلم أن بلادنا تفتقر لجهاز إحصاء حقيقي يرفد الدولة بالمعلومات الدقيقة التي يقوم عليها عماد التخطيط.. بالضرورة؛ كان الأجدر بالدكتور “حمدوك” خلال فاصل البحث عن حكومة أن يذهب إلى الجهاز المركزي للإحصاء هناك في شارع “الستين” ويبدأ منه، فهنا مطلوب خبرات أفضل من تلك التي نبحث لها عن كراسي الوزارة. مؤسستان لا يجب أن تنتظرا “التشكيلة”: المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي، والجهاز المركزي للإحصاء )والمعلومات(. إلا إذا كنا مسافرين إلى “مدني!” التيار
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة