تمر الذكرى الثالثة لوفاة الزعيم الإسلامي حسن الترابي وبلاده السودان تشهد أزمة سياسية حادة، ويظن الكثيرون أن تفاعلات هذه الأزمة كانت ستختلف كثيرا إذا ما قدّر للترابي معاصرتها. الغياب المفاجئ للدكتور الترابي الذي وافاه الأجل في الخامس من مارس 2016، أربك الساحة السياسية السودانية بل امتد الإرباك وتعدى النطاق الجيوسياسي للسودان. لقد ظل الترابي فاعلا ومؤثرا في السودان منذ أن برز على الساحة السياسية في ثورة أكتوبر الشعبية في العام ١٩٦٤م. وكان حزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي أشرس الأحزاب المعارضة لحكومة البشير، وشكل الحزب صداعا مستديما منذ تأسيسه في 1999 عقب ما عرف بالمفاصلة بين البشير والترابي قبل نحو عقدين من الزمان. لكن قبل عامين من وفاته استطاع الترابي بشخصيته الكاريزمية الطاغية أن يوجه أشرعة سفينة السياسة السودانية المحاصرة بالعواصف والأمواج المتلاطمة في اتجاه رياح الحوار الوطني وكانت تلك أول محاولة تبدو جادة لاختراق الأفق السياسي المسدود باستئثار المؤتمر الوطني الحاكم بالسلطة وانفراده بها، وقد استجاب مكرها لبعض متطلبات الحوار تحت ضغط ديناميكية وفاعلية مشاركة الترابي وحزبه. ويبدو أن غيابه قد أثر سلبا على التزام الحكومة بمقررات ذلك الحوار الذي كان من الممكن أن يجنب البلاد الأزمة الراهنة. إن الذي ميّز الترابي على جميع أقرانه أنه كان مصنعا متحركا للأفكار والرؤى الجديدة، وقد أخذ على عاتقه استخدام أدوات العقل والعلم لتحريك كل راكد وساكن من المفاهيم والقضايا ليؤكد شمولية الإسلام وقدرة الأمة على تجاوز التحديات الماثلة. ليس ذلك فحسب بل إن البعض ذهب إلى أن الرجل تمكن من تغيير أولويات النخبة السودانية المثقفة، وفرض نمطا جديدا لحياة بني وطنه، الأمر الذي شكّل صدمة لمناوئيه شخوصا ومؤسسات وحكومات، فناصبوه العداء. كان الترابي شجاعا في انتقاد نظام حكم البشير وعاب كثيرا انحسار الشورى وانفراد قلة قليلة بالقرارات حتى أصبحت تجربة الحكم أقرب إلى الحكم الشمولي. كما ظل ينتقد عدم فاعلية مؤسسات الحكم، والتي غدت شكلا ديكوريا لا أكثر. فضلا عن انتقاده لطغيان الأجهزة الأمنية على الأجهزة السياسية وتدخلها في الأجهزة التنفيذية وتحول الدولة لدولة بوليسية شعارها العصا لمن عصا. وقد كان سبب الخلاف بين البشير والترابي مساعي الترابي لرفد الدستور حين كان رئيسا للبرلمان، بإضافات وتعديلات ديمقراطية، مثل انتخاب حكام الولايات عوضا عن تعيينهم، وهو ما رفضه البشير. وللترابي مشروع سياسي مبتكر لم يمهله الموت لإكماله؛ وهو مشروع سماه "المنظومة الخالفة المتجددة" وهو مصطلح جديد ينم عن تبحر الرجل في اللغة العربية، فضلا عن غوصه عميقا في الفكر السياسي. ولقد أحدث هذا المصطلح كثيرا من الجدل كما أحدث من قبل مصطلح (التوالي السياسي) الذي طرحه في العام 1998 لتعديل الدستور. وتقوم هذه المنظومة على تذويب التيارات ذات الخلفيات الإسلامية في حزب أو كيان واحد وفي إطار شراكة سياسية جديدة. هذا الحزب أو الكيان منوط به قيادة أهل السودان في كافة المجالات الحياتية من سياسة واقتصاد واجتماع وفن ورياض، على أسس المواطنة لا القبلية أو الجهوية أو العنصرية. لا شك أن مجمل الوضع السياسي في السوداني خسر كثيرا بغياب رجل مثل الترابي وهو في حقيقة الأمر مدرسة لها امتدادها السياسي والفكري والتنظيمي. صحيح أن الرهان يجب أن يكون على هذه المدرسة، لكن هذه المدرسة تحتاج لتلاميذ نجباء يحملون رايتها ولا يبدو على السطح أن أيا من هؤلاء التلاميذ قد برز . ربما كثيرة هي المراثي التي تأبى إلا أن تتدفق حبا وربما هياما في مآثر ذلك الرجل الذي أبدع بشهادة خصومه قبل مواليه ومحبيه والمتبعين لفكره، بيد أن المطلوب ليس التسابق على إظهار حسرة الفقد ولكن المطلوب عصف ذهني يُعمل أدوات الدراسة النقدية والتقويمية لإرث وفكر الرجل الذي تركه من خلفه.
العنوان
الكاتب
Date
الترابي.. مصنع الأفكار المتحرك بقلم د. ياسر محجوب الحسين
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة